صفحات الثقافة

الصناديق السود للبراميل المتفجرة/ ريبر يوسف

 

أجلْ، ولوهلةٍ، سألت نفسي، بهدوء لم يسمعه حتى غيابُ أحدهم: «ماذا لو لم يعثروا عليها..؟». حينها ، كنتُ مجهداً نفسي في فكرة مجهولة حتى الآن، أمرٌ شبيهٌ بالاغتراب، الذي يحياهُ الكائن لحظاتِ الفجر. الفجرُ لحظةٌ عصيبةٌ. فكرتُ لوهلة، بعد أن غمّقتْ عيناي اللونَ حول خبر عاجل، لمحته على إحدى شاشات الفضائيات، والتي أتابع أحياناً عُجالةَ أمرِها؛ في تحوير ذهن المرء عن مساره. خبرٌ يخصّ طائرة ماليزية، اختفت عن الرادارات. لم يكن بسؤالي ذاك – سليلُ وحشة المرء، في سياق الفقد الذي يعيشه؛ مذ حطت زفرتُهُ على سطح الهواء في كوكب الأرض، لم يكن على علاقة بتوجّس شرير.

كان هذا منذ الساعة الأولى، من بدء العمر الفعلي لمهمة الصندوق الأسود في الطائرة، حيث يقال إنّ بطارية صندوق كهذا، صالحةٌ لمدة شهر واحد. اللحظةَ هذي، أعيشُ الساعةَ الأخيرةَ من حياة تلك البطارية؛ إنما أحاول أن أكون بعافيةٍ العافيةِ التي ينبغي أن يكون عليها المرء فلا يسقط عن فرس اللاإنسانية، لذلك.. أشعر أني لست على ما يرام، وكأن للأمر علاقةً بالفقد – إحدى صفات الكائن.

في اللحظة ذاتها، الثامن من آذار، وفي الساعة ذاتها ربما، انطلقت طائرة من أحد المطارات السورية، لترمي باقةً من «براميل متفجرة» على إحدى المدن السورية. برميلٌ خارج رصد رادارات عسكرية ومدنية وأخلاقية للأمم أجمعها، ما من رادار يرصد برميلاً، إذ يهوي من طائرة متوقفة في السماء، فيما رادارات العالم تغمض أجفانها، فيلقي جندي سوري موالٍ للدكتاتورية البرميلَ، بعد أن يشعل فتيله بعقب سيجارته (الحمراء الطويلة) المحلية الصنع، جندي محلي الصنع يلقي ببرميل محلي الصنع على مدينة محلية الصنع، ليُحدِث دخاناً محلياً، يتصاعد في السماء المحلية، وفيما الجثث تتقافز مثل بذور على التراب المحلي. وحده، خبرُ الموتِ في بلدي، ذو طابع أممي. شكلان من الغبار يشهدهما العالم، لكن ما من نية في دراسة ما، ينبغي على العالم الخوض فيها، تخص ارتدادات الهواء إثر انفجار بفعل برميل، ما من نية لدى أحدهم، في إيجاد العلاقة ما بين دخان يصبّ في إناء السماء وآخر في المحيط، وكأن العالم تحرّكُهُ عملية اللغز وحسب. أسئلة عديدة، جعلت العديد من دول العالم تعيش فترة تضامن، لإيجاد العديد من الأجوبة الشائقة، التي تخص عملية البحث عن الطائرة الماليزية. ترى، هل أجاب العالم عن أسئلة الوجود، في نسل السوري، بكاملها؟ هل أجهدتْ معادلاتٌ كيميائيةٌ ما بعضَ الباحثين الأمميين في شؤون الكيمياء؛ إثر دراسة الهواء – قبيلَ وبعيدَ سقوط برميل متفجر؟ مفقودون، تحت أنقاضٍ سوريةٍ، يصافحون مفقودين في قاع المحيط، من ضحايا مأساة الطائرة الماليزية. وحده اللغزُ يشقُّ طريقه بمفرده.

خبران صحفيان، يتجانبان ويجاريان بعضهما البعض، على شاشات الفضائيات: (اختفاء طائرة تحمل على متنها 239 شخصاً – اختفاء حيّ يقطنه ألف شخص فقط).

في دراسة سياق الموت، عالمياً، يظهر أن ما يشغل العالم هو سبب الموت وليس الموت بعينه. تُرى، إن حظي العالم بمعرفة أسباب سقوط الطائرة، هل سيكون في وسعهم حينها الحدُّ من عملية سقوط طائرة أخرى؟ ألا تحمل عملية الموت في سوريا لغزاً واحداً، وحسب، كفيلاً بأن يفكر العالم في إيجاد جواب يخصّ السوري؟

في خبرين غير منفصلين، تخرج أمٌّ صينيةٌ.. تسأل عن إبنها، وأمٌّ سوريةٌ.. تسأل عن إبنها، سؤالان آسيويان، بلغتين تحملان التعقيد الجوهري ذاته قواعدياً، لكننا إن أجهدنا أنفسنا قليلاً، نلحظ أنه ثمة رابطة ما بين الجملتين الخبرين: (اختفاء الطائرة الماليزية) و (الوضع السوري المعقد). ترى، هل يجب علينا ترك عملية الموت في حال سبيلها، داخل سوريا، والإعلان عن مادة دسمة للإعلام أو لشغف العالم بالألغاز؛ وهو تسليط الضوء على عملية تعقيد الوضع السوري/ اللغز، ودراسة أسبابها؟ هل يجب أن تكون صيغة إعلان الموت، داخل سوريا، عبر سترة الفانتازيا؛ حتى نحظى بالقدر القليل من الاهتمام الدولي؟ مثل: سقوط أشياء غريبة من السماء على المدن السورية، اختفاء 100 شخص كانوا يسيرون في الشارع، روائح مجهولة تتسبب في حالات اختناق..إلخ.

في اللحظة هذه، تماماً، توقفت بطارية الصندوق الأسود للطائرة الماليزية عن العمل، في اللحظة هذه تماماً توقف قلبُ أحدهم في سوريا عن العمل. باتت جميع الأحداث، عالمياً، وكأنها متفرعة عن الحدث السوري العام، لكنّ السؤالَ / الجوهرَ، يشرئبُّ مثل نبتة على سياج، ما أصل العلاقة بين موت ذي سبب معلوم وآخر مجهول السبب؟ أسألُ نفسي، بينما تختفي شظايا برميل داخل جسدٍ اختفى، بدوره، في بلد يختفي شيئاً فشيئاً.. من عقل العالم، العالم الذي سيختفي هو الآخر، وليكون البقاء للغز.. وحسب.

المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى