خليل النعيميصفحات الثقافة

الطريق إلى “هيروشيما”/ خليل النعيمي

 

 

«الكائن بحاجة إلى حبيب كَيْ يكرهه،

وإلى وطن كَيْ يهجره،

وإلى طاغية ليتمَرَّد عليه».

***

اليوم، صباحاً، نرحل عن «كيوتو». نرحل عنها باتجاه «هيروشيما». نحيط بها عابرين فيها، هكذا، سنعرف أن «كيوتو» تقع في سهل منخفض، محاط بالجبال من جميع الجهات. الباص الذي يقلُّنا يعبر ثقوب الجبال العملاقة هادئاً ورصيناً. يملؤه الصمت، وتحفُّه الصخور. وقبل أن يبدأ الباص سيره، جاءنا السائق عامداً، وأخذ منا بطاقات السفر، بعد أن شرح لنا أن شركة النقل أوصته بأن يوصينا بألّا نتأخّر، مرة أخرى.

من جديد، نحطّ في الجبال، مثل طيور مهاجرة. جبال الغابات العملاقة. لكأن اليابان قائم فوق صخرة خرافية، ذات منحدرات، ومرتفعات، بلا نهاية. جبال، تليها جبال، تراقب الطُّرُق والعابرين. لكأنها حُارس الأزلية التي لا تفنى. على سفوحها الشرقية تصبّ الشمس نورها الإلهيّ الفائر، فتزهر النباتات بألوان خلّابة. لا مفرّ من الجبال في اليابان. ولا يشبه جبل منها جبلاً آخر. جبال تتواصل فيما بينها بألْفة ورهافة، مثل كائنات حَنونة يملؤها الشوق. شَوْق الالتِصاق السديميّ الذي يجلب المزْن. فوق قمم الجبال اليابانية تبدو السماء قريبة، شديدة القرب، حتى لنكاد نلمسها. تَنْسَدِل بجَلال على القمم الناتئة محاطة بدِثار أزرق من الغيم. ولكن أين هو الأفُق؟! أين أُفُق الصحراء الأصفر المنبسط مثل غطاء من حرير بلا حدود؟

وأنا أكتب هذا، ناظراً حولي، أحسستُ، فجأة، بالحاجة إلى فضاء شاسع لا تحدُّه الرؤية، ولا يَلْوي نور العَيْن. يمكن أن نرى فيه حجراً صغيراً من مسافة بعيدة. لكن هذه الجبال التي تشبه جدران مَوْئل خرافيّ، لا ينفذ النور منها، ولا تدع للعابر إمكانية لرؤية ما وراءها، ولا للمقيم. ومع ذلك، تتمتَّع بقوّة جَذْب لا نهائية تجعلنا نرتبط بها، على الفور.

من نفق إلى نفق، نخترق الجبال الصُمّ الراسية بأبهة على القاع. نخترقها بهَيْبَة آسرة، وكأنها أمرتْنا بالحَذَر الأبديّ. جبال تسحبنا إلى جبال، وكأنها تسابقنا نحو المحيط. المحيط « الهادئ» ذو الخطورة الفائقة الذي يتربّص بها منذ الأزل، منذ أن انْسَحَبَ عنها، تارِكاً إياها تَنْشَف عارية تحت الشمس، بعد أن بَصَقها على القاع المملوءة بالتهاويل.

في أُخْدود عملاق نتابع السير نحو «هيروشيما». الأفق مسدود بالجبال حتى آخر الأرض. حتى حدود الآفاق البعيدة. كيف تتنفَّس هذه القاع؟ من أين تمتَصّ نداها؟ وبأي آلاء ينَزُّ نورها الذي لا ينقطع؟ أوه! ومع ذلك، لا عوائق على الطريق، ولا حوادث، ولا انْسِدادات. لكأنك تسير في صراط مستقيم. وهو ما يجعلك تنسى طرق أوروبا البائسة متعددة المثالب والحوادث والإرهاقات.

جبال اليابان تَتَلَوّى كالأفاعي فوق الأرض. ومن آن لآخر، تفْرج عن مسارب يسكنها الناس. حتى إنني بعد أيام من «الجُبول» صرتُ أخشى ألّا أرى قاعاً من بعد. لقد صارت القاع الصفْصَف، هنا، أمنية بعيدة المنال. سئمت من الامتلاء بالجبال، حتى صار يبدو لي أن كل امتلاء حَشْو. وليس ثمة أسوأ من الحشو، حتى ولو كان علماً. لماذا علّمونا ألّا نحب الفراغ؟ أية حماقة ملأت بها رؤوسنا فلسفة «الحَشْو» الإغريقية، وما جاء بعدها من فلسفات «الاحْتواء» المتوسطية «السكونية»، وعلى رأسها فلسفة: «زِدْني علْماً»! فلنُفْرِج عن أنفسنا قليلاً. ولْنتَصَحَّرْ. ففي الفراغ امتلاء من نوع آخر، أكثر إنسانية، ربما. ولكنْ، مَنْ يدرك أهميّة الفراغ، غير هيروشيما؟

بعد «هيروشيما»، نعود إلى طوكيو، لنعود منها إلى باريس. في طريق العودة نمر على «أوزاكا»، توأم «كيوتو» على جهة الطريق الأخرى. المطر يهطل بهدوء فوق المدينة. لا ريح تُطَيِّر القطَرات، ولا جوارف، ولا مسيل. مطر هادئ يخُرّ على المدينة كَلَيْل صحراوي بعيد. مطر كأنه النَّدى. وتبدو المدينة منتعشة بهذا البَلَل الرحيم. للبَلَل رائحة الحياة. ورائحة الحياة هي رائحة الجنّة. الجُسور العملاقة فوق أنهار أوزاكا بلا حصر، وعماراتها الناطحة للسحاب تتَطاول باتجاه الغيم، وكأنها تتسابق نحو الأعلى.

في «أوزاكا» لا تسمع غير هدير القطارات الذاهبة الآيبة. كل شيء فيها يوحي بالرحيل. «أوزاكا» مدينة منْذورة للتَرْك، أو هذا ما صار يملأ نفسي بعد زيارة «هيروشيما». لكأنني أدركتُ ضرورة ألّا أستقر في مكان بعدها.

لا شيء في «هيروشيما» غير الهَوْل والصمت: هَوْل الصورة والمشهد والحياة، وصمت موت الإنسانية اللامحتمل. في فضاء هيروشيما الآسر، العين تُصيغ الجملة قبل أن يكتبها القلم. المرئيّ هو الذي يحدِّد كل شيء: الفكر، واللغة، والكلام، ومن بعد، ينطلق نحو تشكيل التعبير الأوْفى، أو يعيد تشكيله، على طريقته. فالبلاغة، هنا، ليست إلّا تورية وإبْهاماً. ليست إلّا تزييفاً مرعباً للوجود.

لا كلام يُعادل النظر. ولا نظر دون سفر.

هذا ما تعلِّمنا إيّاه « هيروشيما»!

ضفة ثالثة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى