صفحات العالم

الطابق الأول في الأزمة السورية

غسان العياش

برغم شراسة الأحداث التي ابتليت بها سوريا، في مختلف محافظاتها، يلاحظ أن أي حدث أو تطوّر يتعلّق، من قريب أو من بعيد، بالساحل السوري، يشد الانتباه بسرعة البرق ويسرق الأضواء من باقي أجزاء الوطن الجريح. هذا ما حصل عندما وقعت أحداث دامية في بانياس ومحيطها، وما يحصل الآن مع اشتداد المعارك في القصير، التي تكتسب أهميتها، بالدرجة الأولى، من كونها صلة الوصل بين الساحل ودمشق.

إن الثقافة السائدة في المشرق العربي تفرض تجاهل المعضلات الطائفية، وتلزمنا بخطاب مفاده أننا شعب واحد لا مكان فيه للذاتيات العرقية أو الطائفية. هذا هو الإرث الذي رسب إلينا من الثقافة القومية، وقبلها من فلسفة السلطة في عهود الخلفاء والسلاطين.

ولكن تجاهل الواقع لا يفيد، بل هو المسؤول عن تفاقم وتفجّر الخصوصيات دون الوطنية. وأول واجبات أي حراك مخلص إلى بناء سوريا حديثة وديموقراطية، هو الاعتراف بالواقع والتعامل معه والبناء عليه.

إن سبب حساسية منطقة الساحل السوري كونها، كما هو معروف، الموطن الأصلي للطائفة العلوية، والمرتكز الشعبي الأساسي للسلطة منذ سنة 1966.

كان الدكتور عمرو موسى، الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية، يقول إن الأزمة اللبنانية تتكوّن من ثلاثة طوابق، الأول محلي والثاني إقليمي والثالث دولي. والأمر نفسه ينطبق على المشكلة السورية. والطابق الأول في الأزمة السورية هو مخاوف الطائفة العلوية وهواجسها، وعلى هذا الطابق بني الطابقان الإقليمي والدولي، وتمكّن النظام من البقاء والصمود، مستنداً إلى قرار القتال حتى النهاية لدى جماعة تعتقد أنها مهددة، ليس بمكاسبها فقط، بل بأمنها ووجودها برمته.

عندما حلّ الانتداب الفرنسي في سوريا كانت الطائفة قد أتمّت قروناً عدة من الاضطهاد والتكفير والعزلة في الجبال المطلة على الساحل السوري. ولم تتغيّر الصورة مع الاستقلال، فبقيت تلك الجبال موطناً لأكثر الفئات بؤساً وعزلة في سوريا، وربما في المنطقة، مع نافذة جديدة فتحت أمامها، لن تلبث أن تتحوّل إلى ممر كبير، وهي الانتساب الكثيف إلى الجيش.

بدأ وضع الطائفة العلوية يتغيّر جذرياً منذ ثورة 1963، التي أوصلت البعث إلى الحكم، واستمر صعوداً مع انقلاب 1966 والحركة التصحيحية سنة 1970.

لقد خرج العلويون من القوقعة، ففتحت الطرقات التي تصل قراهم المعزولة بمدن الساحل، وعززت شبكات للنقل العام والخاص، وفتحت المدارس، وشرّعت أمام «أبناء الجبل» أبواب الوظائف العامة في الجيش والتعليم والإدارات العامة، حتى باتوا يهيمنون على الإدارات الحكومية مقابل هيمنة سواهم على القطاع الخاص.

إلا أن أهم تحوّل على الإطلاق في مجتمع الساحل السوري واقتصاده، كان الإصلاح الزراعي، الذي وزّع الأراضي على الفلاحين، فحرّر أبناء الجبل من علاقة القنّ بالسيد التي كانت تربطهم بكبار ملاّكي الأراضي في مدن الساحل. وهكذا بات الفلاحون العلويون ملاّكين للأرض، خصوصاً في المناطق الخصبة المحاذية للاذقية وجبلة وطرطوس وسائر مدن الشريط الساحلي. وتعزز هذا التحول بفضل مؤسسات مساعدة كالمصرف العقاري والمصرف الزراعي والتعاونيات الزراعية. كما أنفقت استثمارات كبيرة لإنشاء مصانع يملكها القطاع العام، أمّنت آلاف الوظائف الجديدة، ولكنها مصانع فاشلة ومفلسة فعلياً، ككل المصانع التي تنشأ في كنف الدولة، مفتقرة إلى التنافسية والحوافز. وقد وصف باحث فرنسي مصانع الدولة السورية بأنها مجرد «كنائس في الصحراء».

انتقل أبناء الجبل إلى مدن الساحل وضواحيها، وإلى دمشق وسواها من المحافظات، لإدارة الأراضي التي تملّكوها، أو للعمل في الجيش وإدارة الدولة وصناعاتها المترنّحة، الأمر الذي غيّر النطاق الجغرافي للطائفة.

يمكن الاستنتاج أن القطاع العام، بفرص العمل التي وفّرها، والمشاريع التي نفّذها، والمؤسسات التي أنشأها، كان الرافعة التي أخرجت العلويين من الاضطهاد والعزلة، وحسّنت مستواهم المعيشي، ولكنها ساهمت في إثراء عدد قليل من أبنائها المحظيين، ولم تنتشل السواد الأعظم منهم من الفقر.

فالأزمة المالية والاقتصادية التي تعرّضت لها سوريا منذ منتصف الثمانينيات قادت أولاً إلى نضوب الموارد المالية عن القطاع العام، ثم دفعت النظام إلى تبني «انفتاح انتقائي» ساهم في تقليص القطاع العام ودوره، فدفعت الطائفة العلوية الثمن قبل سواها.

مقابل قلة محظية تتمتع بالثراء الفاحش، تعيش الأغلبية الساحقة من العلويين ظروفاً مادية قاهرة، ولكنها متشبثة بحماية النظام ومستعدة للدفاع عنه حتى النهاية، لأنها تخشى الانتقام أو العودة إلى زمن الظلام والقوقعة، الراسخ بقوة في ذاكرة المجتمع العلوي.

والثورة التي تطرح شعار سوريا الديموقراطية عليها التوجه بخطاب مطمئن إلى الطائفة، يتعدّى الكلام المنمّق وعبارات المجاملة… خطاب يتضمّن اعترافاً بحقوق الأقلية والأقليات، ويبتدع صيغاً ومقترحات تضمن لأبناء الطائفة حصانة أمنية وحصة محفوظة في الحقوق السياسية والمنافع الاقتصادية.

ولكن في الطرف الآخر هناك من يكتفي بعبارات اللياقة والمجاملة، وهناك من يلوّح بالسيف ويهدّد بقطع الأعناق، والمستقبل مجهول، والله أعلم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى