صفحات العالم

العجز الذي يتقاسمه الجميع


نهلة الشهال

حتى الكتابة عن سورية تعكس ذلك العجز! ومع أنها تفرض نفسها بتلقائية، إذ لا يمكن تجاهل المأساة البشرية الدائرة، ولا الخطورة السياسية الكبرى لما يعتمل هناك، يبقى السؤال بصدق حول الإضافة والفائدة المرجوتين منها، وألا تتحول الكتابة إلى تمرين مهني فارغ. وأما النظام السوري وقوى المعارضة المتنوعة والحراك الشعبي، فثلاثتها على مقدار مشترك من العجز، وإن تنوعت أسبابه وطبيعته ونتائجه. ولعل الأمر يصح أيضاً على «المبادرة العربية» والإطار الحاضن لها، أي جامعة الدول العربية، بل يصح أيضاً على القوى والأطر الغربية، مجتمعة ومنفردة، كالأمم المتحدة ومجلس أمنها، وعواصم العالم المتنفذة. فالجميع يقف أمام انسداد الحلول الممكنة، وأمام عجزه عن دفع الوضع إلى ما يشتهيه أو يرغب به:

– تصفية النظام للحركة الاحتجاجية وإخماد أنفاسها بالقمع غير ممكن، ولا يمكنه أن يؤدي إلا إلى مزيد من الدماء. وهو يتراسل – بوعي وتقصد على الأرجح – مع الاتجاهات العنفية داخل الانتفاضة نفسها ويعززها، سواء منها تلك التي تقوم بممارسة تصفيات طائفية فردية أو جماعية، أو تلك التي تعتبر أن لا مناص من اللجوء إلى السلاح. ويشجعها على ذلك عنت النظام ودمويته، وجهات تدعو علناً إلى العنف المسلح، كان آخر أصواتها السيد عبدالحليم خدام (الذي تنطبق عليه من دون شك مقاييس الإحالة إلى المحاكمة لفساده ودمويته يوم كان الرجل الثاني في النظام نفسه، ولكن من خاصيات السياسيين أنهم لا يستحون!).

– نجاح الانتفاضة بقواها الذاتية في إسقاط النظام مدعاة شك كبير. فالمخاوف التي تستبد بالناس من التطورات التفكيكية المرعبة، ومن انزلاق سورية إلى حرب أهلية، ووطأة القمع تجاوزت منطق التحمل (وهو أمر مفهوم ومشروع)، كما أن الإدراك العام للطول المتوقع للمجابهة، كل ذلك يحمل أعداداً متزايدة من الناس، ومن المناطق، على الإحجام عن الاشتراك في الانتفاضة، أو إلى التراجع عنها. لكن ذلك لا يعني بحال انحيازهم إلى النظام أو اقتناعهم بمنطقه، وهم قوة كامنة تخشاها بالتأكيد السلطات. بل لعل معادلة رهان/ مخاوف النظام السوري تقع هنا، أي في كيفية «عدم التنازل» الذي قد يوحي بالضعف والاهتزاز، ما يعيد الناس إلى الشارع في موجات عارمة، ويدفع من كان مُحجماً، عن خوف أو حسابات مصلحية، إلى الإقدام.

– التدخل العسكري الدولي، أياً تكن حججه وتغطياته وتسمياته وآليات تنفيذه، ما زال غير ممكن، ربما لأن الموقف في سورية يحتاج إلى إنضاج بخلاف ما كانت عليه حال ليبيا (التي بدت معطياتها، في حينه على الأقل، مبسطة للغاية). ما زالت تلك الإمكانية تحتاج لسيلان مزيد من الدماء، الكثير من الدماء، وما زال ضبط إيقاعها يحتاج لمقدار من الحسابات والضمانات الإقليمية، لم تتوافر بعد. ويمكن جيفري فيلتمان الذي ترقَّى (بسبب خبرته اللبنانية بالدرجة الأولى، على ما يقال)، فأصبح مساعد وزيرة الخارجية للشرق الأوسط، أن يمارس مقدار ما يشاء هواية الخبث التي يستمتع بها، فيتكلم عن «دول تقترح منح الأسد اللجوء»، إلا أنه يعرف يقيناً أن تلك اللحظة ما زالت بعيدة. ثمة على صعيد التدخل العسكري الأجنبي جدلية جارية، ملامحها لم تكتمل بعد، ومن غير المؤكد، من جهة أخرى، وهذا في غاية الأهمية، أن تفاصيلها مقررة بدقة وسلفاً.

بالمقابل، يتعجل النظام خطوات التدخل الأجنبي. ففي هذا الصدع أيضاً تقع مراهنته الأخرى، وإن كانت وهمية، «ولكنهم لا يعلمون»! فالنظام يعمل من جهة على «حسم» الموقف قبل نضوج ذلك الاحتمال، وهو في الوقت نفسه، وكمخطط موازٍ، يستدرج التدخل الأجنبي السافر، بما فيه ذاك العسكري، ليتمكن من امتطاء نظريته حول ما أسماه الأسد «الخيار الوحيد، الانتصار في معركة سيادتنا وقرارنا الوطني»، معيِّناً من جديد ثالوث الشر بصفته «الفتنة والإرهاب والتدخل الخارجي»، مبرئاً نظامه من كل إثم.

وهو حين أضاف عنصراً رابعاً، تكلم بغموض عن «الحقوق المشروعة» للناس، ثم ترجم ذلك استماعاً لمشاكلهم في الرقة حيث صلى العيد، ووعوداً بخدمات حياتية. وهذا يدل بجلاء على السقف الذي يمكن النظام القبول به أو التنازل وفقه، ما بات مفوّتاً تماماً ويعبر عن مبلغ الاستعصاء إياه.

لا ديناميات إذاً، تفضي إلى مخارج، بل دخول ما بات النظام السوري نفسه يسميه «الأزمة» سيرورةً طويلة تتفاعل فيها مكوناتها مع عناصر أخرى تتعلق بمعطيات إقليمية ودولية، هي نفسها رهينة المرحلة الانتقالية، بالمعنى الشامل والتاريخي، التي يمر بها العالم.

فحتى إيران الحليف القوي لسورية، والذي أعلن مراراً وتكراراً أنه لن يسمح بانهيارها لمناقضة ذلك لمصالحه بالأساس، يبدو منفتحاً على قواعد اللعبة الطويلة والتغييرات المصاحبة لها بالضرورة. وقدصرح أحمدي نجاد منذ يومين بأن «إيران شجعت الحكومة والمعارضة في سورية على التفاهم والحوار»، واضعاً إياهما في مصاف واحد، بينما تصدرت افتتاحية، غريبة بكل المقاييس، موقع «تي في برس» الإيراني باللغة الإنكليزية، تقول حرفياً «سورية ستتغير على كل حال حتى لو تمكن الأسد من إنهاء فترة رئاسته الحالية. وهو لا أمل له بفترة رئاسية جديدة» (الافتتاحية منشورة بتاريخ 6 تشرين الثاني/ نوفمبر).

وسرّبت موسكو لمن يريد أن يسمع أن الفيتو الذي سبق لها استخدامه في مجلس الأمن غير قابل للتكرار، والأرجح أن ذلك يتجاوز مجرد الغرض التكتيكي للضغط على السلطة في سورية. وعلى كل حال، إذا ما وضع هذا الإعلان/ التهديد في التطبيق، فهو يفترض حدوث تغييرات مهمة في المشهد الراهن.

لذا كله، تبدو المبادرة العربية نفسها، والتي ظلت أصلاً أسيرة العموميات وبلا آليات تنفيذ، كأنها تعرف أنها ليست سوى الحرف الأول من لائحة لا يمكن تجنب تهجئتها كلها. وليس انعقاد مجلس الجامعة على مستوى الوزراء إلا من قبيل مصاحبة هذا التسلسل. وفي هذا البطء الإجباري نفسه تكمن الخطورة والمأساة… فعدا الحيوات التي يستمر هدرها، يتخلع رويداً قوام سورية، مفتوحاً على كل الاحتمالات. لكن، وعلى رغم كل شيء، يجب عدم تجاهل قاعدة تكررت في التاريخ وفي كل مكان: أن العجز الموصوف ذاك، بكل جوانبه، وبالمقدار الكبير من السياقات الحتمية التي تؤدي إليه، يبقى قابلاً للانتهاء إذا ما توافرت بيد الفاعلين الأساسيين، سواء من النظام أو من المعارضة، المقدرة على المبادرة لاقتراح تصور وآليات فعلية للخروج من المأزق، وليس الاكتفاء بترداد الشعارات والمواقف ذاتها، وترك الواقع يهترئ.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى