صفحات الناس

الصلبْ بعد الحرية/ دلال البزري

 

 

الصورة أبلغ من كل شيء: على الصفحة الأولى من صحيفة عربية، وعلى امتداد عرضها كله تقريباً، ترى خشبة تعتلي الأرض، وفوقها خمس رجال مصلوبين، بطريقة بدائية، أرجلهم فالتة من الربط، وأياديهم مربوطة بخشبة الصليب، قُتلوا ربما قبل أن يُصلبوا، واحد منهم مربوط بيد واحدة والأخرى مثقلة بجسمه المقتول. في إحدى زوايا “المسرح” هذا، يرقد رجل سادس، مقتول هو الآخر، دماؤه تغطي صدره، نصفه يتدلّى على الأرض، ونصفه الآخر مرْمي على الخشبة. وفي الخلفية مارة يبدون غير مكترثين، أو خائفين من المشهد، يواصلون سيرهم على أقدامهم؛ كأن المصلوبين هؤلاء غرباء أو غير مرئيين، أو كأنهم تعودوا على الصلب… هذه الصورة وزعها “داعش” على الإعلام، قبل أن يصبح “دولة الخلافة”؛ ومع الصورة بيان يؤكد بأن التنظيم فعلاً صلب ثمانية أشخاص، جزاء لهم على جرائمهم…

ماذا يريد الداعشيون أن يقولوا لنا، بهذين الصورة والبيان؟

أولا، أدخلوا عقوبة الصلبْ من خارج فهرس العقوبات المعتمدة لديهم؛ خرجوا عن الحدود “الشرعية” من جلد ورجم وبتر أطراف، وكرسوا الصلب بصفته بنداً إضافياً في برنامجهم العقابي الواسع. عقوبة على ماذا؟ تريد أن تعرف. البيان يوضح لنا، على طريقته غير الدقيقة: ثمانية صلبوا، وهم من “المعارضة” السورية، لـ”شدة اعتدالهم”، والتاسع لأنه أدلى بشهادة كاذبة، ولم يصلب سوى ثماني ساعات، وبعد ذلك أُنزِل من الصليب وأعيد إلى حياته الطبيعية (شكراً على الرحمة!). هل تفهم بأن عقوبة الصلبْ هي جزاء من لا يكون على “الخط السياسي” لداعش”؟ بمعنى أن يروا مواطناً ليس متحمساً بما فيه الكفاية لبرنامجهم العقابي، يكون مصيره الصلب؟ ماذا عن عقوبة غير الصائم؟ أو مدخن السجائر؟ أو غير المشارك في واحدة من الصلوات الخمس التي تدير أيامها خلافة داعش الإسلامية قصراً؟

أول ما يتبادر إلى ذهنك ان القصد من كل ذلك تخويفنا من داعش، ومن أن الذي لا يقف معها سوف يلاقي أبشع العقوبات. قصده تدمير مجتمعاتنا ودولنا. أو الشيء القليل الذي بقي واقفا على رجليه. ولكن إذا تأملت بالصورة التي وزعها التنظيم، فضلاً عن البيان، وما سبق كل ذلك من أخبار الفظائع التي يرتكبها الداعشيون، فسوف تلاحظ شيئاً آخر: ان المجتمع الذي رسا فيه داعش هو أصلا مجتمع مدمَّر، ودولته قبله. إنهيار الإثنين هو الذي أفسح الطريق أمام داعش.

داعش هو نتيجة تدمير المجتمع، وليس العكس. تدمير قوانينه وعيشه وتقاليده ورحمته وقسوته ومدنيته.

ذلك أن اعتماد الصلبْ كواحد من بنود البرنامج العقابي لداعش، يحمل في طياته قولاً دفيناً: نحن لا نريد العودة إلى الإسلام، كما فهمتم، ولا إلى الجاهلية طبعاً، طالما أننا متعصبون ضدها بحكم السليقة الدينية، إنما نحن نريد العودة إلى عصر العبودية، الما قبل تاريخي، عندما كان الإنسان وحشاً معلناً لأخيه الإنسان، عندما كانت عقوبة توقه للحرية هي الصلبْ. عودة إلى عصر العبودية بأشكالها الصريحة في معاداتها للإنسانية. هذا ما ينتظركم أيها المسلمون: تريدون الحرية؟ إليكم الصلبْ. (ودعم هذه الفكرة يأتي من الأخوة في الإيمان النيجيريين، قادة تنظيم “بوكو حرام” الذي سوف يقيم معه علاقات ديبلوماسية عندما تستقر الخلافاتان، المشرقية والنيجرية. فالتنظيم خطف حتى الآن مئات من الصبايا من مدارسهن وأعلن عن وضعهن في سوق العبيد، بغية الخدمة والزواج، بعشرة دولارات الواحدة. إنتظر بعد حين أن ترى شيئاً شبيهاً على يد داعش، طالما انه، مع “بوكو حرام”، يغرف من “المرجعية” والنشأة ذاتهما).

هل قتل رجال داعش المصلوبين قبل أن يصلبوهم؟ أم إنهم فعلوا بهم كما فعل الرومان بالمسيح، تركوهم يموتون على صليبهم؟ وفي الحالتين، رموا جثثمهم في الهواء الطلق، يموتون من نقرات الغربان للحمهم؟ مهما كان الجواب، وسوف نحصل عليه بعد حين، فان هؤلاء المسلمين الأشاوس يناقضون أبسط قواعد الموت لدى المسلمين، يخرقون حرمته بما لذ لهم وطاب من غلّ وشراسة. الموت في الإسلام، كما في كل الأديان، الإبراهيمية منها وغير الإبراهيمية، وحتى عند الملاحدة، له رهبته واحترامه. للميت فيها حق بالصلاة والدفن أو الحرق؛ أما مع الصلبْ، خصوصا مع الصلبْ، فان الإنسان يموت بأرذل مما يموت فيه الحيوان. القتل بالصلب هو ذروة التبرؤ من الإنسانية نفسها؛ ولولا ذلك، لما كانت جلْجلة المسيح رمز العذاب الإنساني الأقصى. قد لا يكون داعش خارجاً، بالصلب وبعقوبات البربرية الأخرى، عن ديانة الإسلام الجهادي، ولكنه بالتأكيد خارج عن قيم وطقوس الإسلام الحضاري والإيماني.

فوق ذلك، يخرج داعش عن مكتسبات الحضارة الإنسانية كلها، وأفضل تجلياتها الحضارة الغربية، التي تُبقي لنا شيئا من الضوء في ظل عتْمتنا الكالحة هذه: ففي الوقت التي تتخلى هذه الحضارة شيئاً فشيئاً عن عقوبة الإعدام نفسها، في الوقت الذي دخلت فيه في عصر مؤاخاة الحيوان، فتطالب جمعياته بأنه لو كان ولا بد سوف نأكل الحيوان، فليكن موته رحيماً غير عنيف، فتصدر القوانين المخفِّفة من آلام قتل البقرة أو الغنمة، وتدرس عدد الثواني التي تتعذب فيها أثناء قتلها، وتطالب باختصارها إلى أبعد الحدود، بل تفضح الطرق الوحشية التي يذبح فيها مسلموها ويهودها الحيوانات… في هذا الوقت بالذات، يأتي من الشرق صوت وقوة وسلاح، يقول بأن الإنسان إنما هو مجرد ذبابة، برمْشة عين يمكنه ان يعتلي خشبة الصلبْ. يا شرقنا المجنون…! حيث انتقلنا من الديكتاتور الذي يخفي جرائمه، يقتل من يكشف عنها، إلى الجهادية الإسلامية، التي جعلت من القتل النجس رايتها.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى