صفحات الثقافةيزن الحاج

مرآةٌ مشروخةٌ لواقعٍ هشّ

 

يزن الحاج

لا تزال الثورة السّورية محافظةً على تميّزها (وغرابتها) على جميع الأصعدة.

وبصرف النّظر عن الخيبات السياسية المتفاوتة، يلاحظ المراقب بأنّ الثّورة التي غيّرت الكثير في الواقع الاجتماعيّ، لم تؤسّس للأثر ذاته ثقافياً؛ إذ يبدو النّتاج الثقافيّ، في معظمه، أشبه بمرآةٍ مشروخةٍ لا تعكس إلا صوراً مشوّهةً عن الواقع الهشّ أساساً، إلا في محاولاتٍ نادرة لم تشكّل بعد أساساً متيناً لبناءٍ ثقافيٍّ لسوريا ما بعد الثورة، على العكس من نتاجات الحرب الأهليّة اللبنانية أو الانتفاضتين الفلسطينيّتين أو حتى مرحلة ما بعد هزيمة 1967.

لا شكّ بأن نصف قرنٍ من حُكم الدّولة العسكريّة والأمنية كان له أثرٌ بالغٌ في تسلّل أمراض السياسة إلى المشهد الثقافيّ والفنيّ، ابتداءً بالإقصاء وانتهاءً بفرض شكلٍ أوحد للنّتاج الثقافيّ، مروراً بمحطّاتٍ كثيرةٍ متعثّرةٍ من الفرز النّقديّ لا على أساسٍ فنيٍّ، كما ينبغي أن يكون الأمر عليه، بل على أساسٍ سياسيّ و’ثوريّ’.

ومع ازدياد الطّلب على النتاجات الثقافيّة السورية، تزايد عدد الكتّاب والمثقّفين والفنانين، وتضاعفت نتاجاتهم بشكلٍ مرعب، لا سيّما وأنها سُلقت على استعجال، لتبدو الصورة النهائية مثل ثمرةٍ جافّةٍ تكاد لا تمتّ بصلة للجذور والأغصان القويّة التي حملتها عامين كاملين، علاوةً على غياب الميزان النقديّ الصارم لدواعٍ كثيرة، كان أبرزها: أهمية توثيق الثورة كتابياً وفنياً. وبرغم أهمية السبب الأخير، إلا أن النتيجة الفعليّة كانت مخيّبةً للآمال بشكلٍ كبير، ونكاد لا نبالغ لو قلنا بأن الأمراض البعثيّة لا تزال تلقي بظلالها على النّتاج ‘الثوريّ’ المناهض للبعثيّة على صعيد المضمون بحدّ ذاته، إضافةً إلى المؤسّسات والتجمّعات التي توالدت بغزارة خلال العام الماضي بشكلٍ خاص.

ولقد أدّت تنحية القيمة الفنيّة لصالح التاريخ السياسيّ (أو النّضاليّ بالأحرى) إلى ضياعٍ في البوصلة النقدية، ليتمّ الفرز النقديّ بشكلٍ مشوَّه، حيث يتحوّل هذا التاريخ النضاليّ نفسه إلى سجنٍ جديدٍ بقضبان ثوريّة، إذ تُنسى، مثلاً، النّقلة النوعيّة الهامّة التي أحدثها إبراهيم صموئيل في فنّ القصة القصيرة، ليتحوّل فجأةً إلى مجرّد كاتبٍ آخر لأدب السجون لا شيء يميّزه عن غيره إلا سنوات اعتقاله، وليس تلك الثورة الفعليّة التي أدخلها إلى القصة القصيرة مخرجاً إياها من القفص السياسيّ الضيّق إلى الفضاء الإنسانيّ الأكثر رحابةً لغوياً وإبداعيّاً. وبالطريقة ذاتها، يتمّ إقصاء شاعرٍ متميّزٍ مثل عارف حمزة، ومشروعه الشعريّ الثريّ، لأنه لا يمتلك ‘ذلك التاريخ النضاليّ’ لصالح أسماء أقل قيمةً شعريّةً بكثير كانت تذكرة عبورها هي قربها من هذه المؤسسة أو تلك، أو عدد ‘لايكاتٍ’ أكبر في ‘الفيسبوك’!

على الضفة الأخرى، لا يمكن إنكار أن الثورة كانت الدافع الأكبر في ظهور وشهرة أسماء متميّزة كثيرة في جميع الحقول الإبداعية، لا سيّما الفنّ. ولعلّ أشهر مثالٍ عن هذه الأسماء هو تمّام عزّام، الذي تتميّز أعماله بشحنةٍ فنيّةٍ عالية أثبتت حضورها العالميّ، وازى فيها تمّام بين أقصى درجات الحداثيّة الفنيّة دون التخلّي عن رسالةٍ واضحة المعنى ثوريّاً وإنسانياً، حتى كاد يكون السّفير الفنيّ الأبرز لسوريا في كلّ أنحاء العالم واقعياً وافتراضياً، على العكس من ‘اللغة الخشبيّة’ التي أعيد نبشها من قبل كتّابٍ ومثقّفين كبار، كانت فيها الشّتائم هي السّمة الأوضح في نتاجاتهم؛ لغةٌ كان لها أثر العدوى في ‘الكتابات الجديدة’، دون التوقّف لمراجعةٍ نقديّةٍ بسيطة بعيداً عن هدف الإرضاء الشّعبويّ.

وقد يبدو، للوهلة الأولى، بأن هذه اللغة هي الأقرب للمزاج الشعبيّ، والحامل الأفضل للرسالة السوريّة، ولكن هذه الذريعة مجرّد وهمٍ بصريٍّ مؤقّتٍ لا يختلف كثيراً عن الجملة المطبوعة على المرآة الجانبية للسيارة، حيث تبدو ‘هذه الأجسام أقرب مما هي عليه في الحقيقة’.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى