بطرس الحلاقصفحات مميزة

الطائفية والحرب الأهلية على الطريقة السورية: بطرس الحلاق

بطرس الحلاق

نجــح آبــاء الاستقــلال فــي سوريــة، وبعضــهــم مــن المعممــين، أن يتجـنــبوا النــظام الطــائفي الــذي تبــنــاه نظراؤهـم فــي لبنـان. فنـعمـنا فـترة غـير وجيــزة بنظام سياسي وفّر، رغــم كــل مــساوئه ورغم السياق الإقليــمي السائد، مناخــا تعايشــيا يحق لنا أن نفتــخر به. ولطالما افتــخرنا، بــل وتعــالينا على اللبنانيين، فعيّرناهم بالعجز عن الارتقاء إلى حيث ارتقــينا. وأصــبنا بالغــرور، فحــسبنا أن اللاطائفية صفة جوهرية في مجتــمعنا السوري. وها نحن نستيقــظ الــيوم على حــرب أهلية ومذابح طائفية أدت إلى تطهير جغرافي، وترافقت مع خطاب طائفي صريح. وبقي الطرفان السياسيان في الصراع ينكــران الواقــع المر ويمــوهان: أحدهما يدّعي أن الصراع بين الشرعية والإرهاب، فيما الآخر يقول إنه بين الحراك الديموقراطي والاستبداد، ويوغلان في الانكار فينفيان وجود حرب أهلية ذات صبغة طائفية، بدعوى أن الحالة السورية لا تشبه على الإطلاق الحالة اللبنانية، التي يعتبرانها النموذج الوحيد للحرب الأهلية الطائفية.

صحيح اننا لم نكرر الصيغة اللبنانية، بل ابتدعنا صيغتنا الخاصة في الحرب الأهلية وبمؤشراتها الطائفية الذاتية، إذ إن لكل سياق مقتضياته. فالحرب الأهلية في أسبانيا غيرها في أفغانستان، وتبقى أهلية بمجرد ضلوع المدنيين فيها، والحرب الطائفية في رواندا غيرها في العراق أو لبنان، وتبقى طائفية.

بعد حراك مدني رائع، أصبحت حربنا الآن أهلية طائفية، بالرغم من بقايا حس سليم لا يزال يتمتع به الجسم الاجتماعي – ولكن إلى متى؟

لا بد للمعارضة الديموقراطية، التي فشلت في توجيه الصراع، أن تعترف بهذا الواقع، فالإنكار أسوأ دواء على الإطلاق. انزلقنا فعلا إلى جحيم الطائفية، النخبة قبل غيرها، نظاما ومعارضة على السواء. فالنظام اللاطائفي دينامية استمرارية تتقلص وتضمر ما لم تتجدد يوما بعد يوم. والواقع أن هذه الدينامية تجمدت منذ ارتقاء العسكر إلى سدة الحكم، ثم انقلبت رأسا على عقب منذ أحداث حماه العام 1982.

استغلال الطائفية

لا خلاف أن النظام القائم منذ أربعة عقود قد استعمل بميكيافيلية مدهشة كل الانتماءات والمصالح الفئوية ليرسخ موقعه. لست من القائلين بأنه طائفي بطبيعته. فهل ننسى أن أول ضحاياه كانوا من العلويين، أي مجموعة صلاح جديد؟ لا، إنما الاستئثار بالسلطة وتأبيدها بين يديه دفعه إلى توظيف الوسائل المتاحة كافة، وحتى المحظور منها، أي الطائفية. الواقع أنه يكاد يكون استنساخا لنموذج رقيع شائع في تاريخنا، منذ انهيار الخلافة في بغداد وحتى قيام السلطنة العثمانية. أمير مقاطعة يستقل عن السلطان، أو عامل خليفة يستأثر بإمارة دون أن يخلع الطاعة للخليفة. يبني سلطته على قوة عسكرية تستند إلى عصبية ما. ويستمر حكمه حتى انهيار العصبية أو هزيمة تأتي قبل أوانها. هكذا نظام الأسد: استند إلى شبكة واسعة من العصبيات المتنوعة والمتقاطعة. بدأ أولا بعصبية «السوق»، فَلَمَّ حوله طبقةَ التـجار النافذة في السبعينيات في دمشق وحلب خاصة، والغالب عليها الانتماء السني. ثم أردفها بعصبــية حزبية بعد أن فرّغ مبادئ الحزب من كل مضمون فعلي، عصبية ضمّت سائر الانتماءات. ورافق ذلك كله بعصبية «زبائنية»، أوكل بموجبها مرافق الدولة للمقربين منه. سلّم الجيش لضباط اصطنــعهم، بعد أن قضى على رفاقه «العلويين» الوطنيــين. ووهب مرافق الأمن إلى شبكة أخرى من جمــيع الفئات؛ ولا شك أن من وجد نفسه يوما بين يدي رجال الأمن اكتشف أن معظمهم من غير طائفة «الأمير». أما المرافق الاقتصادية فوهبها لشبكة عصبوية منتقاة من الأسرة المقربة من أخوال وأعمام. وأشرك معهم جماعته الأولى مـن «عصبــية الســوق»، التي بقيت أمينة له بمجملها حتى بعد اندلاع الحراك الشعبي. ولم تبدأ بالابتــعاد عنه إلا بعد أن تهددت مصالحها الحيوية. ولم يعمد إلى الوتر الطائفي الصرف إلا حين انفض عنه زبائن العصبيات الأخرى. وبما أنه أدرك بميكيافيليته المعهودة أن العصبيات الداخلية بحاجة إلى قوة ضابطة، لجأ إلى القوى الدولية والإقليمية، يقيم معها تحالفات شتى، يستقوي بها لفرض شرعية خارجية، بها يهيمن على شبكة عصبيات استحدثها في الداخل.

أخونة الحراك

وبالمقابل، استفادت فئة متهورة من «الإخوان المسلمين» من الاستــياء الشعــبي المشروع لتدخــل فــي مغامرة محض طائفية في حماه – والمرجح أنــها وقعت في فخ النظام. وبفعل القمــع الوحــشي الذي لجأت إليه السلطة، استقر الشــعور الطــائفي، وتغذى بالتغلغل الوهابي الذي سمحت به السلطة لقاء مساعدات مالية. ثم التهب كــليا حــين قرر محور القاهرة – الرياض أن يحول الصراع مع إسرائيل إلى صراع سني – شيعي بعد حــرب تموز 2006. غــير أن المنعـطــف الحاســم تم بــعد أن قــررت الفئة المتهورة نفسها من «الإخوان» أن تستأثر بالواجهة السياسية للحراك المدني. تحالفت مع قطر ثم تركيا وأقامت «المجلس الوطني» بواجهة ممــن سمتهــم علمانيــين ديموقراطيــين، ساعــية إلى الاستفــراد بالسلــطة المنتــظرة كــما فعــل نظراؤها في مصر وتونس. اكتمل طوق الطائفية، ووُئد الحــراك المدنـي. وفي مقال بعنــوان: «لــئلا يصبح المجلس الوطني حجر عثار»، نبهــت شخــصيا إلى مخاطر الطائفية وتغلغل القوى المتطرفة، ودعوت مع كثيرين إلى برنامج وطني ينفذ بعد المرحلة الانتقالية على غرار برنامج المجلس الأعلى للمقاومة الفرنسية ضد النازية. فئوية هذه المجموعة المتهورة استمرت مع قيام «الائتلاف الوطني»، لا يثنيها تحذير ولا تنفعها نصيحة الشيخ عصام العطار أو موقف الشيخ معاذ الخطيب. فئويتها ما زالت منذ عامين تردف فئوية النظام إلى أن وصلنا إلى هذا الجحيم. ولم يعد لنا منقذ إلا في قرار خارجي، تتوضح معالمه مع الاتفاق الأخير بين روسيا وأميركا. ولا شك أنه أهون من استمرار حرب عبثية.

المسؤولية الكبرى تقع على هذين الطرفين: نظام عنفي وفئة متهورة شوّهت إلى حد بعيد نضال «الإخوان» التاريخي وأطاحت أحلام الشبيبة والوطن. ولا بد أن يمثلا يوما أمام محكمة التاريخ. وأما الآن، فيجب إزاحتهما عن موقع القرار وبالطرق السلمية الناجعة ليفسحوا المجال للقوى الحية. ذلك أبخس ثمن لدم الشهداء والجرحى والمشوهين، ولملايين اللاجئين ولخراب مادي ومعنوي لن تصلحه أجيال عدة. لا، ليست الحرب الأهلية الطائفية على الطريقة السورية بأجمل من غيرها، مهما تبجحنا بوعي كان لنا ثم زيّفناه.

«النصرة» والمسيحيون

كلما أثيرت قضية «جماعة النصرة» تثار معها قضية المسيحيين في سوريا. فمنهم من يستهين بأمر «النصرة» ومنهم من يقع باللائمة على المسيحيين. ويتساءل المواطن السوري، مسيحيا كان أم غير مسيحي أكثر من سؤال. الأول: هل الحكم على جماعة «النصرة» يجب أن يأتي من موقف طائفي أم وطني؟ واضح أن مشروع هذه المجموعة خطر على الطوائف كافة لأنه خطر على الديموقراطية، ولأنه في النهاية يؤدي إلى استبدال نظام قمعي يدّعي العلمانية بنظام آخر لا يخفي طائفيته البدائية. فالحكم عليه ينبع من موقف وطني. أما من يدعي، مثل الائتلاف وبعض المسيحيين بالذات، بأن لا خطر على الوطن من «النصرة»، فإما منافق وإما أن همه الوحيد هو الاستيلاء على الحكم مهما كانت الوسائل والنتائج. ولا نستطيع إلا أن ننبهه إلى خطر موقفه المميت.

والسؤال الثاني: لماذا هذا الاهتمام المفرط بالمسيحيين؟ ألأنهم يمثلون الطــرف الذي يتــحسس له الغرب أكثر من غيره؟ ولكننا نعرف تاريخيا أن الغرب لم يهتم بالمسيحيين إلا عندما يريد استعمالهم. أما نحن فنعتقد جازمــين أن ما ينقذ المسيحيين هو نفسه الذي يساهم في إنقاذ الوطن، وأحداث تاريخنا المعاصر كافــة تدل على ذلك. هل استفاد المسيحيون في فلسطين من دعم الغرب؟ هل استفاد المسيحيون في لبنان من هذا الدعم، أم لأن المؤسسة الكنسية لم تكن على مستوى المسؤولية الأخلاقية التي تدّعيها؟ لا أشك في أن هذه المؤسسة مخيبة للآمال، على المستويات كافة. وربما يذكر القارئ اني كنت أول من انتقد موقف الأساقفة في مقال بعنوان: «السادة الأساقفة… رفقا بالوطن وبالمسيحية». واني كنت أول من حيّا الشيخ في مقال بعنوان: «…ولن أدافع هنا عن المؤسسة الكنسيـة. إنما من الضــروري الإقرار بأن المؤسسة الدينية بمجملها تخيب الآمال وتشبه إلى حد بعيد المؤسسة السياسية والحزبية. فهل دار الفتوى أم الهيئة الشيعية أم العلوية أم الدرزية أم … اتخذت موقفا مشرفا أكثر من المؤسسة الكنسية؟ طبعا جــبن هذه لا يبرر جــبن تلك. فلماذا لا ننبه إلى ضرورة إصلاح كلي للمؤسسات الدينية كلها وعلى السواء؟ أي إلى «ثورة مدنية» لكل المؤمنين في سبيل إصلاح مؤسساتهم الدينية؟

لا يستطيع أي فريق أن يرضى عن مؤسسته الدينية، فهل تكون ثورة بعض المسيحيين المنصبة على مؤسستهم الدينية وحدها كنوع من التبرير للذات أمام الآخر. لا، يا صديقي، مبررك الوحيد هو الوطن والعمل لوجهه بإخلاص، دون شعور بالذنب واستهانة بالنفس بما أنك مواطن كالآخرين. فما فائدة عقدة الذنب الجماعية، وما فائدة الرياء؟ ارفع رأسك أيها المواطن واعمل لوجه الوطن. مهما كان انتماؤك الثانوي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى