صفحات سوريةوائل مرزا

العرب في تقرير الاستخبارات الأمريكية عن العالم الجديد القادم/ د. وائل مـرزا

 

 

“ستكون الفوضى السياسية معلم السنوات الخمس القادمة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وذلك مع تزايد مطالب الجماهير من النخب الراسخة. وسيكون مرجحا استمرار الحروب الأهلية والحروب بالوكالة في عدد من الدول الفاشلة. ستكون الصراعات بين القوى الدينية والسياسية مرجحة أيضا مع استمرار انخفاض أسعار الطاقة بما سيضعف المؤسسات القائمة”.

لا تذكر هذه الفقرة من التقرير، الذي صدر الأسبوع الماضي، في الملخص التنفيذي الذي نشرته بالعربية “إدارة الاستخبارات الوطنية” الأمريكية، التي تنسق العمل بين 17 وكالة أمريكية تعمل في مجال الاستخبارات.

من المؤكد، إذا، أن الاقتصار على قراءة الملخص العربي، كما يبدو شائعا بين العرب، لايوفر معرفة وافية بأفكاره الخطيرة، وخاصة منها مايتعلق بهذه البقعة من العالم.

والحقيقة أن الفقرة المتعلقة بما يسميه التقرير “الشرق الأوسط وشمال أفريقيا” تتصف بدرجة كبيرة من السوداوية والتشاؤم، وتشمل مروحة واسعة من التوقعات الكئيبة الطاغية عليه تماما. وذلك بعكس مناطق أخرى كثيرة في العالم تبدو فيها ملامح للأمل والتطور باتجاه الأفضل.

كيف نتعامل عربيا مع مثل هذه التقارير؟ من المؤكد أن تجاهلها بشكل كامل سيكون ممارسة رعناء، إن لم نقل طفولية. فالتفاصيل المتضمنة في فقرة المنهج العلمي الذي استعمل لإنتاجه تظهر درجة الجهد المبذول، ليس فقط في الإدارة نفسها، وإنما مع خبراء داخل أمريكا وفي أنحاء متفرقة من العالم، للوصول إلى النتائج الواردة فيه.

لكن المفارقة تكمن في أن توقعات التقرير واستقرائه للمستقبل العربي ليست كتابا منزلا من السماء، ولا هي قدر محتوم عليهم يستحيل التعامل معه. فالتوقعات المذكورة هي، في نهاية المطاف، بمثابة إفراز لقرارات وممارسات وسياسات يبنى التقرير على وجودها واستمرارها كأسباب ومقدمات، تلك التوقعات، كنتائج منطقية.

نحن هنا إذا بإزاء معادلة الأسباب والنتائج التي تحكم الواقع الإنساني بأسره، وليس فقط الدول والمجتمعات العربية. ومن طبيعة قوانين الاجتماع البشري وسنن وجوده أن النتائج ستختلف حتما حين تأخذ الإرادة البشرية الحرة بأسباب مختلفة عن تلك الواردة في التقرير، في هذا المقام كما في كل مقام آخر.

يتحدث التقرير مثلا عن “الانقطاع المرضي المزمن (أو الهوة العميقة) بين القيادات والنخب في المنطقة، من جانب، وبين جموع المواطنين من جانب آخر”، ويذكر حسب الاستقراء والمعطيات أن الهوة “ستستمر في العديد من دول المنطقة إلى أمد قادم”!

يتحدث التقرير أيضا عن الاستمرار المتوقع في “ظروف سياسية وفرص اقتصادية لدمج شباب دول المنطقة في منظومات سياسية واقتصادية.. تعترف بكمون هؤلاء وتتلاءم مع ثقافتهم”، وإلا- يكمل التقرير- فإن هذا يعني استمرار “غياب العدل والاحترام لهم ولكرامتهم، وبحيث تستمر هذه الظروف نفسها في تغذية مناخات اليأس وسوء المعاملة للآخرين.. فضلا عن التطرف الديني”.

بل إن التقرير يؤكد بأن كل ما سبق، وغيره كثير في التقرير، يعني أن “عدم الاستقرار سيستمر ويتصاعد لأمد طويل”، حتى في دول عربية مهمة، بخلاف تلك التي تشهد عدم الاستقرار الآن.

من قال إن هذه الظروف “يجب” أن تستمر؟ ولماذا يقبل العرب بأن تكون هذه التوقعات لعنة أبدية أصابتهم، وليس عليهم إلا التعامل معها بمنطق ردود الأفعال؟

وفي ظل كون تلك التوقعات تشكل في النهاية تهديدا وجوديا للجميع، دولا وشعوبا وحكاما ومحكومين، هل يستحيل فعلا التفكير بشكل خلاق، وامتلاك الإرادة السياسية، لجسر الهوة بين القيادات والنخب وبين المواطنين؟

وهل يعدم العرب، بطاقاتهم وإمكاناتهم القيادية والشعبية، القدرة على خلق ظروف سياسية وفرص اقتصادية تسمح باستيعاب طاقات شباب مجتمعاتهم وتوجيهها نحو الأمل والبناء والإبداع بدلا من اليأس والغلو والهدم؟

أكثر مايفزع في التقرير أنه يربط، في آخره، احتمالا ضئيلا لتحسن الأمور في العالم العربي بتحسن أسعار النفط، ولاشيء آخر!

وإذ يبدو العرب في التقرير بشكل عام، ومع هذه النتيجة، منزوعي الإرادة بشكل كامل، فإن رفض هذه المقولة عمليا، بالأفعال والقرارات والسياسات، وليس فقط نظريا، هو وحده الذي سيثبت كذب النبوءات المشؤومة الجمة في التقرير.

* د. وائل مرزا – كاتب وأكاديمي سوري

الشرق القطرية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى