صفحات العالم

العجز عن الإصلاح

 


عبد الوهاب بدرخان

فور دوي المطالبة بالحريات شعرت الأنظمة المعنية بأنها ضبطت متلبسة. أدركت أن الأمر لا يتعلق بـ”إصلاحات” وإنما بالسلطة. فإما هذه وإما تلك. السلطة ألغت كل إصلاح، وأي إصلاح لابد أن يكون إيذاناً بإلغائها لإنتاج سلطة أخرى. لذلك فهي حين قاومت وتقاوم كانت تدافع عن وجودها -عن نمط من الحكم أمضت عقوداً في إرساء دعاماته حتى يصبح قويّاً ومريحاً، فطوّعت القوانين والأعراف والمفاهيم ولعبت بتركيبة المجتمع، وراكمت الجيوش والأجهزة، واخترعت عصابات وميليشيات موازية، ثم انتقلت إلى القطاعات كافة تمعن فيها عبثاً وتطويعاً، وأخيراً عرّجت على الدين والعبادة لتجعلهما في سياق خدمة السلطة. ومنذ بداية هذه المسيرة تأكد أن السياسة قد محقت محقاً، ولم يعد متصوراً أن تكون لحياة الناس دورة أخرى غير تلك التي تحددها السلطة. من حين إلى آخر كان يحدث أن تطرأ مفاجآت، مؤامرة من هنا مؤامرة من هناك، وبعدما قضي عليها جميعاً صار النظام يخترع المؤامرات في الداخل كي يبرر تصفية من يشك بأمرهم. وهكذا غدا مواطنوه موقنين بأنه لا يتردد في فعل الشيء ونقيضه ليبلغ الناس ألا مجال لاختراق يقظته.

الصدمة الأولى لهذه الأنظمة، بفعل الانتفاضات، أنها أخفقت في السيطرة على ما يدور في الأذهان. كانت شدة البطش قوقعت كل فرد داخل أعماقه، وفيها يتواجه يوميّاً مع ما يعانيه ليتأكد بأنه لا يزال يعرف ما هي الكرامة وما هي الحرية وما هو الحق، تماماً كما ولدت معه في مهده لا كما أراد الحاكم ونظامه أن يصوراها له.

الصدمة الثانية للأنظمة إدراكها أن ما ظنت امتلاكاً أبديّاً لها وقع في لحظة تحت الاتهام والمساءلة، عاد فجأة إلى النقطة التي انطلق منها. ولم يستطع رأس النظام طرد الشريط الطويل لمسيرته من بدايات معاكسة الطبيعة إلى حقبات الصعود، وصولاً إلى احتمالات السقوط. كل الأنباء تكرر تذكيره بأنه قد مضى عليه في الكرسي ثلاثون، أربعون، خمسون عاماً، على رغم أنه يشعر بأنه بدأ بالأمس ولم يفكر في ما قبل ولم يهتم بما بعد، فما بالهم يريدون منه أن يمشي، ينصرف، يتنحّى، يرحل. لم يسبق له أن سمع ذلك.

الصدمة الثالثة اسمها “البحث عن تسوية”، أي يبقى ويساوم، يبقى ويقايض، يبقى ويخادع، المهم أن يبقى ولو اضطر للذهاب إلى “إصلاحات”، كما يقولون، ومن أولى منه بذلك. وحده من خرّب قادر على أن يصلح، فهو جلب للناس استقراراً لاشك بأنهم يريدونه. ثم إنه يملك كل ما يمكن الاستغناء عنه، حزب حاكم، أحزاب تابعة، وزراء وعسكر. لديه حتى جيوش وأجهزة وميليشيات لا مانع لديه من رميها لزوم البقاء في السلطة. لكن كل “سقط المتاع” هذا هو النظام نفسه، فكيف يتخلى عنه، وكيف يستمر من دونه؟ هنا تأتي الصدمة الرابعة، واسمها “العجز عن الإصلاح”.

كان الحديث عن الإصلاح أشبه بتمرين لفظي لتذويب الغضب وتمرير المرحلة. لكن الغضب لم يتراجع، والمرحلة لم تنتهِ. إنها على العكس لا تنفك تبدأ، في بداية الاحتجاجات استأثر نجل الرئيس الليبي بالشاشة وقتاً لا يتناسب مع من لا صفة له ولا صلاحية، لكنه أبلغ أبناء شعبه أن إصلاحاً دستوريّاً كان على وشك أن يعلن إلا أن الشغب الذي أقدموا عليه عطله. نسي أنه كان يتحدث بعد نيف وخمسة شهور وواحد وأربعين عاماً على حكم والده، وهي مدة أكثر من كافية لأي بركان بليد نائم تعتمل فيه عناصر الثوران. قبله، كان الرئيس اليمني قصد البرلمان، الذي يسيطر عليه حزبه وكان انتخب بـ”عناية” أجهزته، ليقول إنه لن يترشح ثانية للرئاسة ولن يرشح نجله، وإنه منفتح على كل الإصلاحات المطلوبة، شرط أن توضع ويبدأ تطبيقها بوجوده في الرئاسة وتحت إشرافه. وترجمة ذلك بكل اللغات أنه لن يسمح بإصلاحات تمس التركيبة الأمنية التي وضعها وأصبحت هي النظام المرفوض نفسه. بعده، جاء الرئيس السوري ليتوغل في أدغال التمرين نفسه، فالاحتجاجات لم تجترح جديداً بالنسبة إليه، وكل الإصلاحات أشبعت درساً منذ وقت طويل.

في غمرة التبشير المتأخر بأن الإصلاح آتٍ لا محالة ألقي اللوم على جهات مجهولة، الحزب أو الأجهزة أو الحرس القديم، فالنصوص نامت في الأدراج أو تعرضت لتنقيح لم يبق شيئاً ينم عن “انفتاحات”، عن احترام الحريات، عن سعي إلى شفافية، عن رغبة في إشراك الشعب، عن انتخابات حرة نزيهة.. فكل ذلك يمس الأمن. والأمن خط أحمر. إذن فالعلاج الأفضل للعجز عن الإصلاح هو افتعال حروب أهلية.

الاتحاد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى