صفحات الرأي

زواج عرفي بين ثقافتيْن/ منصف الوهايبي

 

 

كثيرٌ ممّا نقوله عن الحداثة كتّابا وشعراء ومثقّفين، يحتاج إلى قدر غير يسير من التوقف والتثبت وحسن التناول، وإلى شواهد وأسانيد من الأدب والفنّ الحديث تنهض له وتعضده. وهذه مقالات لا تتّسع إلاّ للنزر القليل من هذا كلّه. ولكن لا يذهبنّ في الظن أنّ سؤال الحداثة من المتعاود الثقافي، أو هو من المسائل المحسومة؛ ويكفي أن أحيل القارئ على أعداد من الشهريّة الفرنسية «ماغزين لتيرار» مثل تلك المخصوصة بالشاعر الفرنسي «مالارميه» وتاريخ الحداثة، عسى أن يتأكّد أنّ هذا الانطباع خادع، أو هو من سوء الظن والتقدير.

وإذا كان أهل الضفة الأخرى من المتوسّط، وقد صارت آدابهم وفنونهم بمثابة «معجز ثان» يتحدّانا مهما حاولنا أن ندانيه أو نجاذبه مكانته، يعيدون طرح سؤال الحداثة أو يعودون له وعليه، بعد أن استأثر بهم، موضوع «مابعد الحداثة»؛ فما أحوجنا نحن إلى تأصيل السؤال في سياقه التاريخي والحضاري، بعد أن آلت «الحداثة الأدبية» لدينا إلى ما آلت إليه في «شعرنا الحديث» الذي  تخطّى الستّين، وصار يتسلق على جذوعه من يتسلّق، غافلا عن أنّ نعمة الشعر هي في إيقاعه ومنه؛ هذا الإيقاع الذي يعدّه روبرت شولز انتصار الإنسان على الزمن، أو سبيله إلى جعل الزمن يرقص على نغم إنساني. وليكن! فإنّ سؤال الحداثة هو سؤالنا جميعا، حتى وإن لزم أن نتحّدث بصوتنا، ونرى بأعين الآخرين، أو أن نرى بأعيننا ونتحدث بصوتهم. ونحن كائنات تطمح إلى أن تشارك في الكوني أو الشمولي، فإذا لم تكن من قوادحه، فليس أقل من أن تكون ومضة في نور أسود، وإلاّ تحوّل كلّ شيء إلى «قريب» أي ملابس مستعملة، كما جاء في رواية «بروموسبور» لصديقنا حسن بن عثمان، وانضممنا ثانية إلى سلالات القردة المتدافعة من المغاور الأولى.

حتّى إذا عرض لنا من بدَواتِ الأدب وحَدثانه ما عَرض، وأخذنا من اللغات الأجنبيّة بحظ، وتأدّبنا بآدابها؛ هجر كثير منّا الأدب القديم، ولم تبق لهم منه سوى ذكرى نسيان أو وشم ذكرى. بل لعلّهم كما يقول أبو تمّام متغزّلا «ذكرتك حتّى كدت أنساك/ للذي توهّج من نيران حبّك في قلبي».

وربّما كان حالنا أشبه، كما يقول بعضهم؛ بحال شخص يدخل إحدى دور السينما، بعد بداية العرض؛ فيأخذ بالتلفّت حوله، ويهمس للجالس بجواره سائلا عمّا حدث أو كيف بدأ الفيلم. ثمّ يتماسك، ويلتقط خيطا من هنا وخيطا من هناك؛ وشيئا فشيئا يلمّ بالأحداث أو يمسك بخيطها، ويتعرّف إلى الشخصيّات. وهكذا يبدأ بمتابعة الفيلم، دون كبير عناء، أو هكذا يتهيّأ له، ويتجاوز موقف «الذي وصل متأخّرا». وفي هذه الصورة كثير أو قليل من حسن الظنّ بالمتلقّي، وربّما بالمنشئ أيضا؛ وهو متلقّ أيضا. والنصّ ـ أيّ نصّ ـ ينشأ «قِرائِيّا»، وهو يقرأ خاماته وما يتحدّر إليه من نصوص وأجناس أخرى. إنّما يعنينا من هذه الصورة أنّها تصلح مثلا لكثير من الشعراء والكتّاب الذين انخرطوا في مشهد الأدب الحديث، وقد قامت معالمه، وتوطّأت سبله، أو هكذا تهيّأ لهم؛ فإذا هم لا يكادون يلامسون أرضه، أو يمسكون بخيط منه. وإذا هم يعيشون في هذا المشهد أكثر ممّا يعيشونه، وإذا هم لا يبرحون موقف «الذي وصل متأخّرا»؛ وقد أخذت أحداث المشهد تلتفّ، ويلوي بعضها على بعض. وهل تشفع ثقافة محدودة لشاعر أو كاتب أن يشارك في مشهد هو أشبه بأيقونة لفظيّة مغلقة، تمازجها عناصر وأمشاج من حداثة غربيّة تهجم على الأدب العربي منذ بدايات القرن الماضي مثل وحيد القرن؟

غير أنّني لا أحبّ لهذه الصورة أن تُحمل على وجه لا أرتضيه. فلست بالذي يتنقّص أدبنا الحديث، ويتحيّفه. فالمدوّنة الشعريّة شأنها شأن قرينتها الروائيّة، تحفل بأعمال استوعبت منجزات الحداثة، وطلّقت ثلاثا الاتجاه التعبيري القائم على التصريح بالمعنى، في شكله المحدّد، وحرّرت العبارة من علائق المجاورة المتعاودة والتجانس المألوف بين الصفة والموصوف، وهدمت المواضعات اللغويّة القديمة المتواترة حيث الصورة ظلّ اللغة وهي تتوكّأ على متخيّل داثر، وتسترسل إلى نوع من التدفّق الوجداني؛ وليست اللغة/ الشعر التي لا نقيض لها؛ أعني تلك التي تقدح المضمر والممكن، ولا تتأبّد في مكرور الصور والتراكيب؛ حتى لا تنلحق بأشباه لها ونظائر. وبعض أدبنا الحديث يشحذ عن دراية «نشوة الكلام في اللامعنى»، تلك التي نستشعرها في الفنّ الحديث المأخوذ بالتجريب وهو ينقلنا من كتابة المغامرة إلى مغامرة الكتابة حيث المبادرة للغة. وربّما نحن نكتب لنستر ونخفي، لا لنفصح ونعرب. ولا نظنّ أنّ هناك من يماري في أنّ الكتابة عمل نوعيّ مثلها مثل القراءة المحكومة هي أيضا بسياق نوعيّ. والكاتب إنّما ينشئ في ظلّ تقاليد نوعيّة مخصوصة، أو في ضوئها، ولكنّ عمله لا يُقاس بها فحسب، وإنّما أيضا بما يجترح من احتملات وإمكانات فيها.

قد يكون سرّ الحداثة المقدّس (ولم لا المدنّس؟ مع أنّ الترجمة الأدقّ لـ profane هي «دنيويّ») في هذا الزواج العرفي بين ثقافتنا وثقافتهم، منذ اللحظة الفارقة التي سمّيناها «صدمة الحداثة»، وليس في هذا أيّة غضاضة، فالحداثة في ما يقرّره مؤرّخوها، فعل كوني شموليّ، ونزوع إلى القانون الذي مابعده قانون. هي ليست معيارية تنهض على قواعد تستتبع الحكم بالصواب أو الخطأ، وإنما على قوانين وأحكام عامة. والقانون رهْن بمدى استيعابه للكليّ والجزئي معا، فإذا ما تدافعا في موضوع مادّته الأدب أو الفنّ؛ وهما كثيرا ما يتدافعان، استدعى الأمر إعادة نظر في كفاية القانون. وللحداثة الأدبيّة في الغرب قوانين غير تلك التي تجري عليها الحداثة الأدبية في ثقافتنا، فالأولى إنّما نشأت في المدينة أو هي من مفرداتها وتجلّياتها، بحيث يغدو أي كلام عليها، متعذّرا أو فضفاضا، إن هو لم يُباشرها في فضاء المدن الغربية الضخمة بمؤسّساتها ومشاريعها الكبرى التي تستلب الفرد أو تحوّله إلى مجرّد أداة من أدواتها ورقم من أرقامها. على حين أن الحداثة الأدبيّة في ثقافتنا، حالة جزئيّة أو هي، في تقديرنا، تجلّ في جانب كبير منها، لحداثة الآخر ذات الطابع الكلّي الشمولي. هي «حداثة» تتناسل من حداثة، وليس من المدينة أو من المعيش بالمعنى الحصري الدقيق للكلمة. فالمدينة الشرقيّة ـ كما يصفها حنا عبّود في «الحداثة عبر التاريخ»  ـ وهو مصنّف هامّ لم أجد من عُني به ـ ليست تجمّعا حرّا، بل هي مدجّنة تدجينا شرقيا، أو هي سليلة روح تسلطية. وليست كالمدينة الأوروبيّة التي تشحذ حسّ المغامرة ، وتضجّ بشتى التناقضات والتصادمات..

وفضلا عما تقدم فإنّ الحداثة الأدبيّة عندنا مرتبكة كأشدّ ما يكون الارتباك، فقد انخرطت في بداياتها، وربّما إلى حدود السبعينات، أو بعدها بقليل، في مسار المشاريع الوحدانيّة الكبرى (المشروع القومي والمشروع الاشتراكي مثلا)، وقد باءا بالفشل؛ قبل أن تنكفئ إلى ضروب من السريالية أو الدادائية أو العدميّة «النهلستية» واللامعقول… وهي مذاهب تولّدت من الانطباعيّة التي يعدّها البعض جوهر النظرية الحديثة في الأدب ويعزوها إلى موقف ابن المدينة من المدينة وليس موقف ابن الريف منها.

ولعلّ القارئ أن يشاطرني الرأي في أنّ لهذه المذاهب في الحداثة الغربية ملابسات غير تلك التي حفّت بها في ثقافتنا. وقد أشار غير واحد، إلى أنّ الحداثة الغربية صداميّة عدوانيّة أو هي خرق في الزمن والتاريخ وخروج إلى الذات، سواء تجسّدت هذه الذات في «سوبرمان نيتشه»، وصرخة زرادشت «أنّ الهكم قد مات» أو في تحطم «الأنا» وتشظّيها في «أوليسيس» جويس، أو في شعار «الإنسان مات» كما هو الشأن عند فوكو… فقد أدرك الغربي الذي رأى نفسه يسيطر على كون صنعته الفيزياء والكيمياء أنّ الفلسفة العلميّة المتغطرسة باتت الآن بالية، و»اكتشف» أنّ الإنسان ليس سوى جزء من أنظمة أضخم، وليس بميسور هذا الجزء السيطرة على الكلّ. أدرك ـ كما يقول روبرت شولز ـ أنّ وراء الكون شيئا يشبه الإله، ولكنّه ليس إلها مصنوعا في صورة إنسان وإنّما هو خطّة الكون ونظامه.

وإذا كانت الحداثة الغربية «تبشّر» بسقوط الإنسان، فلأنّ السقوط ـ  كمايقول شولز ـ  ليس أسطورة ما قبل التاريخ بل عمليّة تحدث منذ قرون وتشحذ الخيال «الذي يساعدنا على أن نعيش في المستقبل حتى نستطيع فعلا أن نواصل الحياة». فلعلّ في هذا ما يفسّر سعي الحداثة الدائب أو ما بعد الـــحـــداثة إلى «الشــكل الأسمى» في ظل غياب للمعنى يكاد يكون تاما… حتى لكأن الكتابة «عار على المعنى».

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى