صفحات سورية

الطائفية كلعبة

 


فارس البحرة

ما زلنا نتواطأ مع النظام في التكتم على اللعبة الطائفية التي يمارسها، إلى أن جاء اليوم الذي بات الكلام عنها و رصد سماتها و تجسيدها على الورق أمراً واجباً، نظراً لمحاولة النظام السافرة لاستغلالها لتفريق بعضنا عن بعض بشكل إجرامي. تقوم هذه اللعبة على إيجاد نوع من التوازنات الطائفية في توزيع المناصب و المغانم و الحصص المختلفة توزيعاً صامتاً، تنتظر من يشير إليه صراحة تهمة الطائفية. إذ درج النظام على أن يسلك سلوكاً طائفياً يحميه بتوجيه التهمة بالطائفية إلى من يقوم بتوصيفه لفظياً. و تنطلي اللعبة هذه حتى على كثير من المعارضين الذين يفضلون السكوت عنها، على اعتبار أن الدخول في التفاصيل الطائفية أمر محرج لا تحمد عقباه. فبلغت ثقة النظام بنجاعة فصله القول عن الفعل و إيمانه باستحالة الاستعراض العلني للمعنى الكامن وراء هذه المفارقة أن قام _و هو المعروف برقابته المشددة على كل وسائل الإعلام المحلية و ما تطاله يده من العربية و الأجنبية_ بتشريع طرحها درامياً مراراً و تكراراً في الأعمال التلفزيونية التي ازدهرت في فترة حكم بشار الأسد كأحد المتنفسات المحدودة للشعب السوري. و هكذا يظهر ممثل بدور ضابط يتكلم باللهجة المعروفة بالعلوية ليوحي بالسلطوية، فإذا أراد مشاهد إخبار صديق بما شاهده على الهاتف لم تسعفه الكلمات، فيقول: …ثم جاء ضابط يتحدث لهجة أهل الساحل. مع أن الجميع يعلم أن المقصود بالضابط أنه علوي، و أن المشهد يستحضر بشكل خفي اللعبة الطائفية للنظام. في الأمر ربما محاولة لتطبيع هذه اللعبة في ذهن المواطن، و التأكيد على أن المفارقة بين القول و الفعل بديهية يستحيل على القول إدراكها، و ربما لا تستحق أكثر من ابتسامة.

دأب النظام على توريط الطائفة العلوية في لعبة السلطة. المناصب العليا في الجيش و المخابرات تكاد تكون حكراً لأبنائها. و النظام الذي يتظاهر بإيجاد توازن بين الطوائف المختلفة، ينقل في الحقيقة فهمه لحجم الأدوار و السلطات الممنوحة لكل من الأقليات و للأكثرية. بطريقة تمعن في تحجيم الأكثرية، و تكرس لديها وعياً طائفياً بذاتها، من حيث هي محايثة للطائفة السنية.

و إن كان هذا التمثيل مرفوضاً، شأنه شأن أي تمثيل آخر لا يعتمد المواطنة و الكفاءة الفردية مرجعاً، فلم يجر في يوم من الأيام تمثيل طائفي يراعي التوازنات العددية. ما جرى هو تعويد المجتمع السوري على محاباة الطائفة العلوية خصوصاً، و الأقليات عموماً، مثلما قد يجري ضمن الأسرة تعويد الأبناء على محاباة واحد منهم أو بعضهم، و تفضيل الذكور عن الإناث، أو العكس، بطريقة تنتمي إلى البديهيات التي لا تناقش.

مع أنه من المحتمل كإمكانية بالمطلق أن يؤدي التداول اللفظي للمسألة الطائفية إلى اصطفاف طائفي و إلى فهم المجتمع من حيث هو مجموعة طوائف، فإن التفكيك الواعي و الحذر للسلوك الطائفي للنظام هو الضمانة لعبور الخطر المرتبط بالاستمرار بالتساكت على هذه المركبات من جهة، أو بطرحها للتناول بطريقة تفرق أكثر مما توحد من الأخرى.

ماذا يمكن أن ننتظر من طرح المسألة الطائفية؟

أتوقع أن ننظر إلى أي تغير ثوري ضمن المجتمع من منطلق المستقبل قبل الماضي. فما يراد ليس إجراء تسوية بين الطوائف المختلفة، بل تجاوز الانتماء الطائفي، نحو الانتماء الوطني السوري و العربي، و الانتماء الانساني. فما الانتماء الطائفي كما لا يخفى على أي ذي عقل إلا بالعائق دون الانتماءات الأوسع. لكن التساكت عن المسألة الطائفية، أمر شديد الخطورة كون النظام يحاول تقسيم السوريين على أساسها، عبر تخويف الطائفة العلوية و سحب هذا الخوف على الأقليات الأخرى: خوف من ظهور ميول إنتقامية لدى الأكثرية السنية، ثأراً لأحداث حماه، و للإضطهاد العام الذي تعرضت له أكثرية المجتمع، و الذي لم تتعرض له في جوهر الأمر بسبب انتمائها الطائفي، و إنما بسبب عجزالنظام النخبوي بطبيعته عن تلبية حاجات شرائح المجتمع المختلفة، مما حدا به إلى تدليل شريحة تضمن قمع المجتمع و واستمرار تسلط النظام اجتماعياً و اقتصادياً و سياسياً و أمنياً. هذه الشريحة المدللة و المستفيدة هي بدورها ليست مطابقة للطائفة العلوية. فالزعم بأن الطائفة العلوية أو حتى أغلبيتها قد استفادت من النظام مجانب للصحة. لكن الحالة الجمعية التي كرسها النظام، و التي تعتبر الطائفة العلوية وفقاً لها طائفة ذات امتيازات خاصة، أمر ليس من السهل العبور فوقه، ومن قبل أبناء الطائفة العلوية قبل غيرهم على ما يبدو، فلا بد لذلك من نقاشه علناً و بشكل واسع.

رغم وجود الكثير من أبناء و الطائفة العلوية و بناتها ممن أعلنوا انتماءهم و نصرتهم للثورة بشكل ثابت لا لبس فيه منذ بداية الحراك الجماهيري، شاع  بين المثقفين و المثقفات المنحدرين من أصول علوية رهاب ذو سمتين أساستين: الخوف من الحراك الجماهيري، واعتباره مشبوهاً بالمعنى الوطني، ولن يؤدي إلا إلى قيام إمارات أو خلافة إسلامية. و السمة الثانية هي رفض أًصحاب هذه الرؤى أن يعتبروا مخاوفهم مرتبطة سببياً بكونهم ينتمون إلى الطائفة العلوية بصورة خاصة أو إلى أحد الأقليات الأخرى في سوريا، و اعتبار الإشارة إلى ذلك تشكيكاً بوطنيتهم، و علمانيتهم، أو إشارة واضحة إلى نكوص محدثهم إلى الروابط الطائفية في فهمه لهويته و هوية الآخرين.

لا تحدد علاقتنا بهويتنا بما نقرره نحن فحسب، هناك ارتباطات للهوية تتجاوز قراراتنا العقلية الفردية الواعية، و تتعلق بدائرة معارفنا و أقاربنا الذين نشترك معهم بالأفراح و الأحزان، بالمخاوف و الآمال. كذلك فللنظرة الجمعية للفرد في إطار الهوية الطائفية أو الإثنية، و ما يرتبط مع ذلك من توقعات، أثر كبير في مجتمعنا، إذ بدل أن يعمل نظام البعث الذي يدعي العلمانية على تفكيك هذه النظرة، تقصّد تكريسها للسيطرة على الفرد من خلال الانتماءات الجمعية التقليدية.

نعلم جميعاً أن الشبيحة يقتلون المتظاهرين إستناداً إلى قيام النظام بتعبئتهم طائفياً و تجهيزهم لمثل هذه اللحظة. إن يك ثمة سلفيين مسلحين ذوي أثر في الشارع السوري اليوم، فهم الشبيحة.

أعتقد أن اتهام الحراك الشعبي السوري بالطائفية، إنما هو نوع من إسقاط صورة النظام على الحراك، و من التوقع بأن الرد على النظام الذي يجيش الطائفة العلوية ضد المتظاهربن سيكون من النوع نفسه. الخوف ألا يميز ضحايا النظام بين شخوص النظام و بين العلويين. فيعتبرون كل من هو علوي مسؤولاً لا عن خراب سوريا أكثر من أربعين عاماً فحسب، بل قبل كل شيء عن مجازر الثمانينيات، و النسخة المحدثة منها في درعا و حمص و بانياس و ريف دمشق….

مزيج من الخوف من الآخر و الشعور بالذنب تجاهه، يخلخل أي إمكانية للتفكير المنطقي، هو ما أتلمسه في نقاشاتي مع كثير من أصدقائي و صديقاتي العلويين. صديق لا أشك يوماً بنقاء ضميره اعتبر أطفال درعا (مدسوسين) من قبل أهلهم ليكتبوا ما كتبوه دون أن يتعرضوا للعقوبة، كما حين يرسل الأهل قاصراً في جرائم الشرف. و حينما سألته: حتى لو كان الأمر كذلك هل تكون عقوبتهم بالسجن و التعذيب؟ لم يعرف بم يجيب، كأنه يريد بأي ثمن إحالة السبب الأساسي في قتل المتظاهرين إلى المتظاهرين أنفسهم. صديق آخر، قال لي: لا: أنت تتكلم بالطوائف؟ ما عدت أعرفك!. صديقة اعتبرتني أقول بصفة جوهرانية حول السوري العلوي. أكثر من صديق و صديقة رفضوا مواصلة النقاش. صديق اعتبر حماسي للثورة من الوارد تبريره بعنف عائلي تعرضت له في طفولتي!

و أنا أناقش أصدقائي، و أنا أكتب الآن، أشعر بثقل على ساعديّ، بضيق في صدري، بارتباك نادراً ما عرفته. كأنني أدخل مكاناً سرياً لا تلجه عادة سوى مشاعر الخوف و الريبة بالآخر و الشك بمشروعية الوجود الذاتي حتى.

لست متشائماً. لن يكون مصير الطائفة العلوية كمصير اليهود، رغم أن ممارسات النظام تنافس ممارسات الكيان الصهيوني على عرش الإجرام. إلا أن الشعب السوري سيعرف جيداً أن يميز عدوه.فلما كانت الثورة ضد هذا النظام و آلياته و سلوكه المعلن و عقليته الخبيثة المضمرة، فأول ما ستكونه الثورة: ضد الطائفية التي شوهّت الاجتماع السوري.

الانتماء إلى الطائفة  سواء كان مختاراً من الفرد أو مفروضاً من الجماعة يبقى مجرد جزء من الهوية و الوعي بالذات، أتوقع من الثورة أن تبعث الوعي الوطني، الوعي السوري، و الوعي العربي. ما يجمع أبناء سوريا مع بعضهم أكثر مما يفرقهم، و هذه المرحلة رغم وعورتها ،هي مفتاح الوحدة الوطنية الحقيقية، لحظة طرح الأسئلة الكبرى التي اعتدنا الهروب منها، لحظة مناقشة البديهيات.

كلي إيمان بشعبي، ثقتي بأن الثورة لن تكون على النظام فحسب، بل على أنفسنا أيضاً، التي ليس خضوعها المديد لهكذا نظام إلا دليلاً على حاجتها لثورة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى