صفحات مميزة

العفو الدولية: نظام الأسد أعدم 13 ألف معتقل بصيدنايا

 

 

سجن صيدنايا هو المكان الذي تذبح الحكومة السورية شعبها فيه.

كل أسبوع، يتم اقتياد 20 إلى 50 شخصٍ من زنزاناتهم من أجل شنقهم في منتصف الليل. حوالي 13 ألف شخص قتلوا في سجن صيدنايا منذ عام 2011، بسرية تامة. وقتل آخرون في صيدنايا بعد أن تعرضوا للتعذيب بشكل مستمر ومنهجي، وحُرموا من الطعام والماء والأدوية والرعاية الطبية. تحمّل جثث القتلى في صيدنايا في شاحنات نقل وتدفن في مقابر جماعية. ومن غير المعقول أن تطبّق هذه الممارسات على نطاق واسع وبشكل منهجي من دون الحصول على اذن من أعلى المستويات في الحكومة السورية.

إعدام جماعي

أكثر من 13 ألف شخص أُعدِموا شنقاً في صيدنايا، بين شهر سبتمبر/أيلول 2011 حتى شهر ديسمبر/كانون الأول 2015.

وقُبيل الحكم عليهم بالإعدام، يواجه الضحايا، ما تسميه السلطات السورية، “بالمحاكمة” في محكمة الميدان العسكرية. ففي الواقع، هذا اجراء يتم تنفيذه لمدة دقيقة أو دقيقتين، داخل مكتب وأمام ضابط عسكري، حيث يتم فعلياً تسجيل اسم المعتقل في سجل المحكومين عليهم بالإعدام.

وفي يوم تنفيذ عملية الإعدام، والذي يصفه حراس السجن بالـ”حفلة”، يتم اقتياد المحكوم عليهم بالإعدام من زنازينهم في فترة ما بعد الظهر. وتقوم السلطات بإبلاغ المعتقلين بأنهم سينقلون الى سجون مدنية، التي يعتقد كثيرون أنها تتمتع بظروف أفضل. ولكن، بدلاً من ذلك يُنقلون الى غرفة تقع في طابق سفلي من المبنى، حيث يتعرضون للضرب المبرح.

وقد وصف حارس سجن سابق كيف كان يتعرض المعتقلون الى الضرب المبرح خلال ساعات الليل قبل اقتيادهم الى “غرفة الإعدام”.

يُسمح لأي عنصر بضربهم، إلى حين وصول الضابط. كنا نعلم مسبقاً أنهم سيموتون في أي حال، لذا كنا نفعل ما بوسعنا من أجل ايذائهم

حارس سابق في سجن صيدنايا

تم توسيع مساحة غرفة الاعدام في صيدنايا بعد شهر يونيو/حزيران 2012، من أجل تنفيذ حكم الإعدام بأكبر عدد من الأشخاص دفعة واحدة. وتُعلق المشانق على طول الحائط. ويدخل الضحايا الى الغرفة معصوبي العينين، غير مدركين بأنهم على وشك أن يُقتلوا. ومن ثم يُطلب منهم وضع بصماتهم على إفادات توثّق وفاتهم. وأخيراً، يتم اقتيادهم، معصوبي العينين، إلى منصات إسمنتية، ويُشنقون. ولا يعلمون متى وكيف سيُشنقون، إلى أن يوضع حبل المشنقة حول أعناقهم. وأفاد معتقلون، كانوا قد احتجزوا في طوابق فوق غرفة الإعدام، بأنهم كانوا يسمعون أحياناً الأصوات الصادرة من غرفة الإعدام.

ومن ثمّ يتم تحميل جثث الضحايا بالشاحنات ويدفنون في مقابر جماعية على أراض عسكرية خارج دمشق.

حتى اليوم، لا يزال المعتقلون يُنقلون الى صيدنايا، وتستمر “المحاكمات” في المحكمة الميدانية العسكرية والقابون. لذلك، لا يوجد أي سبب يدفعنا للاعتقاد بأن الاعدامات قد توقّفت.

لأول مرة على الإطلاق، يمكن لك أن تستكشف ما يجري في أحد مراكز التعذيب في سوريا.  بالتنسيق مع “مشروع علم العمارة الجنائية”، تحدثنا إلى ناجين من أحد السجون السيئة الصيت واستخدمنا ذكرياتهم عن المكان لإعادة تمثيل أصوات التعذيب، والضرب، والخوف. عش بنفسك هذه التجربة التي تعرض لها هؤلاء المعتقلون السابقون ثم وقِّع على العريضة.

تعذيب لا يمكن تخيله

تحدث سجناء سابقون عن دوامة لا تنتهي من التعذيب: سواء عند القبض عليهم أو عند ترحليهم بين مراكز الاحتجاز. إن التعذيب جزء من “حفلة ترحيب” تسودها انتهاكات كثيرة عند الوصول إلى السجن. في بعض الحالات، يتعرض السجناء للتعذيب كل يوم من أجل “خرق” بسيط لقوانين السجن، بما في ذلك التحدث مع نزلاء آخرين أو عدم تنظيف زنازينهم.

الكثير من السجناء الذين تحدثنا إليهم قالوا إنهم تعرضوا للضرب بخراطيم بلاستيكية، وقضبان مصنوعة من السيليكون، وعصي خشبية، والحرق بأعقاب السجائر. وأُجبِر آخرون على الوقوف في الماء وتلقي صدمات كهربائية.

بعض التقنيات المستخدمة شائعة جداً إذ يُنادى كل واحد منهم باسم مستعار. ويُربط في لوح قابل للطي يسمى “بساط الريح” ووجهه نحو الأعلى، ثم يحرك كل جزء من اللوح باتجاه الجزء الاخر.  ومن ضمن التقنيات “الدولاب” حيث يُرغم المعتقلون على الجلوس على إطار عجلة وجباههم باتجاه الأرض نحو ركبهم أو كاحليهم ثم يضربون.

تعرض رجال ونساء إلى الاغتصاب والتحرش الجنسي. كما تلقت نساء تهديدات بالاغتصاب أمام أقاربهم بهدف “انتزاع ” اعترافات منهن.

بالأرقام – سوريا منذ مارس/آذار 2011

5000 إلى 13000

شخص أعدموا في سجن صيدنايا بين عامي 2011 و2015

75000

شخص اعتقلوا على أيدي القوات الأمنية وأصبحوا الآن في عداد المفقودين (وفقاً للشبكة السورية لحقوق الانسان)

+11 مليون

شخص أجبروا على ترك منازلهم

معتقل سابق يصف الاكتظاظ في مركز الاعتقال

عندما جلبوني إلى المكان، لم أتمكن من رؤية الناس من حولي بل رأيت ديداناً، كانت تتلوى وتختلط مع بعضها بعضاً. لم أكن قادراً على الوقوف على قدمي الاثنين لأنه ليس هناك متسع كاف للوقوف.

ظروف لا إنسانية

يعاني المعتقلون مشكلات عقلية حادة بسبب الاكتظاظ وعدم التعرض لأشعة الشمس بشكل كاف. وفي بعض الحالات، أخبرنا المعتقلون أنه يمكن أن يُحشر أكثر من 50 شخصاً في زنزانة صغيرة مساحتها 3 أمتار على 3 أمتار. ولا يتلقون سوى عناية طبية محدودة أو لا يتلقون أي عناية طبية على الإطلاق. ونتيجة لذلك، يموت السجناء بسبب مشكلات طبية يمكن علاجها تماماً.

هذا الرعب المطلق يهدف إلى كسر إرادة الشخص المحتجز وتدمير روحه. تعرض الناجون لصدمات نفسية وكسور جسدية. إنهم يحتاجون، في الغالب، إلى دعم طبي مكثف ومساندة عاطفية لإعادة بناء حياتهم.

في معظم الحالات، تنفي الحكومة السورية أن تكون أجهزة الأمن قد اعتقلت هؤلاء الأشخاص. أو ترفض إعطاء أي معلومات بشأن أماكن احتجاز المعتقلين. وهذا يعني أن العديد من المحتجزين تعرضوا “للإخفاء” خارج نطاق حماية القانون، الأمر الذي يجعلهم، خصوصا، عرضة للانتهاكات.

سوريا: تحقيقٌ يكشف النقاب عن حملة حكومية سرية قوامها عمليات شنق جماعية وإبادة ممنهجة في سجن صيدنايا

يكشف تقرير جديد مروع، من إعداد منظمة العفو الدولية، النقاب عن وجود حملة مدروسة تنفذها السلطات السورية على شكل إعدامات خارج نطاق القضاء، وتتم عن طريق عمليات شنق جماعية داخل سجن صيدنايا.  فقد اقتيدت مجموعات من نحو 50 شخصاً من زنزاناتهم كي يتم إعدامهم شنقاً خلال الفترة ما بين 2011 و2015، وتكررت هذه العملية بشكل أسبوعي، وبواقع مرتين في الأسبوع أحياناً.  وتم شنق نحو 13000 شخص سراً في صيدنايا على مدار خمس سنوات، غالبيتهم من المدنيين الذين يُعتقد أنهم من معارضي الحكومة.

ويظهر التقرير المعنون “المسلخ البشري: عمليات لشنق الجماعية والإبادة الممنهجة في سجن صيدنايا بسوريا” أيضا أن الحكومة تتعمد خلق ظروف لاإنسانية للمحتجزين في سجن صيدنايا؛ وذلك عن طريق اللجوء بشكل متكرر إلى تعذيبهم وحرمانهم من الحصول على الطعام والماء والدواء والرعاية الطبية.  ويوثق التقرير كيف تسببت سياسات الإبادة هذه بمقتل أعداد كبيرة من المحتجزين.

وجاءت هذه الممارسات التي تصل إلى مصاف جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بتفويض من الحكومة السورية على أعلى المستويات.

وبهذه المناسبة، علقت لين معلوف، نائبة مدير قسم البحوث في المكتب الإقليمي لمنظمة العفو الدولية في بيروت قائلةً: “تكشف الفظائع التي يوردها التقرير الحالي النقاب عن حملة وحشية خفية تجري بتفويض من الحكومة السورية على أعلى المستويات، وتهدف إلى قمع أي شكل من أشكال المعارضة في صفوف الشعب السوري.”

وأضافت معلوف قائلةً: “نطالب بأن توقف السلطات السورية فوراً الإعدامات خارج نطاق القضاء، والتعذيب وغيره من ضروب المعاملة السيئة المرتكبة في صيدنايا، ومختلف السجون الحكومية في سوريا.  ويتعين على حليفتي سوريا، روسيا وإيران، أن تضغطا من أجل وضع حد لسياسات الاحتجاز الدموية هذه”.

وأردفت لين معلوف القول إنه “لا يجوز أن تتجاهل المحادثات السورية المزمعة في جنيف هذه النتائج.  ويجب أن يشمل جدول الأعمال بند وقف الفظائع في سجون الحكومة السورية.  ويتعين على الأمم المتحدة أن تجري فوراً تحقيقاً مستقلاً في الجرائم التي تُرتكب في صيدنايا، وتطالب بالسماح للمراقبين الدوليين بدخول جميع مراكز الاحتجاز”.

ويكشف التقرير النقاب عن وجود ممارسة معتادة تنطوي على تنفيذ إعدامات جماعية شنقاً خارج نطاق القضاء، جرت داخل سجن صيدنايا خلال الفترة ما بين عامي 2011 و2015.  وشُنق الضحايا بشكل أسبوعي، وبواقع مرتين في الأسبوع أحياناً، عقب اقتيادهم في مجموعات تصل إلى 50 شخصاً في منتصف الليل، وفي إطار من السرية التامة.  وثمة أسباب وجيهة تدفع إلى الاعتقاد باستمرار العمل بهذه الممارسة المعتادة حتى يومنا هذا.  وقُتلت أيضاً أعداد كبيرة من المحتجزين جراء سياسات الإبادة التي تطبقها السلطات، وتشمل تكرار تعذيب المحتجزين، وحرمانهم من الحصول على الطعام والماء والدواء والرعاية الطبية.  ويُجبر محتجزو صيدنايا، علاوة على ذلك، على الانصياع لمجموعة من القواعد السادية والوحشية.

وتستند نتائج التقرير إلى تحقيقات مستفيضة أُجريت على مدار عام كامل بدأت في ديسمبر/ كانون الأول 2015، وانتهت في نفس الشهر من العام التالي.  وتضمن هذه التحقيقات إجراء مقابلات حية مع 84 شاهداً بينهم حراس وموظفون ومحتجزون سابقون في سجن صيدنايا، وقضاة ومحامون، علاوة على خبراء محليين ودوليين في شؤون الاحتجاز في سوريا.

ووفق تقرير سابق أصدرته في أغسطس/ آب 2016،تعاونت منظمة العفو الدولة مع فريق المختصين في “مشروع علم العمارة الجنائية”، بجامعة غولدسميث، من أجل وضع نموذج افتراضي ثلاثي الأبعاد لسجن صيدنايا، فقدرت أن أكثر من 17 ألف شخص قد لقوا حتفهم في مختلف سجون سوريا منذ بدء الأزمة، في 2011، جراء الظروف غير الإنسانية، والتعذيب في الحجز.  ولا يشمل هذا الرقم ما يُقدر بنحو 13 ألف حالةوفاة أخرى ناجمة عن الإعدامات خارج نطاق القضاء، والتي يكشف التقرير الحالي النقاب عنها.

دور محكمة الميدان العسكرية

لا يحظى أحد من المحتجزين المحكوم عليهم بالإعدام شنقاً في صيدنايا بما يمت للمحاكمات المعهودة بصلة من قريب أو بعيد.  ويخضع المحتجزون قبل إعدامهم لإجراءات قضائية صورية لا تستغرق أكثر من دقيقة واحدة أو اثنتين، أمام ما يُعرف بمحكمة الميدان العسكرية.  وتتصف هذه الإجراءات بأنها من الإيجاز والتعسف بحيث يستحيل معهما أن يتم اعتبارها كإجراءات قضائية معتادة.  وساعدت إفادات موظفين وحراس وقضاة ومحتجزين سابقين منظمة العفو الدولية على رسم تفاصيل صورة الإجراءات التي تشبه المهزلة، وتنتهي بإعدام المحتجزين شنقاً.

وأخبر قاضي سابق في محكمة الميدان العسكرية منظمة العفو الدولية أن هذه “المحكمة” تعمل خارج نطاق قواعد وأصول النظام القانوني السوري.  وقال القاضي السابق: يسأل القاضي عن اسم المحتجز، وعما إذا كان قد ارتكب الجريمة أم لا.  وسوف تتم إدانة المحتجز بصرف النظر عن إجابته.  فهذه المحكمة لا علاقة لها بسيادة القانون، بل إنها ليست محكمة في المقام الأول”.

وتستند الإدانات الصادرة عن هذه المحكمة المزعومة إلى اعترافات كاذبة انتُزعت تحت التعذيب.  ولا يُسمح للمحتجزين بالاتصال مع المحامي، أو الدفاع عن أنفسهم، ناهيك عن تعرض معظمهم للاختفاء القسري، واحتجازهم سرا بمعزل عن العالم الخارجي.  ولا يعلم هؤلاء المحكومون بالإعدام عن مصيرهم شيئا إلا قبل دقائق قليلة من موعد تنفيذ الحكم شنقاً.

عمليات شنق جماعية

تُنفذ عمليات الشنق في صيدنايا مرة واحدة أو اثنتين أسبوعياً، وعادة ما يجري ذلك في منتصف ليل أيام الاثنين والأربعاء من كل أسبوع.  ويُقال لمن تُتلى أسماؤهم أنه سوف يتم ترحيلهم إلى سجون مدنية داخل سوريا، ولكن يتم إيداعهم بدلا من ذلك في زنزانة تقع في قبو السجن، ويتعرضوا للضرب المبرح داخلها.  ويتم بعد ذلك نقلهم إلى مبنى آخر من مباني السجن، ويتم إعدامهم شنقاً.  ويظلون طيلة مراحل هذه العملية معصوبي الأعين، ولا يعلمون أنهم على وشك الموت إلا عندما يُلف حبل المشنقة على أعناقهم.

وقال قاضي سابق شهد عمليات الشنق: “اعتادوا ترك أجسادهم متدلية من المشانق مدة 10 دقائق أو 15 دقيقة.  ولا يموت البعض لأن وزنه خفيف، فوزن الأشخاص أصحاب الوزن الخفيف لا يكفي لقتلهم.  فيقوم المساعد حينها بجذب أجسادهم إلى الأسفل فيكسر أعناقهم”.

وأبلغ محتجزون تواجدوا، في المبنى الكائن فوق ما يُعرف “بغرفة الإعدام”، أنهم سمعوا أحيانا أصوات عمليات الشنق هذه.

وقال “حامد” الذي كان ضابطاً في الجيش السوري وجرى اعتقاله في 2011: “لو وضعت أذنيك على أرضية الزنزانة لسمعت صوت يشبه الغرغرة، وكان الصوت يستمر مدة 10 دقائق… لقد كنا ننام فوق أناس يختنقون حتى الموت.  وكان ذلك أمراً طبيعيا بالنسبة لي حينها”.

وقد تشهد الليلة الواحدة شنق 50 شخصاً في بعض الأحيان، ويتم نقل جثثهم بالشاحنات كي يتم دفنها سراً في قبور جماعية.  ولا تحصل عائلاتهم على أية معلومات تتعلق بهم.

سياسة الإبادة

أورد الناجون من سجن صيدنايا إفادات مخيفة وصادمة عن طبيعة الحياة داخل ذلك السجن.  واستذكروا عالماً صُمم بعناية من أجل إذلال العالقين داخله، وإهانتهم وإمراضهم وتجويعهم، ومن ثم قتلهم في نهاية المطاف.

وأدت هذه الروايات المروعة بمنظمة العفو الدولية إلى الاستنتاج بأن المعاناة، والظروف المروعة السائدة في صيدنايا، قد طُبقت عمداً بحق المحتجزين ضمن سياق سياسة قوامها الإبادة.

وقال الكثير من السجناء أنهم تعرضوا للاغتصاب، أو أنهم أُجبروا على اغتصاب سجناء آخرين في بعض الحالات.  ويُستخدم التعذيب والضرب كشكل منتظم من أشكال العقاب والإهانة، وبما يفضي في الغالب إلى التسبب بإصابات أو عاهات مستديمة، أو الوفاة.  وتغطي الدماء وقشور الجرب المتساقطة من جروح السجناء أرضية الزنزانات، ويقوم حراس السجن بجمع جثث المحتجزين في حوالي الساعة 9 من صباح كل يوم.

وقال “نادر”، الذي سبق وأن كان محتجزاً في سجن صيدنايا: “توفي شخصان أو ثلاثة يومياً في عنبرنا.  واذكر أن الحارس اعتاد أن ينادي مستفسراً عن عدد الوفيات صباح كل يوم: غرفة رقم 1: كم واحد؟ وغرفة رقم 2: كم واحد؟ وهكذا دواليك.  وحدث ذات مرة وأن دخل الحراس غرفنا واحدة تلو الأخرى، وانهالوا علينا ضربا مستهدفين مناطق الصدر والرأس والعنق، وتوفي 13 شخصاً من عنبرنا في ذلك اليوم”.

ويتم بشكل منتظم قطع إمدادات الطعام والماء، وعندما يتم جلب الطعام، يُدفع بطريقة تتسبب بانسكابه على أرضية الزنزانة ليختلط مع الدماء والقاذورات.  وأما القلة القليلة التي تغادر صيدنايا على قيد الحياة، فيخسر أصحابها أكثر من نصف وزن أجسامهم، مقارنة بما كانوا عليه قبل اعتقالهم.

وتُطبق في صيدنايا مجموعة من “القواعد الخاصة” به دون غيره من السجون.  ولا يُسمح للسجناء بإحداث أي صوت، أو الكلام، أو حتى التهامس فيما بينهم.  ويُجبرون على اتخاذ وضعية معينة بمجرد دخول الحراس إلى الزنزانات، والموت هو عقوبة من يجرؤ على اختلاس نظرة إلى وجوههم.

فيتعين على المجتمع الدولي، ولا سيما مجلس الأمن، أن يتحرك بشكل فوري وعاجل كي يضع حداً لهذا العذاب.

لا يجوز السماح باستمرار قتل آلاف السجناء العزل بصورة وحشية داخل سجن صيدنايا، مع ما يرافق ذلك من برامج ممنهجة، صُممت بعناية لإلحاق التعذيب البدني والنفسي بهم

وقالت لين معلوف: “يجب أن يصدر مجلس الأمن قراراً حازماً، ولا يجوز له أن يغض الطرف عن هذه الجرائم المروعة، ويتعين عليه أن يصدر قراراً يطالب فيه الحكومة السورية بفتح أبواب سجونها أمام المراقبين الدوليين.  ويجب على مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة أن يطالب فوراً بفتح تحقيق مستقل في هذه المخالفات الجسيمة لأحكام القانون الدولي”.

واختتمت معلوف تعليقها قائلةً: “لا يجوز السماح باستمرار قتل آلاف السجناء العزل بصورة وحشية داخل سجن صيدنايا، مع ما يرافق ذلك من برامج ممنهجة، صُممت بعناية لإلحاق التعذيب البدني والنفسي بهم.  ولا بد من جلب المسؤولين عن هذه الجرائم الوحشية للمثول أمام القضاء”.

الأساليب اليائسة التي استخدمها السجناء الناجون من التعذيب في سوريا

تشير التقديرات إلى أن أكثر من 17000 شخص ماتوا في السجون السورية ومراكز الاحتجاز منذ عام 2011. أما أولئك الذين نجوا من الموت، فإنهم اضطروا إلى اتخاذ إجراءات لا يمكن تخيلها حتى يظلوا على قيد الحياة.

جميع الاقتباسات الواردة أدناه نُقِلت عن مقابلات مع محتجزين سابقين في أوائل عام 2016.

عدم الإفصاح عن الظروف الصحية

“خلال”حفل الترحيب” سألونا إن كنا نعاني من أمراض أم لا. في ذلك الوقت، ظننت أن من الأفضل أن أخبرهم أن كليتي تضررت حتى أتلقى علاجاً جيداً. سألوا صديقي أولاً، وأجابهم قائلاً، “نعم، أعاني من مشكلات في التنفس- لدي مرض الربو”. قال الحارس، “حسناً، عندك حالة خاصة”. ثم أخذوا يضربونه حتى مات، هناك أمامي. عندما جاء دوري، قلت لهم إنني على أحسن ما يرام ولا أعاني من أي مشكلة صحية.”

“كان علي أن أجلس هناك، وأشاهد الحراس وهم يضربون المحتجزين الذكور لمدة ساعة. كانوا يضربونهم بأدوات مختلفة، خرطوم ري أخضر، وقضيب مصنوع من السليكون، و قضيب حديدي له كرة بها مسامير في الأعلى. أطلقت صيحات خلال المرات الثلاث الأولى عندما أجبروني على مشاهدة منظر التعذيب لكن الحراس ضربوني لأسكت. يجب علينا أن نكون محايدين تماماً خلال ساعة التعذيب. كنت أقول لنفسي إن ما أشاهده ليس حقيقياً وإنما فيلم رعب يستمر لمدة خمسة عشر دقيقة ثم ينتهي كل شيء.”

الحفاظ على الدفء

“في الشتاء، ينزل برد شديد على الزنازين، ولهذا كان علينا أن نتشارك في البطانيات التي عندنا مثل حشرة الشرنقة حتى نغطي أنفسنا جيداً ونحصل على أكبر قدر ممكن من الدفء. كنا نرتدي الملابس التي اعتقلنا بها، ولهذا لم يكن أمامنا سوى أن نتدفى بكل ما عندنا من ملابس عند اعتقالنا. إذا كنت قد اعتقلت في فصل الصيف، فإنك ستعاني متاعب كثيرة.”

“أصبح السجناء الآخرون أكثر من إخوة. لم يكن بالإمكان على الإطلاق أن يحصل هذا النوع من التقارب بينهم خلال الحياة العادية. ربما لم يكن بالإمكان أن يتفق هؤلاء الأشخاص فيما بينهم لو كانوا طلقاء خارج أسوار السجن، ربما كانوا سيكرهون بعضهم بعضاً، لكن هنا في الداخل، أصبحنا عائلة واحدة. قد يكون السجين علمانياً، والآخر مسلماً سنياً شديد التدين، ومع ذلك يصبحان أفضل صديقين. نتقاسم كل شيء بما في ذلك الملابس، ونبادر إلى مساعدة أي شخص يبكي أو يفقد عقله.”

النسيان

“الوسيلة الوحيدة للتغلب على طول الوقت في السجن هي التفكير في أسرتك وأصدقائك. لكن على المرء أن يتعلم كيف يتكيف مع هذا الوضع ويحاول النسيان. ولهذا، بدأت أنسى. فقدت ذاكرتي ولم أعد أتبين ملامح أصدقائي في الجامعة. ثم لم أعد أتذكر الوجوه التي كنت أعرفها خلال السنوات القليلة الماضية. ظللت أحاول وأحاول إلى أن تمكنت من استعادة وجه أمي عندما كانت شابة وكنت أصغر سناً.”

نأكل كل شيء

“في البداية، قدموا لنا علبا بها قطع برتقال وخيار. بدأنا في فتح البرتقال وإلقاء القشور على الأرض. ركض سجناء آخرون وانقضوا عليها اعتقاداً منهم أن قشور البرتقال لذيذة جداً، ولهذا قدمت كجائزة! تصرفنا مثلهم لكن سرعان ما تعرضنا لصدمة حقيقية. بدأنا نأكل قشور البيض أيضا للحصول على الكميات المطلوبة من الكالسيوم. كنا نضع الأرز، والحساء، وقشور البرتقال، وقشور البيض في قطعة خبز واحدة. وبهذه الطريقة، كنا نشعر بأننا نأكل وجبة متكاملة، كان الوضع مقززاً أن نضع هذه المكونات (المتنافرة) مع بعض ونأكلها لكن هذه الوجبة كانت إلى حد ما تساعدنا فيما نحن فيه.”

“كان حراس السجن يطلبون منا دائما أن نرسل خمسة منا للتعذيب، ولهذا كنا ننظم أنفسنا بحيث لا نضطر إلى إرسال صغار السن والشيوخ. شكلنا مجموعة تتكون من نحو 20 شخصاً من ذوي البنى الجسمية المتينة. كان ثلاثة منا يذهبون دائماً تقريباً. كنت أذهب لأني كنت في حاجة إلى أن أصيح من شدة الألم. شعرت بالقلق، لأنني فقدت الإحساس ولم تعد تنتابني أي مشاعر. كان الوضع غريباً، لكنني مع ذلك كنت أتطوع حتى أُعَذب وتستحوذ علي المشاعر ذاتها مرة أخرى.”

تبادل الطعام

“بدأ الأمر مع أحد الأشخاص الذي كان يجلس في الزنزانة ولا يكف عن الصياح. قال لي إنه فقد الأمل تماماً في الخروج من هذا المكان.” قال “لست غاضباً ولكني أتضور جوعاً، لا أفكر سوى في الأكل.” حاولت أن أفكر كيف أساعده. كنا نخوض معركة حقيقية من أجل البقاء على قيد الحياة. إذا أعطيتك طعامي، فقد أموت من الجوع، وإذا أعطيتني طعامك فقد تموت من الجوع.

في نهاية المطاف، أعطيته كسرة الخبر التي كانت عندي في ذلك اليوم، ونصف كمية الأرز المخصصة لي. وكهذا، بدأنا نتبادل الطعام. قلت له إن ثمن كسرة الخبز هو قطعة خبز كاملة. لم يمكن بإمكانه أن يسددها سوى على دفعات في غضون أربعة أيام. كنا جميعاً نتضور جوعاً ونشعر بالبؤس، لكن هذا الفعل ساعدنا في البقاء على قيد الحياة. كان يعني أن بإمكاننا أن نتقاسم الطعام حسب الشخص الذي كان يعاني أكثر من غيره. الأمر الذي كان يبقي عقولنا نشطة. كنا دائماً نخطط لفعل شيء ما أي ندافع عن أنفسنا حتى نحافظ على إنسانيتنا. قبل هذا الوضع، كانت عقولنا تكتفي بالتفكير في كيفية الحصول على الطعام والأكل ثم الأكل والأكل. لكن الآن صرنا نفكر في كيفية التعاون فيما بيننا والعمل سوياً.”

“الخوف الذي لا يفارقنا”: قصة ناجٍ من سجن التعذيب

حسام،(اسم وهمي)، ناشط سلمي، لا يزال على قيد الحياة بعد أن أمضى 20 شهراً في سجن صيدنايا، أكثر السجون وحشية في سوريا. اليوم، وبعد انتقاله إلى مركز احتجاز آخر، يكتب حسام هذه الرسالة في محاولة منه لوصف “الجحيم اليومي” الذي عاشه في السجن.

إلى من يهمّه الأمر

ما سأسرده ليس من نسج الخيال وليس من أجل كسب التعاطف.

من أقبيتنا المعتمة وراء الشمس نرفع أصواتنا تناديكم … تبحث عن صدىً لها … عن أمل بوقف الجرح النازف حياة  ورود شباب وشابات بلدنا، ويوقف الحريق الذي يلتهم زهوة أعمارهم في سجون ومعتقلات الأسد … مكانهم ليس هنا … ولم يكن هنا يوماً. فهم لم يخلقوا ليكونوا ورقة بيد الأسد ونظامه الديكتاتوري، أو حطباً في محرقته التي يغذيها بالحقد وشهوة انتقامه لمجرد أننا حلمنا بوطن حر كريم يحفظ حقوقنا.

أحدثكم لأذكركم بآلاف الأرواح التي أزهقت ولا زالت تزهق ولأروي لكم عن هدر كرامتنا، عن الموت المتربص في كل مكان حولنا في ذرات الهواء، في الماء الذي نشرب، في عصا السجان التي تأكل ما بقي من جلودنا وأجسامنا.

تخونني الكلمات وتعجز عن وصف جحيمنا اليومي في الفروع الأمنية، حيث يكون ثمن أحدنا بطانية يلف فيها بعد موته، وحين يكون الخيار أمامك بين موت سريع بين يدي المحقق في حال لم تعجبهم أقوالك وموت بطيء في الزنزانة يحتل جسدك رويداً رويداً.

عن الخوف الذي لا يفارقنا حتى بعد مغادرتنا السجن، الخوف من العودة إلى صيدنايا، الخوف على من يدخلونه حديثاً ، الخوف على الأصدقاء الذين تركناهم هناك ، عن خوفي حتى الآن من صوت الأبواب الحديدية، عن أصوات الصراخ التي لا تغادرني حتى وقت النوم، عن خوفنا من الرحلة إلى المحكمة، عن بردنا ، ومرضنا ، وجوعنا الذي لا يشبهه أي جوع …فنحن هنا نقتات قشر البيض، وقشر البرتقال – إن وجد -، وحتى التراب.

اختبرنا أقسى درجات الجوع … والطعام يرمى في الممر أمامنا ولا نستطيع أن ننال منه كسرة خبز، اختبرنا ماذا يعني أن يوضع الطعام في المهجع أمامنا دون أن نتجرأ على لمسه لأننا معاقبون تبعاً لمزاج السجان …

اختبرنا أن نعيش العطش حد عدم قدرتنا على فتح شفاهنا التي التصقت ببعضها … شهدنا كيف يمكن أن تموت فقط لأنك شكوت مرضك أو طلبت حبة دواء.

ذوت أجسادنا ووهنت واستحالت عظاماً ضاق عليها الجلد واستباحتها الأمراض فمن يسلم من السل لا يسلم من الإسهال والخراجات والجرب.

ودعنا أصدقائنا … الكثير الكثير من أصدقائنا … كنا ننتظر دورنا في أية لحظة وأحياناً كنا ننادي الموت لأننا كنا نرى فيه خلاصنا.

كل هذا كنا نعيشه دون أن يسمع أحد أنيننا الواهن في برد ليل صيدنايا، ودون أن يلتفت أحد لصراخنا تحت لهيب السياط تكوي أجسادنا في المعتقلات التي تنتشر في مدننا.

كُتبَ لي عمر جديد بتحويلي من سجن صيدنايا، وأطالبكم باسمي واسم أصدقائي المعتقلين في هذا السجن وفي سجن صيدنايا، بأن لا تدخروا أي جهد في إنقاذ جميع المعتقلين والمعتقلات، وأن توقفوا هذا النظام المجرم الذي لازال يصلينا وأصدقاءنا في المعتقلات ولخمس سنوات متواصلة ألماً يفوق الوصف.

ألماً آن له أن يزول من دون عودة.

معتقل وما زال

تم ارسال هذه الرسالة إلى منظمة العفو الدولية من قبل حملة “أنقذوا البقية”، وهي حملة حقوقية سورية تركّز على قضايا الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري.

العفو الدولية: نظام الأسد أعدم 13 ألف معتقل بصيدنايا

اتهمت منظمة العفو الدولية في تقرير، اليوم الثلاثاء، النظام السوري بتنفيذ إعدامات جماعية سرية شنقا بحق 13 ألف معتقل، غالبيتهم من المدنيين المعارضين، في سجن صيدنايا قرب دمشق، خلال خمس سنوات منذ بداية الثورة في سورية.

وقالت المنظمة الحقوقية في تقريرها وعنوانه “مسلخ بشري: شنق جماعي وإبادة في سجن صيدنايا”، إنه “بين 2011 و2015، كل أسبوع، وغالبا مرتين أسبوعيا، كان يتم اقتياد مجموعات تصل أحيانا إلى خمسين شخصا إلى خارج زنزاناتهم في السجن، وشنقهم حتى الموت”.

وتشير المنظمة إلى أنه خلال هذه السنوات الخمس “شنق في صيدنايا سراً 13 ألف شخص، غالبيتهم من المدنيين الذين يعتقد أنهم معارضون للنظام”.

وأوضحت المنظمة أنها استندت في تقريرها إلى تحقيق معمق أجرته على مدى سنة من كانون الأول/ديسمبر 2015 إلى كانون الأول/ديسمبر 2016، وتضمن مقابلات مع 84 شاهدا، بينهم حراس سابقون في السجن ومسؤولون ومعتقلون وقضاة ومحامون، بالإضافة إلى خبراء دوليين ومحليين حول مسائل الاعتقال في سورية.

وبحسب التقرير فإن هؤلاء السجناء كان يتم اقتيادهم من زنزاناتهم وإخضاعهم لمحاكمات عشوائية وضربهم ثم شنقهم “في منتصف الليل وفي سرية تامة”.

وأوضح التقرير أنه “طوال هذه العملية يبقى (السجناء) معصوبي الأعين، لا يعرفون متى أو أين سيموتون إلى أن يلف الحبل حول أعناقهم”. ونقل التقرير عن قاض سابق شهد هذه الإعدامات قوله “كانوا يبقونهم (معلقين) هناك لمدة 10 الى 15 دقيقة”. وأضاف أن “صغار السن من بينهم كان وزنهم أخف من أن يقتلهم (الشنق) فكان مساعدو الضباط يشدونهم إلى الأسفل ويحطمون أعناقهم”.

وأكدت المنظمة الحقوقية أن هذه الممارسات ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ولكنها مع ذلك مستمرة على الأرجح. ويعتقل النظام السوري آلاف المساجين في سجن صيدنايا الذي يديره الجيش والذي يعتبر أحد أضخم سجون البلاد ويقع على بعد 30 كلم تقريبا شمال العاصمة دمشق.

واتهمت المنظمة الحقوقية في تقريرها نظام الرئيس بشار الأسد بانتهاج “سياسة إبادة” من خلال تعذيبه المساجين بصورة متكررة وحرمانهم من الطعام والماء والعناية الطبية”. وأكد التقرير أنه في سجن صيدنايا كان السجناء يتعرضون للاغتصاب أو يتم إجبارهم على اغتصاب بعضهم البعض، بينما عملية إطعامهم تتم عبر إلقاء الحراس الطعام على أرض الزنزانة التي غالبا ما تكون متسخة ومغطاة بالدماء.

وبحسب إفادات الشهود فإن “قواعد خاصة” كانت مطبقة في السجن، فالسجناء لم يكن مسموحا لهم أن يتكلموا وكان عليهم أن يتخذوا وضعيات محددة لدى دخول الحراس إلى زنزاناتهم.

ونقل التقرير عن أحد السجناء السابقين في صيدنايا وقد عرف عنه باسم مستعار هو نادر قوله “كل يوم كان لدينا في عنبرنا إثنان أو ثلاثة أموات (…) أتذكر أن الحارس كان يسألنا يوميا كم ميتا لدينا. كان يقول: +غرفة رقم 1، كم؟ غرفة رقم 2، كم؟ وهكذا دواليك”.

وأضاف نادر أنه في أحد الأيام كان التعذيب عنيفا لدرجة أن عدد الموتى في عنبر واحد بلغ 13 سجينا. ونقل التقرير عن أحد العسكريين السابقين واسمه حميد قوله إنه كان عندما كان يتم شنق المساجين بإمكانه سماع أصوات “طقطقة” مصدرها غرفة الشنق الواقعة في الطابق الأسفل”.

وأضاف حميد الذي اعتقل في 2011 “كان بإمكانك إذا وضعت أذنك على الأرض أن تسمع صوتا يشبه الطقطقة. كنا ننام على صوت سجناء يموتون اختناقا. في تلك الفترة كان هذا الأمر عاديا بالنسبة لي”.

وكانت منظمة العفو قدرت في تقارير سابقة عدد السجناء الذين قضوا في معتقلات النظام منذ بدء النزاع في آذار/مارس 2011 بحوالى 17 ألفا و700 سجين، ما يعني أن مقتل 13 ألف معتقل في سجن واحد يزيد هذه الأرقام بنسبة كبيرة.

وتعليقا على ما ورد في التقرير قالت لين معلوف نائبة مدير الأبحاث في مكتب منظمة العفو الإقليمي في بيروت إن “الفظائع الواردة في هذا التقرير تكشف عن وجود حملة خفية ووحشية تم السماح بها من أعلى المستويات في الحكومة السورية وتستهدف سحق أي شكل من أشكال المعارضة في صفوف الشعب السوري”.

وأضافت أن “قتل آلاف الاشخاص العزل بدم بارد، بالإضافة إلى برامج التعذيب الجسدي والنفسي الممنهجة والمعدة بعناية والتي يتم اتباعها في سجن صيدنايا، لا يمكن السماح لها بأن تستمر”.

وكانت الأمم المتحدة اتهمت النظام السوري في 2016 بانتهاج سياسة “إبادة” في سجونه. وأسفر النزاع في سورية عن مقتل أكثر من 310 آلاف شخص وتهجير الملايين.

(فرانس برس)

سوريا: نهاية الإنسانية؟

رأي القدس

تحت عنوان «سوريا: المسلخ البشري: عمليات الشنق الجماعية والإبادة الممنهجة في سجن صيدنايا بسوريا» نشرت منظمة العفو الدولية تقريراً طويلاً كأنه فيلم رعب لا ينتهي عن سجن صيدنايا العسكري والممارسات التي يرتكبها نظام بشار الأسد فيه.

وسائل الإعلام العالمية تناقلت الرقم المخيف الذي نتج عن عمليات الشنق الجماعي السرية التي تجري خارج أنظمة القضاء للمعتقلين المدنيين والذي قدّرته المنظمة الحقوقية بثلاثة عشر ألف شخص خلال الفترة بين أيلول/سبتمبر 2011 (عام اندلاع الثورة السورية) وكانون الأول/ديسمبر عام 2015، وتجري عمليات الإعدام مرة أو مرتين كل أسبوع حيث يشنق ما بين 20 و50 شخصاً في كل مرة ثم يجري نقل الجثث بشاحنات لتدفن في قبور جماعية.

يؤكد التقرير أن أوامر الإعدام توقع من قبل أعلى المسؤولين في الحكومة ويوافق عليها مفتي سوريا وكذلك موافقة وزير الدفاع أو رئيس هيئة الأركان كمفوضين عن الرئيس السوري، وبأن الانتهاكات داخل السجن صمّمت لإيقاع أقصى درجات المعاناة البدنية والنفسية وإهانة المعتقلين ونزع الصفة البشرية عنهم وتدمير أي شكل من أشكال الكرامة أو الأمل لديهم.

أول ما يتبادر للذهن عند قراءة التقرير هو فساد الرأي الذي أصبح، للأسف، سائداً عن وجود «حرب أهلية في سوريا» بين طرفين بحيث تتم مساواة آلة قتل طاحنة تحكم البلاد بالنار والحديد منذ خمسة عقود وتتصرف كجيش احتلال همجيّ مع الذين ثاروا عليها سلميّاً (والأغلبية الساحقة من السجناء والمشنوقين حسب التقرير هم كذلك)، أو الذين امتشقوا السلاح دفاعا عن أعراضهم وأرضهم وكرامتهم.

في الوقت الذي نُشر فيه هذا التقرير كان وفد جديد آخر من صحافيي العالم، هذه المرّة من بلجيكا، يلتقون الرئيس السوري بشار الأسد، المسؤول الأول عن هذا النموذج المصغر عن الفظاعات المهولة العامّة، ليقدّموا، بشكل أو آخر، تسويقاً جديداً له ضمن حملة علاقات عامّة كما لو كان هذا التسويق إسهاما من صحافيي وحكومات العالم في المقتلة السورية.

هذه المفارقة لا تني تتكشّف كلّ مرّة تتماهى فيها صورة الأسد مع صور المعذّبين والمهانين والمذلولين وشاحنات الجثث والعظام النافرة للقتلى والمساجين، وتنفضح واقعة أن سجون سوريا هي الوجه الحقيقي لرئيسها «الدكتور»، وأن بلاغات دبلوماسييه الأشاوس كوليد المعلم وبشار الجعفري هي نفسها كلاليب تعليق السجناء لتعذيبهم وشاحنات الموت وقذائف الغازات السامة والبراميل المتفجرة… وفي كل مرّة تهبط طائرات الصحافيين المدعوّين للمشاركة في تنظيف وتعطير المسالخ البشرية وتقديم المنبر للرئيس الطاغية ليُدلي بآرائه العجيبة، ومنها، حسب مقابلته الأخيرة إن انتخابه رئيساً لا علاقة له بأن أباه كان رئيساً. المسألة تتعلّق بمحبّة ودعم الشعب له.

لقد أصبح الأسد رئيسا إذن بدعم الشعب نفسه الذي أعدم منه في سجن واحد ثلاثة عشر ألف شخص.

حسب أحد الحراس السابقين للسجن الذين استنطقهم التقرير فإن سجن صيدنايا هو «نهاية الحياة ونهاية الإنسانية».

لكن الحقيقة أن نهاية الإنسانية هي في الممارسة المستمرة لتزيين المسلخ الذي آلت إليه سوريا تحت حكم الأسد وفي هذا يتساوى المفتي والوزير والدبلوماسي السوري مع صحافيين وسياسيين غربيين.

القدس العربي

الناجون من مسلخ الأسد مجرد كذبة!/ عمر قدور

في إنكارها تقرير «أمنيستي» (منظمة العفو الدولية)، المتعلق بإعدام نحو 13 ألف معتقل بين 2011 و2015، تقول وزارة «عدل» نظام بشار ما مفاده: لو كان الأمر هكذا من أين أتى أولئك الناجون ليدلوا بشهاداتهم؟ المنطق الذي تستخدمه الوزارة هو التالي: طالما هناك ناجون إذاً لم تكن هناك إبادة، فإما أن الإبادة كذبة أو أن الناجين هم الكذبة، بوجودهم أو بأقوالهم.

على أية حال، لا يضيف تقرير «أمنيستي» سوى بعض التفاصيل لمن خبروا مسالخ الأسد البشرية، منذ عهد الأب وصولاً إلى الابن، وهي مسالخ لم يسلم منها فلسطينيون ولبنانيون أيضاً. وكان التقرير مناسبة على وسائل التواصل الاجتماعي لاسترجاع روايات وخبرات شخصية لا تقل هولاً، منها قيام أطباء وممرضات بالإجهاز على معتقلين تدهورت حالتهم الصحية في فروع المخابرات، وأُحيلوا إلى المشافي في بدء الثورة، بل قيام ممرضات بضرب المصابين تحديداً على أماكن الوجع ما كان يدفعهم إلى ادّعاء المرض في الأعضاء السليمة!

الفائدة المتوخاة من التقرير كانت لتأتي من وضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته، لكن كما نعلم لم يتعاطَ المجتمع الدولي كما ينبغي مع توثيق 11 ألف معتقل قُتلوا تحت التعذيب، فيما عُرف بملف سيزار، على رغم الإقرار بصلاحية الوثائق من قبل مكاتب حقوقية دولية مشهود لها. وكان الكونغرس الأميركي قد استمع إلى شــهادة ســـيزار مباشرة في عهد الرئيــس الســابق أوباما، أي قبل مجيء ترامب الذي عندما ووجه قبل أيام بتقديره بوتين «القاتل» أجاب بأن هناك الكثير من القتلة، أي أننا انتقلنا من رئيس يدّعي عدم القدرة على الفعل في غياب قرار دولي إلى آخر يرى القتل من طبيعة العيش.

يذكّرنا هذا الواقع بمتذاكين أخذوا يلومون الضحايا السوريين على مقتلهم، طالما أن العالم لا يكترث بهم، ويعدّون ذلك سذاجة سورية خالصة. لكن قاطفي هذه الخلاصة السهلة يتناسون تدخل المجتمع الدولي في أماكن عدة، وإنشاء محاكم خاصة بجرائم ضد الإنسانية في يوغوسلافيا السابقة وفي السودان، ينضوي في السياق نفسه تدخل العالم للجم حكام تل أبيب عن المضي في عدوانهم على الفلسطينيين في العديد من المناسبات، وأيضاً الرأي العام الغربي الذي شهد تحولاً واضحاً لمصلحة القضية الفلسطينية، على رغم مكانة إسرائيل لديه.

هذا بالطبع لا ينفي تغيراً في المزاج الغربي، ربما لم يكن ليصبح واضحاً إلا بالموقف المتخاذل من المقتلة السورية. وكما هو معلوم يتعين التغير في تقدم النزعات الانعزالية لدى اليمين واليسار، كلّ منهما لأسبابه ووفق أيديولوجيته، وتراجع أنصار العولمة والعالمية معاً. هي موجة معكوسة عن تلك التي أعقبت نهاية الحرب الباردة، واضطلاع الغرب إثرها بدور أكثر توازناً على خلفية انتصاره واستفراده بقيادة العالم. ضمن هذا المناخ الغربي، هناك ميل واضح إلى عدم التدخل في الشأن السوري، يتمثّل إعلامياً في حالة تجاهل، وأحياناً إنكار، ما يرتكبه نظام بشار من مجازر. في حالات أخرى هناك إقرار بوحشية النظام، مع المفاضلة بينه وبين داعش لمصلحة الأول بما أن أذاه يقتصر على السوريين. وباستثناء منابر غربية قليلة حافظت على موقف مؤيد للثورة، يمكن القول بأن المنابر الأخرى بدأت تغذّي حالة التجاهل أو الإنكار لدى متابعيها.

المفارقة كانت طوال سنوات أنه بقدر ما أمعن النظام في وحشيته تفاقمت حالة التجاهل أو الإنكار في الغرب، هذه هي الهدية التي لم تخطر في بال قادة النظام، لكنهم أدركوا فائدتها وراحوا يستغلونها. المسألة تتعلق بجعل كافة الانتهاكات غير قابلة للتصديق، وفي غياب العدالة الدولية ستبدو جميع الانتهاكات بمثابة روايات تفتقر إلى الصدقية.

في مثال تقرير «أمنيستي»، يبدو الكثير من الوقائع غير قابل للتصديق حتى من سوريين لم تصل مخيلتهم إلى ملامسة الواقع الإجرامي، ومن المفارقة أن الأقرب إلى التصديق في الغرب ربما أولئك الذين يرون في الشرق مرتعاً لوحوش قادرة على فعل أي شيء خارج العقل والإنسانية، والغالبية منهم قد تشاطر ترامب وأمثاله وجهة نظر ترك الشرق لصراع وحوشه.

تأتي أهمية تقرير «أمنيستي» من أنها منظمة موثوقة دولياً، ذلك لا يمنحها صدقية تلقائية وفق المعطيات السابقة، فالرهان الإعلامي مع الأسف تدنى إلى مستوى إقناع العالم بأن الناجين من المسلخ ليسوا كذبة، وأن العلة هي في إنسانية لا تصدّق وجود بربرية على هذا النحو إلى جوارها، إذا حكّمنا حسن الظن. لقد فهم نظام بشار أن تصعيد وحشيته لن يجعل الغرب أكثر حساسية أو حماساً إزاء الضحايا، حدث هذا على الأرجح منذ صفقة الكيماوي، ومنذ ذلك الحين تفاعلت الطبقة السياسية الغربية في شكل مدهش مع التصعيد، فقابلته نسبة كبيرة منها بالتراجع عن المواقف المنادية بتنحي بشار، وصولاً إلى تلك التي لا ترى عيباً في التعاون معه.

بالطبع، ستكون هذه وصفة سحرية لتعزيز اليأس، بوجود اعتراف من منظمات دولية ذات صدقية بارتكاب النظام جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، من دون بناء مواقف دولية عليه، ومن دون أي تحرك شعبي مرموق على مستوى الحدث، وليكن مثلاً تحركاً على غرار المظاهرات الغربية التي نددت بالعدوان الإسرائيلي الأخير على غزة. وسيكون مثيراً للاشمئزاز ذلك الاستعجال الذي يبديه ديميستورا لعقد محادثات جنيف التي تكرس المجرمين شركاء، بينما يكتفي الأمين العام للأمم المتحدة بإبداء شعوره بالرعب إزاء التقرير، وإخفاء عجزه عن أي فعل آخر.

لا إهانة توازي إنكار معاناة البشر أو تجاهلها، هي إهانة يليق بها أولاً أقسى أنواع الغضب. لكن نخطئ إذ نربط تلقائياً بين شعور إنساني محقّ هو الغضب، والذهاب بناء عليه إلى سلوك عدمي هو الإرهاب، فهذا الربط إذا كان يؤرق الغرب مرة فهو يسرّ خاطر بشار وداعميه عشرات المرات. في معركة سياسية طويلة، لا يجوز إغفال العقلانية ولا المواظبة على قرع الأبواب الموصدة. تقرير «أمنيستي» وأمثاله قد لا تعِد بالجدوى سريعاً، البناء عليها واستثمارها مهمة شاقة، البديل هو الاستهانة بها واعتبار هذه المنظمات جزءاً من منظومة متواطئة. أليس هذا ما يقوله نظام بشار أيضاً؟

الحياة

صناعة الموت في سورية/ برهان غليون

تقرير منظمة العفو الدولية الذي وثّق 13 ألف حالة إعدام في سجن صيدنايا، خلال السنوات الخمس الماضية وحدها، مع ما رافق ذلك من أعمال التعذيب والتنكيل وكل أشكال الحط بالكرامة الإنسانية، أثار رد فعل واسعا في الأوساط الدبلوماسية والإعلامية الدولية. وبعد أن وصفت المنظمة السجن بالمسلخ البشري، ونقلت صورا من الهمجية غير المسبوقة فيه عن تدمير المعتقلين نفسيا وجسديا، قال وزير الخارجية البريطاني، بوريس جونسون، إن تقارير “العفو الدولية” عن الإعدام في سورية أصابته بالغثيان. وصرح وزير الخارجية الفرنسي، جان مارك إيرو، بأن هذه الوحشية لا يمكن أن تكون مستقبل سورية. وصرّح السفير الأميركي السابق لشؤون جرائم الحرب، ستيفن راب، في مقابلة مع “سي إن إن” بأن هذه الإعدامات ليست سوى جزء من قائمة تضم أكثر من 50 ألف سوري عذبوا وقتلوا على يد حكومتهم بتوجيهاتٍ من أعلى المستويات، وهي جرائم ترتكب بإشراف المؤسسة العسكرية السورية، ومؤسسات أخرى، تحت إمرة الرئيس السوري، “والأدلة التي بحوزتنا ضخمة يمكنها أن تقود إلى محاكمة واضحة وصريحة على المستوى الدولي”. أما رئيس لجنة الأمم المتحدة للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان في سورية، باولو بينيرو، فقد صرح لـ”رويترز” “لدينا معلومات مستفيضة بشأن التفاصيل الممنهجة للمراسم المنتظمة التي يقيمونها لعمليات الإعدام الجماعي أمام حضور من المسؤولين الحكوميين”.

والواقع أن هذه الإعدامات الجماعية ليست إلا فصلا من كتاب الموت الذي أصبحت صناعته البرنامج الوحيد لنظام الأسد منذ عقود، والذي رفض العالم من قبل قراءته أو حتى تصفحه، مفضلا إمعان النظر في كرافات بشار الأسد وثياب زوجته المختارة من أكبر بيوت الأزياء العالمية، بل إن الإعدامات في هذا الفصل أقلّ وحشيةً، على الرغم من هولها مما يسبقها والطريق الذي يوصل إليها، حتى أن المتظاهرين كانوا يقولون لنا إن ما يخشونه ليس الموت برصاص الجنود، وإنما الاعتقال من قوات الأمن”.

لا يمكن لهذه الإعدامات المشينة إلا ان تذكّرنا، وينبغي أن تذكّرنا، بفصول الكتاب الأخرى التي لا تقل شناعةً عنها، وفي مقدمها استخدام حصار التجويع “واحداً من تكتيكات الحرب، وذلك

“الإعدامات الجماعية ليست إلا فصلا من كتاب الموت الذي أصبحت صناعته البرنامج الوحيد لنظام الأسد منذ عقود” لإجبار أهالي المدن والبلدات على الاستسلام بعد تجويعهم”، كما جاء في تصريح سابق لباولو بينييرو نفسه، والذي يتسبّب في إبادة مدن وأحياء كاملة وموت جزء من سكانها وتشريد من بقي حيا منهم، أو عن القتل الجماعي بالقصف الأعمى بجميع الأسلحة الثقيلة، وبالبراميل المتفجرة التي تتساقط على المدن السورية يوميا منذ ست سنوات، لا على التعيين، أو الهجومات بالأسلحة الكيميائية والقنابل الحارقة والغازات السامة، أو عن اصطياد الشباب من الطرقات وإجبارهم على القتال كدروع بشرية، حتى لم يعد يرى المرء في شوارع المدن السورية سوى النساء والشيوخ والاطفال، إلى جانب مرتزقة الحشود الطائفية الأجنبية.

أمام هذا الكم الهائل من الانتهاكات التي حوّلت المجزرة البشرية إلى حدثٍ يومي عادي، تركّزت الأسئلة، عن حق، على سكوت المجتمع الدولي وشلله، على الرغم مما تقدمه منظماته الإنسانية نفسها من براهين دامغة على كارثةٍ، لا يبدو أن دولاً كبرى كثيرة تشعر بالقدرة على مواجهتها أو بالمسؤولية عن إيقافها. والحقيقة أن موقف الحكومة الروسية شكل عاملا حاسما في تعطيل قرارات الأمم المتحدة، أو تفريغها من محتواها، لأسباب جيوسياسية واستراتيجية، لم يعد أحد يجهلها، وهي وضع المصالح الكبرى للدولة الروسية، وتحسين موقعها على خريطة النفوذ الدولي، وتأكيد حقها في أن تكون طرفا مرهوب الجانب، ومسموع الكلمة من أندادها من الدول الكبرى، وأن تحترم مصالحها، حتى التوسعية منها. لكن، ما كان لهذا الموقف الروسي أن يتجلى بهذه الصورة، ولا أن يستمر في تحديه جميع المواثيق والأعراف الدولية والاعتبارات الإنسانية، لو لم يصادف في مواجهته سقوطا أخلاقيا عالميا شاملا نابعا من التخلي عن قيم التضامن الإنسانية، والتواطؤ المشترك، وغير المعلن، ضد القانون والعرف الدوليين، والانكفاء على الذات، والقبول بدفع أي ثمن، بما في ذلك السير على جثث الشعوب والجماعات، ودوس روادع الدين والثقافة والبداهة العقلية، للحفاظ على مصالح خاصة قومية أو فئوية، تبدو مهدّدة أكثر فأكثر. وربما كان هذا من مظاهر الأزمة التي تمر بها المنظومة الدولية، وفي صلبها مأزق الهيمنة الدولية والرأسمالية المعولمة وتخبط سياساتها. كل الدول تشعر في هذه الأزمة بالهشاشة، ومخاطر الخسارة والتراجع، وربما فقدان السيطرة، بما في ذلك الدولة الأعظم، وكل طرفٍ يحاول أن ينقذ نفسه بأي ثمن. العالم كله، وقد تحوّل إلى جسم واحد، هو اليوم في مأزق إعادة ترتيب شؤونه وضبط علاقاته وفتح نوافذ أمل صغيرة، لطمأنة مجتمعاته.

لكن السؤال الأهم والأصعب يتعلق بنا نحن. كيف أمكن لنظام حكمٍ، أقام شرعيته على رفع

“نسأل لماذا تخلى العالم عنا، لكن مهم، بالمقدار ذاته، أن نعرف أيضا كيف تحول “نظام حكم” إلى جزّار، وحول البلاد إلى مسالخ مفتوحة في كل مكان؟” شعارات الدفاع عن حقوق الشعب، وتبنى أيديولوجيات شعبوية اشتراكية وإنسانية ضد الرأسمالية والاستغلال والإقطاعية، وبرّر انقلابه على الدستور، وتخليد ديكتاتورية أبوية بالدفاع عن حقوق سورية القومية ومقاومة التوسعية الإسرائيلية، وجعل من موضوع السيادة الوطنية مسألة هوية، أن ينزلق إلى ما انزلق إليه، ويتحوّل إلى آلة قتل منهجي ومنظم لشعبه، ويحول سورية بأكملها إلى مسلخٍ تسيل فيه الدماء في كل زاويةٍ وبيت، ويفقد فيه الإنسان روحه وعقله وإنسانيته كل يوم ألف مرة. كيف فقد النظام عقله، أو هل كان يتمتع بالفعل بحدٍّ أدنى من العقلانية والعقل، أعني هنا من السياسة، أم كان منذ بدايته نظام حرب؟

سجن صيدنايا والسجون السورية جميعا ليست وحدها المسالخ البشرية في سورية. والسلخ فيها لا يقتصر على سنوات الثورة الست، فكل دائرة عسكرية أو أمنية، وكل فرقة وكتيبة أو فرع أمن، وكل مدرسة ومصنع، وكل حي أو شارع، هو مركز لسلخ الإنسان عن ذاته وكرامته وحريته وأهله وحقوقه، عن قيمه، ومحطة لتحطيمه وإعطابه، روحيا وجسديا، بكل وسيلةٍ ممكنة، وفي كل وقت. سلخه عن جلده بالمعنى الحرفي للكلمة هو التجسيد النهائي لعملية نزع الإنسانية التي أقام عليها نظام الأسد حكمه، منذ أكثر من أربعة عقود، والتي أراد من خلالها أن يحول الانسان إلى حيوان، بالمعنى البيولوجي للكلمة، ويفرغ سورية من شعب/ها، أي من ذاتها، كما يفعل تماما الآن بالعنف الشامل، حتى تكون ملكا خالصا له، بدولتها وأرضها ومن عليها. لم ير النظام في السوريين في أي لحظةٍ شيئا آخر، بشرا يجدر التعامل معهم، وإنما زوائد وحثالات وقوارض، ينبغي التخلص منهم، أو تحييدهم بأي ثمن، وفي أحسن الحالات، تكبيلهم بالقيود والأصفاد، لاستخدامهم في أعمال السخرة والخدمة المجانية.

مهم أن نسأل لماذا تخلى العالم عنا، لكن مهم، بالمقدار ذاته، أن نعرف أيضا كيف تحول “نظام حكم” إلى جزّار، وحول البلاد إلى مسالخ مفتوحة في كل مكان؟ ما هو أصل الهولوكوست الأسدي؟ كيف أصبحت الإبادة سياسةً، وصار نزع الإنسانية عقيدة ومذهبا. هذا هو السؤال الذي سأحاول الإجابة عنه في مقال لاحق.

العربي الجديد

بلاط المسلخ البارد/ رشا عمران

ما الذي سيغيّره تقرير منظمة العفو الدولية (أمنستي) الجديد المسمى “سورية مسلخ بشري”، والذي يتحدث عن ثلاثة عشر ألف معتقل تم إعدامهم بأشد الطرق وحشيةً وإجراماً في سجن صيدنايا الشهير في سورية خلال الأعوام القليلة الماضية؟ ما الذي سيغيره تقرير كهذا في الوضع السوري ومآلاته؟ ثلاثة عشر ألف معتقل في سجن واحد فقط، وفي سورية عشرات المعتقلات بين سجون عادية وبين أقبية فروع الأمن والغرف السرية في الفرق العسكرية، حيث لا أحد يعرف ما يحدث هناك، غير من كان محظوظا، وكتبت له الحياة عمرا جديدا، فخرج ليروي بعضا مما شاهده، وإنْ كانت مدة إقامته في أحد تلك المعتقلات طويلةً، خرج من دون أن يجرؤ على الكلام، من دون أن يتمكّن من ذلك، سيحتاج وقتا طويلا ليشفى من هول ما رأى وما سمع، وما عاناه هو شخصيا.

سورية مسلخ بشري! هل كنا، نحن السوريين، نحتاج تقريرا كهذا لنتأكّد من أن المكان الذي ننتمي له ليس وطنا، وليس بلدا، ولا يمكن أن يكون هوية؟ هو ليس أكثر من مسلخ، محظوظٌ من تمكّن من النجاة منه، والمسلخ ليس أكثر من دمغةٍ زرقاء توضع على طرف الذبيحة، تؤكد أن قتلها تم حلالا. الدمغة هي هوية الموت، هوية السوري، من بقي هناك داخل أسوار المسلخ، ومن خرج منه. ما الذي سيغيّره تقرير “أمنستي”، وثمّة عشرات آلاف التقارير والصور تم تسريبها وعرضها واستعراضها وبثها عبر كل وسائل الميديا عن المسلخ نفسه، وعن مئات آلاف الذبائح البشرية اليومية التي دمغت بالأزرق خلال الخمس سنوات الماضية، من دون أن تهتز شعرة واحدة في الرأس المنتصب للمجتمع الدولي، الرأس المنتصب فخرا بمحاربته اليومية للإرهاب، وبالتعامل من الهاربين من المسلخ بوصفهم إرهابيين!

ما الذي سيغيره تقرير “أمنستي”؟ هل سيغير من رأي الموالين، إخوتنا في المسلخ نفسه، بما يحدث؟ لا أظن. بالنسبة لهؤلاء، من هم في المعتقلات ليسوا أكثر من إرهابيين، وذبحهم بهذه الطريقة أو تلك هو أقل ما يستحقونه، متناسين أن ساطور المسلخ لن يتوقف، قبل أن يطال رقاب الجميع، وأن الدمغة الزرقاء منقوشةٌ على أجسادهم أيضا، هم فقط من يرفضون رؤيتها! ما الذي سيغيّره تقرير “أمنستي” أخيراً؟ نشرت، مثل كثيرين غيري، من السوريين التقرير على صفحتي على “فيسبوك”، مثلما نشرت سابقا تقارير مشابهة، وتضم صفحتي مثقفين عرباً كثيرين، أزعم أنهم مرّوا على التقرير على صفحتي، كما مروا عليه على صفحات الأصدقاء، وربما فتحوا الرابط وقرأوا ما كتب فيه، فتعزّزت رؤيتهم لنا خونة لبلادنا العظيمة، وربما وصفونا، نحن من نشرنا التقرير، حاقدين كاذبين قابضين ثمن خيانتنا وحقدنا من أجهزة المخابرات العربية والغربية التي تدمر سورية وسمعتها، ثم يعودون إلى صفحاتهم يشتمون المجتمع الدولي على صمته عن تردّي الحالة الصحية لمعتقل فلسطيني في سجون الاحتلال أعلن إضراباً عن الطعام، احتجاجا على سجنه الطويل.

ما الذي سيغيّره تقرير “أمنستي”؟ لا شيء إطلاقا، نحن السوريين فقط سوف نقرأ التقرير، ثم سنشعر بالطعم القاتل في أحشائنا، وببرد نصل الساطور على رقابنا، إذ لا يوجد منا من ليس لديه أخ أو ابن أو أب أو قريب أو جار أو صديق داخل أسوار المسلخ، وربما داخل التقرير ذاته. نحن فقط من سنقرأ التقرير، ونتخيل ما يحدث لأولادنا المنسيين هناك، فتملأ الجروح أرواحنا، ونحاول أن نوقف نزف الجروح بالملح. نحن فقط من سنقرأ التقرير مرة ومرتين وثلاثاً، كي نصدّق أن من يفعلون ذلك ولدتهم أمهاتهم في البلد نفسه الذي ولدتنا فيه أمهاتنا، وشربوا من الماء نفسه الذي شربنا منه، واستنشقوا الهواء الذي استنشقناه، نحن فقط من سنقرأ هذا التقرير والتقارير السابقة واللاحقة، ونحاول النوم بعد ابتلاع أقراص المهدئات ونحضن مخداتنا، فإذا سقطنا في الكوابيس، حمت المخدات رؤوسنا من الارتطام ببلاط المسلخ البارد.

العربي الجديد

«العفو الدولية» ونظام آل الأسد: لقد أسمعتْ لو نادتْ حياً!/ صبحي حديدي

تقرير منظمة «العفو الدولية»، الذي صدر مؤخراً بعنوان «المسلخ البشري: عمليات الشنق الجماعية والإبادة الممنهجة في سجن صيدنايا بسوريا»، أثار ردود أفعال واسعة، بالنظر إلى ما يوثقه من الأهوال والفظائع داخل سجن واحد. وكان جديراً بالانتباه أنّ الاهتمام بهذه الوثيقة اقتصر، عملياً، على وسائل الإعلام المختلفة، ووسائط التواصل الاجتماعي، وبعض التعليقات الدولية غير الرسمية (كان في عدادها موقف نوّاب في الدوما الروسية، أشبعوا التقرير ذمّاً وطعناً في مصداقية المنظمة!). أمّا على أصعدة الحكومات، شرقاً وغرباً في الواقع، فإنّ وقائع «المسلخ البشري» الرهيبة قوبلت بصمت مطبق، أو يكاد؛ ولم يكن العكس ـ أي الشجب والإدانة، في الحدود الدنيا ـ منتظَراً، في كلّ حال.

ذلك لأنّ هذا التقرير ليس الأوّل من نوعه، رغم أنه هذه المرّة يأتي على تفاصيل أشدّ وحشية؛ إذْ سبق للمنظمة ذاتها أن أصدرت تقارير حول سجون النظام السوري ومعتقلاته، طيلة عقود «الحركة التصحيحية»، كما وثّقت تقنيات التعذيب، وسجّلت شهادات شخصية لمعتقلين سابقين، ورسمت خرائط مفصّلة لمواقع التعذيب وأسماء الفروع الأمنية؛ بل ورصدت أسماء بعض الضباط الذين أشرفوا على ارتكاب جرائم حرب موصوفة، أو مارسوها بأنفسهم أيضاً. كذلك أصدرت عشرات البيانات التضامنية مع معتقلي الرأي والضمير، وأطلقت حملات عديدة تميط اللثام عن، وتفضح، أعمال عنف محددة، وتصفيات جسدية، ومجازر جماعية.

منظمة أخرى بارزة، هي «هيومان رايتس ووتش»، أصدرت في سنة 2015 تقريرها الشهير «لو تكلم الموتى: الوفيات الجماعية والتعذيب في المعتقلات السورية»؛ والذي تابع مقتل الآلاف في معتقلات الفروع الأمنية 215، 227، 216، 235، 248، 220، أقبية المخابرات الجوية، وسجن صيدنايا العسكري. كما حلل التقرير مصائر 28707، من أصل 50 ألف صورة قتيل، سرّبها المصوّر المنشق الذي عُرف باسم «قيصر»؛ واستخلص النتيجة التالية: هذه الصور «لا تمثل سجلاً شاملاً للوفيات في المعتقلات في منطقة دمشق في الفترة الزمنية التي التقطت أو جُمعت فيها هذه الصور». ذلك لأنها «ليست عينة عشوائية، لكن تمثل الصور التي توصل إليها قيصر واحتفظ بنسخ منها، حين شعر أنه يستطيع أن يفعل ذلك، بقدر من الأمان النسبي. لذا، فإن عدد الجثث في مراكز الاعتقال، كما ظهر في صور قيصر، لا يمثل إلا جزءاً من عدد من توفوا في مراكز الاعتقال في دمشق، أو حتى في هذه المنشآت بعينها، خلال فترة الـ 27 شهراً التي التقطت فيها الشرطة العسكرية والطب الشرعي هذه الصور».

وما دام سجن صيدنايا هو موضوع تقرير «العفو الدولية» الأخير، فمن المفيد العودة إلى تقرير آخر عن المعتقل ذاته، أصدرته «اللجنة السورية لحقوق الإنسان»، حول المجزرة التي شهدها السجن صباح 5 تموز (يوليو) سنة 2005: وصلت قوة تعزيز إضافية من الشرطة العسكرية تقدر بين 300 إلى 400 شرطي، وبدأت حملة تفتيش بطريقة استفزازية، تخللتها مشادات كلامية مع المعتقلين السياسيين، ثم إلقاء نسخ من القرآن على الأرض والدوس عليها، مما أثار احتجاج المعتقلين الإسلاميين الذين تدافعوا نحو الشرطة، فأطلق هؤلاء النار وقُتل تسعة من المعتقلين على الفور (زكريا عفاش، محمد محاريش، محمود أبو راشد، عبد الباقي خطاب، أحمد شلق، خلاد بلال، مؤيد العلي، مهند العمر، خضر علوش). إثر ذلك عمت الفوضى في السجن، وظنّ المعتقلون أنهم على أعتاب مجزرة تدمر جديدة، فبدأوا بخلع الأبواب لمواجهة الشرطة العسكرية، التي فتحت عليهم النار مجدداً، مما أوصل عدد القتلى إلى نحو 25 قتيلاً.

الجديد الذي اكتنف هذه المجزرة، من نظام عوّد الشعب السوري على ارتكاب المجازر، أنّ رأس النظام، بشار الأسد، اسنُقبل في باريس، عاصمة «إعلان حقوق الإنسان والمواطن»! لكنّ نيكولا ساركوزي، الرئيس الفرنسي يومذاك، لم يكن أوّل مَنْ يراقص طغاة الشرق الأوسط، سواء في العقود الأخيرة من عمر الجمهورية الخامسة في فرنسا، أم في عقودها الوسطى (أوّل زيارة للأسد الأب تمّت في عهد فاليري جيسكار ـ ديستان، 1976، بعد أشهر قليلة على دخول القوّات السورية إلى لبنان)؛ هذا إذا اعتبر المرء الأنشطة الدبلوماسية في العقود الأولى بمثابة تمرينات مبكّرة واستطلاعية على ما ستطلق عليه التنظيرات الديغولية صفة «السياسة العربية لفرنسا». وفي وجهة أخرى لنقاش الواقعة تلك، لعلّ المرء لا يبالغ إذا اعتبر خيار ساركوزي في الانفتاح على النظام السوري أقرب إلى السلوك الطبيعي، المنتظَر، غير المستغرب البتة، من ذلك الرجل بالذات.

فمن جانب أوّل، كلّ ما كان ساركوزي يعرفه (كما صرّح، بنبرته المعتادة في السخرية الرواقية الغثة) أنّ سوريا بلد متوسطي، وليس ثمة سبب واحد يبرّر عدم دعوتها إلى القمة المتوسطية؛ غير المكرّسة (في حدود علمه كما قال، وعلم الجميع كما نقول) لمناقشة احترام أو انتهاك حقوق الإنسان على ضفاف المتوسط. وهذا منطق صوري سليم تماماً، وكان استبعاد سوريا من هذه القمة هو الذي سيكون القرار الشاذّ غير الطبيعي. ومن جانب ثانٍ، مَنْ الذي يعيب على ساركوزي دعوة الأسد إلى منصّة الاحتفال بالثورة الفرنسية، يوم العيد الوطني لفرنسا، إذا كان الحابل سوف يختلط بالنابل على تلك المنصة: ديمقراطيات غربية، ودكتاتوريات شرقية أو أفريقية، جنباً إلى جنب مع إسرائيل… «واحة الديمقراطية» في الشرق الأوسط؟

وضمن المنطق الصوري إياه، كيف يستقيم أن يُدعى زعيم من هؤلاء، ويُستثنى آخر؟ لهذا، وبصرف النظر عن قيمته الأخلاقية العالية، فإنّ النداء الذي وجهته إلى ساركوزي ثماني منظمات حقوق إنسان دولية (بينها «العفو الدولية»، و»هيومان رايتس ووتش»، والاتحاد الدولي لروابط حقوق الإنسان، والشبكة الأورو ـ متوسطية، والمنظمة العالمية لمناهضة التعذيب…)؛ ظلّ، كما ينبغي له أن يظلّ، حبراً على ورق في ما يخصّ مطلب الفقرة الأولى: «تناشدكم منظمات حقوق الإنسان الموقعة على هذه الرسالة إيلاء اهتمام لوضع حقوق الإنسان في ذلك البلد».

قبل ساركوزي كان ديغولي آخر هو الرئيس الأسبق جاك شيرك، الأعرق ممارسة للسياسة من ربيبه ساركوزي، قد استقبل الأسد الابن، في خريف 1999، بصفته الوحيدة المتوفرة آنذاك (نجل حافظ الأسد)؛ وذلك تلبية لرغبة رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري (الذي كان، في حينه، بين أخلص رجالات حاكم دمشق، الأسد الأب)، على سبيل تدريب الفتى الابن في ما ينتظره من مهامّ رئاسية. غير أنّ الدعوة، بمعزل عن إرضاء الحريري، كانت تعكس المزاج الحقّ للرئيس الفرنسي في ما يخصّ نظام آل الأسد؛ إذْ، للتذكير، كان شيراك هو الرئيس الغربي الوحيد الذي شارك في جنازة الأسد، وكان قبلها قد كسر عزلة الأخير الدولية حين دعاه إلى زيارة باريس رسمياً في صيف 1998، كما كان أوّل من أسبغ شرعية سياسية وأمنية على وجود القوّات السورية في لبنان خلال خطبة افتتاح القمّة الفرنكفونية في بيروت 2002.

ولا تُقتبس باريس هنا، في هذه الأسطر، إلا لأنها تُعرّف عادة بمصطلح حقوق الإنسان؛ غير أنّ في وسع المرء اقتباس الغالبية الساحقة من العواصم الغربية، والشرقية أيضاً: من واشنطن وموسكو، إلى لندن وبرلين وروما. كلهم فضّلوا التعامل مع «الشيطان الذي يعرفونه»، خادم مصالحهم الأمين، الطيّع التابع الخنوع؛ ولتذهب، إلى الجحيم، تقارير منظمات حقوق الإنسان، وحشرجات سجناء الرأي. لقد أسمعتْ لو أنها نادت الأحياء من قادة الديمقراطيات، رافعي ألوية حقوق الإنسان!

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

تقرير «منظمة العفو» ومسؤولية بشار/ أنور البني

لعل تقرير «منظمة العفو الدولية» لم يضف الكثير من معلومات للسوريين حول ما يعرفونه وما عاشوه وعانوا منه على يد نظام الديكتاتورية البشع في سورية. وجميع السوريين يعرفون أن ما جاء في التقرير المرعب هو غيض من فيض الجرائم التي لم يشهد التاريخ مثيلاً لها اتساعاً وشمولية. فالسوريون خبروا هذه الجماعة وأساليبها منذ استلامها السلطة في 1970، وتعرفوا على وحشيتها وإجرامها في لبنان منذ 1976 ثم تعرضوا لها مباشرة في الثمانينات في حماة وحلب وجسر الشغور. وقد لا يكون مصادفة أن يصدر التقرير في شهر شباط (فبراير)، متزامناً مع الذكرى الخامسة والثلاثين لمذبحة حماة الكبرى عام 1982 حيث أبيد، وفقاً لأحد التقديرات، أربعون ألفاً، ما زال سبعة عشر ألفاً منهم مجهولي المصير حتى الآن.

لكن تقرير منظمة العفو الدولية الصادر يوم 6-2-2017 جاء مميزاً بأكثر من جانب:

فأولاً، هو يصدر عن أكبر وأعرق منظمة حقوق إنسان في العالم، والتي تتمتع بقدر كبير من المصداقية والحيادية والثقة،

وثانياً، قام التقرير على عدد كبير من شهادات الشهود من ضحايا وأهالٍ، واعتمد على أصحاب خبرة من محامين وموثقين لانتهاكات حقوق الإنسان بلغ عددهم أكثر من ثمانين شاهداً ومحامياً وخبيراً، فضلاً عن كمية الوثائق التي اعتمد عليها والفترة الزمنية التي غطاها،

وثالثاً، تمتع بالدقة والوضوح في شرح ما يجري داخل هذا المسلخ البشري من انتهاكات وجرائم مما يتحدى تخيل أي عقل بشري. وقد سبق أن وثقت «منظمة العفو الدولية» وعدد من المنظمات الحقوقية في تقارير سابقة جرائم التعذيب، ووصفت أكثر من عشرين طريقة تعذيب تمارسها عصابة الأسد ضد المعتقلين. ومع وجود بعض الأخطاء التقنية في الترجمة أو التفسير، فهذا التقرير كان أوضح التقارير في شرح ما يجري حقيقة في المعتقلات السورية ضد المعارضين المدنيين والسلميين.

وهناك كذلك ما يميز سجن صيدنايا باعتباره أكبر سجن عسكري في سورية، فيما تسميته الرسمية هي «السجن العسكري الأول»، إذ أنه السجن الذي بات يوضع فيه معارضو النظام بعد إغلاق سجن تدمر عام 2001. والحديث عن الجرائم في سجن صيدنايا بعد 2011 بات له بُعد آخر يتصل بإطلاق سراح المتشددين الإسلاميين منه ليعيثوا تشويهاً بثورة الشعب السوري ضد الديكتاتورية.

ولكن لعل أهم ما يميز التقرير هذا أنه يحمّل المسؤولية المباشرة لبشار الأسد عن هذه الجرائم، وبالتالي لن يمكنه بحال من الأحوال أن ينكر مسؤوليته. وحتى لو فوّض وزير الدفاع بالتوقيع عنه على هذه القرارات فإن المسؤولية المباشرة عن الجرائم تظل قانوناً ملازمة له شخصياً، خصوصاً أنه لم يذكر بالمرسوم إمكانية التفويض.

فمعظم الذين قُتلوا في سجن صيدنايا، وفق التقرير، حكمت عليهم محاكم الميدان العسكرية بالإعدام، وينصّ قانون إحداث محاكم الميدان العسكرية الصادر بالمرسوم التشريعي 109 لعام 1968، خصوصاً في مادته الرقم 8 على خضوع أحكام الإعدام للتصديق من قبل رئيس الدولة، أما باقي الأحكام فيجري تصديقها من قبل وزير الدفاع.

كما تنصّ المادة الرقم 7 من المرسوم المذكور على أن لا تنفذ أحكام محكمة الميدان العسكرية إلا بعد التصديق عليها من قبل المرجعية المختصة.

ومما سبق فإن هذا المرسوم يثبت بما لا يدع أي مجال للشك أن بشار الأسد قد وقع شخصياً أحكام الإعدام التي نفذت بأكثر من 13 ألف معتقل في سجن صيدنايا وحده. وهذا جزء بسيط مما يجري في المعتقلات والسجون الأمنية والعسكرية في سورية، حيث نقدر، كمنظمات حقوق إنسان، أن أكثر من ستين ألف ضحية قضوا في هذا المعتقلات بينما لا يزال أكثر من مئتي ألف مغيبين قسرياً من دون أية معلومات عنهم.

ولا يقل أهمية عن ذلك توقيت صدور هذا التقرير، مع ازدياد الجهود والضغوط الروسية على الدول المجاورة وعلى المعارضة المسلحة والسياسية للقبول بتسويق بشار الأسد وبقائه في السلطة، مع بعض التغييرات لاستهلاك الوقت وإعادة تدعيم سلطته، ومع ظهور بعض المؤشرات على وجود استجابة ولو ضعيفة لهذه الجهود، أظهرتها مؤخراً مواقف تركية وأردنية. وقد ترافق كل هذا مع محاولات البعض في أوروبا إعادة بناء بعض الجسور مع نظام مجرم، ما تمثل بزيارتين لوفدين برلمانيين أحدهما فرنسي والآخر بلجيكي، فضلاً عن بعض الغزل الترامبي.

هكذا جاء التقرير ليشكل صفعة كبيرة على وجه أصحاب هذا التفكير. فالقبول بهذا الإجرام وعدم محاسبة فاعليه يراد لهما أن يكونا ضوءاً أخضر يفتح باباً للكثيرين من المجرمين، وهو ما ستتصدى له الشعوب.

* محامٍ ورئيس المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية

الحياة

مسلخ الأسد البشري/ بكر صدقي

من علائم انحطاط عالمنا وخراب القيم الذي نشهده في أيامنا، أن يتزامن صدور تقرير منظمة العفو الدولية المعنون بـ»المسلخ البشري» مع «عملية سياسية» تقودها روسيا بهدف إنهاء الحرب الدائرة في سوريا منذ سنوات. عملية سياسية سقفها «حكومة وحدة يقودها نظام الأسد» المسؤول عن المسلخ المذكور، على ما نص عليه قرار مجلس الأمن 2254. في حين تعمل روسيا على خفض السقف المذكور، قدر المستطاع، بحيث يكون أقرب إلى التطابق مع «سقف الوطن» الشهير بلغة إعلام نظام المسالخ والبراميل والسلاح الكيماوي، أي: نعل حذاء النظام إذا جاز التعبير.

سيمر تقرير منظمة العفو الدولية عن المسلخ البشري، حالياً على الأقل، مثلما مر قبله تقرير «القيصر» الفظيع المزود بـ55000 صورة لجثث من قتلوا تحت التعذيب، ربما بتعبير الأمم المتحدة عن قلقها الشهير، وببعض تصريحات الاستنكار من «المجتمع الدولي». فهذا هو «سقف» قيم هذا المجتمع الغارق في هواجسه بشأن «الإرهاب» واللاجئين والانتخابات التي تأتي باليمين المتطرف إلى بعض دوله، من غير أن يتساءل عن أسباب هذه الظواهر ومسببيها.

وستمضي روسيا في إنكارها لمسؤولية النظام الذي تحميه عن الفظائع الواردة في تقرير الأمنستي وغيرها من التقارير التي تصدر بكثرة، ليس فقط تبريراً لحربها على سوريا دفاعاً عن النظام المجرم، بل دفاعاً عن نفسها لأن حكم بوتين لا يختلف عن حكم نظام الأسد إلا بفارق عدم مواجهته لثورة شعبية كما في سوريا. وقبل ثورة آذار 2011، كان النظام السوري مطابقاً على العموم، في ممارسته وفلسفة حكمه، أشباهه من الأنظمة الفاشية في روسيا وكوريا وكوبا وغيرها من الفاشيات الدموية. الجديد النوعي، بالنسبة لسوريا، هو في مواجهة النظام لتمرد شعبي واسع النطاق تطلب منه توسيع دائرة القمع وتعميق وسائله من حيث الشناعة.

وفي ماضي هذا النظام «نموذج أصلي» سار على هديه في تدمير البشر والحجر، هو نموذج تمرد 1980-1982 الذي قمعه نظام حافظ الأسد بوحشية بالغة بلغت كلفتها عشرات آلاف القتلى ومئات آلاف المتضررين بمختلف الدرجات. ويشكل سجن صيدنايا الذي يتناوله تقرير منظمة العفو امتداداً لتقليد سجن تدمر الصحراوي، سواء من حيث معاملة المحتجزين أو مصائرهم. فقد كتب وزير الدفاع السابق مصطفى طلاس، في مذكراته، عن المحاكم الميدانية التي كان يصادق على قرارات الإعدام الصادرة عنها «بالعشرات كل أسبوع» في تلك الحقبة السوداء من تاريخ سوريا. ما كان محصوراً، في زمن الأسد الأب، في بضع مدن أهمها حماة المكلومة، وفي غضون سنتين، عممه الابن على كامل مساحة سوريا ولست سنوات قابلة للاستمرار. وما كان يجريه حافظ في الخفاء من فظاعات، يقوم به بشار علناً تحت أنظار الإعلام و»المجتمع الدولي» إياه.

التفاصيل الواردة في التقرير الجديد، فظيعة حتى بالنسبة لأشخاص عاشوا تجربة الاعتقال السياسي لسنوات طويلة أيام الأسد الأب، ربما باستثناء ما تعرض له قسم كبير من السجناء الإسلاميين بعد تمرد الثمانينيات. فهناك ممارسات تعبر عن حقد شديد على من يقعون بأيدي الأجهزة، يجردهم من إنسانيتهم ليصبح كل ما يفعل بهم مبرراً، بدءاً من الإذلال والتعذيب الجسدي والنفسي وصولاً إلى القتل بأشد الوسائل فظاعة. من أمثلة ذلك قيام الجلادين بتعذيب سجناء سينفذ الحكم بإعدامهم بعد ساعات قليلة. الجلادون يعرفون مصير من يعذبونهم، وبرغم ذلك يتلذذون بالتنكيل بهم قبل أن يخطفهم الموت من بين مخالبهم!

في أيامنا، كنا نشكو من عدم معاملة النظام لنا كمعتقلين سياسيين من المفترض أن تكون معاملتهم متميزة عن السجناء الجنائيين. بل إننا، في فترات التشدد، كنا نطالب بمعاملتنا مثل معاملة السجناء المجرمين، على غرابة ما بين المطلبين من تناقض. فهؤلاء المذكورون كان لهم، على الأقل، الحق في المحاكمة التي كنا محرومين منها لسنوات طويلة، وفي ظننا أن القضاء مهما كان جائراً قد ينصفنا بعض الشيء. وفي مطلع التسعينات، بعد مضي نحو عقد من السنوات على اعتقال معظمنا، تم تقديمنا فعلاً إلى القضاء ممثلاً بمحكمة أمن الدولة (تغيرت تسميتها في العام 2012 إلى محكمة الإرهاب) التي حكمت على كثيرين منا بخمسة عشر عاماً، أمضى قسم منهم بقية الحكم في سجن تدمر الرهيب، حيث التعذيب اليومي جزء من تقاليده، ويتعامل الحراس مع السجناء فيه كما لو كانوا أعداء شخصيين لهم يستحقون الانتقام بشتى الوسائل الفظيعة.

ليس هذا المقام المناسب للحديث عن تجربة شخصية، لكن الغاية هي إجراء مقارنة، في جوانب معينة، بين الأمس واليوم، في مجال الاعتقال والسجن السياسي. بهذا المعنى يمكنني القول إن أصحاب التجارب في الاعتقال السياسي السابق على الثورة، يشعرون بهول ما يجري اليوم، أكثر من غيرهم، بسبب معرفتهم المباشرة بالروبوتات «البشرية» المتوحشة التي أنتجها النظام وأسند إليها مهمة تحطيم المعارضين السياسيين بجميع الوسائل. ومن جهة أخرى يحمد المعارضون السابقون الله على نعمة خروجهم من جحيم المعتقلات والسجون الأسدية على قيد الحياة، مقابل هلاك عشرات الألوف من معتقلي الثورة اليوم، إعداماً أو تحت التعذيب أو بسبب تفشي الأمراض والحرمان من الماء والغذاء والدواء، وفقاً لتقرير «المسلخ البشري» لمنظمة العفو الدولية. وأخيراً لأن المقارنة بين ظروف الاعتقال السياسي في بعض السجون، كسجن حلب وسجن دمشق المركزيين سابقاً، وظروف الاعتقال السياسي بعد ثورة آذار 2011، ستفيد بأن قسماً من معتقلي الجيل القديم كان فعلاً يعامل معاملة سجناء سياسيين محترمين ـ بمقاييس نظام الأسد المتوحش ـ بالمقارنة مع المسلخ البشري الذي يلقى فيه بمعتقلي الثورة، على رغم كل قسوة الاعتقال السياسي في جميع الحالات.

بيد أن المسلخ الذي تحدث عنه التقرير في وصف سجن صيدنايا، ليس إلا جزءاً صغيراً من مسلخ كبير يمتد على مساحة المناطق التي يسيطر عليها النظام: ليس فقط في آلاف مراكز الاحتجاز والتعذيب التي فاضت عن السجون والمعتقلات المعروفة سابقاً، بل كذلك في مبان بنيت أصلاً لأغراض أخرى كالمدارس والمستشفيات والمباني الحكومية ومواقع القوات المسلحة. وبصورة أعم حيثما وجدت قوات النظام وميليشيات شبيحته فهناك مسالخ بشرية. كلنا يذكر، على سبيل المثال، مقاطع الفيديو التي وثقت تنكيل الشبيحة بأهالي قرية البيضا قرب بانياس في الأشهر الأولى للثورة.

عالم فيه «نظام» بهذه المواصفات، يواصل قتل البشر في البلد الذي يحكمه منذ ست سنوات بأفظع الأساليب، يستحق رئيساً كترامب لأعظم دولة فيه. كما يستحق شبكة إرهابية كداعش.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

«الحفلة»/ حسام عيتاني

لا يضيف التفجع وإشهار المرارة حيال لامبالاة المجتمع أمام تقرير «منظمة العفو الدولية»، «المسلخ البشري: عمليات الشنق الجماعية والإبادة الممنهجة في سجن صيدنايا بسورية»، الكثير من القيمة إلى الاعتراض الجذري على ممارسات نظام الأسد والجذور السياسية والاجتماعية التي قام عليها منذ 47 عاماً، بل منذ الانقلاب البعثي الأول في 1963.

لا ينطوي التقرير على إضافات نوعية تميزه عن تقارير مشابهة أصدرتها الأمم المتحدة في العام الماضي ومنظمة «هيومان رايتس ووتش» بعنوان «لو تكلم الموتى» في 2015 المبني على الصور التي هربها المنشق «قيصر». بيد أنه يكتسب معنى جديداً إذا وضع، مع سلسلة التقارير المذكورة، في ضوء أعمال باحثين درسوا ظواهر الإبادة والقتل الجماعي بمستواه «الصناعي» والخلفيات الأيديولوجية والسياسية لهذه الظواهر.

ربما يكون العمل الأهم في هذا السياق هو «أسس التوتاليتارية» لحنّة آرنت وشرحها المفصل لنشوء الأنظمة التي تجعل من قتل مواطنيها، ركناً من أركان عملها اليومي وموجبات وجودها، وما يتبع ذلك من اتسام القتل الجماعي للمعارضين أو للأقليات المغضوب عليها، بالطابع «الصناعي» الآلي، أو الخالي من المشاعر الشخصية والعقلاني البارد على ما توضح في كتابها «آيخمان في القدس».

يطور أومير بارتوف الفكرة في كتابه «القتل بين ظهرانينا» ليقول إن هذا القتل الذي يحمل خصائص العصر الحالي من انعدام في الصبر (في تقرير «العفو الدولية»، تأكيد على أن محكمة الميدان في القابون لا تمنح المعتقل أكثر من دقيقة إلى ثلاث دقائق قبل الحكم عليه بالإعدام) والبراغماتية، والحامل صفات الميكانيكية والديمومة والذي تنظمه وتديره الدولة، ينال شرعيته من قضاة ومثقفين وعلماء وأنه ليس «الجانب المظلم من الحداثة» بل أحد مكوناتها المضمرة. يعيد هذا الكلام إلى الأذهان ترافق الإبادة مع التحديث في سياسات «الاتحاد والترقي» في أواخر أيام تركيا العثمانية ضد الأرمن وهو ما تابعه مصطفى كمال ضد الأكراد. ويذكر أيضاً بما ورد في التقرير من استعانة شكلية بالمفتي و»لجنة الإعدامات» والمحكمة الميدانية، ليس لتبرير المجزرة، بل لاقتناع النظام أنها تجري ضمن سياق عمل الدولة وشرعيتها و «ضروراتها».

يفضي هذا التصور إلى ما يطلق عليه رودولف رومل «قتل الشعب» (ديموسايد) حيث ترى الدولة أن من واجبها إبادة قسم من شعبها، أو تشن حملة قتل جماعية عن طريق معسكرات الاعتقال أو التصفيات أو المجاعات المفتعلة على ما فعل ماو تسي تونغ أثناء حملة «القفزة الكبيرة إلى الأمام» في نهاية خمسينات القرن الماضي.

يتعين التدقيق هنا في ارتباط طبيعة النظام والنمط الاقتصادي – الاجتماعي لكل دولة بالشكل الذي تتخذه إبادة الدول لمعارضيها. فقد كان صناعياً آلياً في ألمانيا النازية، وذات بعد عقابي في صين ماو تسي تونغ والمجاعة الأوكرانية في الثلاثينات أثناء حكم ستالين. وتعطي إشارات في تقرير «العفو الدولية» عن إبعاد السجّانين السنّة عن الغرف التي يجري فيها شنق المعتقلين وإبقاء نظرائهم العلويين، سمة طائفية «أهلية» إذا جاز التعبير، وهي التي تشمل القسم الأعظم من نشاطات الدولة السورية منذ عقود. يتعين أيضاً النظر في التركيبة الطبقية لآلة القتل الأسدية وانحيازات أفرادها وانتماءاتهم لرسم صورة أدق عن الحرب التي يشنها النظام على السوريين الذين يرى في مجرد وجودهم تهديداً لبقائه.

ولعل وصف «الحفلة» لمراسم استقبال السجناء الجدد في صيدنايا، وهو وصف يتكرر في كل أدبيات السجون السورية، شديد الإيحاء بكل سلوك النظام السوري بإطلاق الاسم على نقيضه، من ضرب المعتقلين لدى وصولهم إلى السجن وصولاً إلى «الممانعة والمقاومة» وكل مفردات قاموس دموي يحكم هذه المنطقة.

الحياة

إنهاء «داعش» يمرّ بقصر المهاجرين/ حسان حيدر

التقرير الذي نشرته «منظمة العفو الدولية» عن «المسلخ» الذي تحولت إليه سورية في عهد بشار الأسد، لا يشكل مفاجأة أو كشفاً بالنسبة إلى السوريين، ولا الفلسطينيين أو اللبنانيين، فهم يعرفون أكثر بكثير مما ورد فيه، وخبروا ذلك بأنفسهم، ليس فقط خلال السنوات الست للثورة، بل منذ بداية عهد الأسد الأب الذي يذكره أهل حماة وبيروت خصوصا.

إنه موجه أساساً إلى أولئك الغربيين وبعض العرب الذين يديرون رؤوسهم عن جرائم النظام السوري بذريعة أولوية قتال «داعش» ومنع تمدده إليهم، وخصوصاً دونالد ترامب، فيما تقارير استخباراتهم تؤكد أن معظم إرهابيي البغدادي تخرجوا من سجون وأجهزة النظام السوري الذي يفوقهم دموية، لكنه «يعمل» بصمت ومن دون أشرطة مصورة.

الفارق الرئيس مع «داعش» أن نظام الأسد لا يوجه تهديدات مباشرة إلى الغرب، ولا يعلن مسؤوليته عن إرسال الإرهابيين إلى دوله. إنه يبعث بهم سراً، مثلما تظهر التحقيقات في باريس وبرلين واسطنبول، ثم يفاوض على دور له في «وقف» تسربهم. فنظامه ينتمي إلى مدرسة أشد خطورةً ودهاءً من «مروجي الخلافة»، إذ يمتهن القتل والتنكيل والتهجير تحت غطاء شعارات السياسة ومبرراتها، حتى أنه يدعي قتال الإرهابيين، ويطرح نفسه شريكاً في المعركة ضدهم، فيما يوجه معاركهم ويحدد أهدافهم.

ومثلما ابتلع الغرب الطعم طوعاً في السابق، عندما نكّل نظام الأسد بجيرانه، من دون أن يقرب إسرائيل، ها هو ترامب يعض الصنارة نفسها. فمحاسبة الأسد ليست بين أولوياته، لأن المعركة ضد «داعش» مستعجلة جداً، وقد أمهل مستشاريه شهراً لوضع خطة القضاء عليه، ولا وقت لديه للنظر في أمر مئات آلاف القتلى السوريين وملايين المهجرين، ولا في أمر البراميل المتفجرة أو القنابل الكيماوية، فهذه ليست من اختصاص إدارة المقاولات في البيت الأبيض.

وإذا كان لا أمل يرجى من إيران المتورطة حتى النخاع في مقتلة السوريين بدوافع مذهبية وقومية، لا يُحسن مسؤولوها إخفاءها، ولا من روسيا التي تشارك نظام الأسد معارك الإبادة الجماعية منقادة لمصالحها وتوقها إلى استعادة «المجد» السوفياتي، فلماذا تتورط دول تتغنى بالدفاع عن حقوق الإنسان وتمثيل «العالم الحر» في إخفاء معالم المذبحة الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية؟

ألا تذكر فكرة التحالف مع الأسد ضد «داعش» بالنظرية الحمقاء التي تبناها بعض الأوروبيين لدى بروز النازية في المانيا في مطالع ثلاثينات القرن الماضي، واعتبارهم أن باستطاعتهم استخدام هتلر في إقصاء منافسهيم، قبل أن يتحول صاحب شعار الصليب المعقوف إلى كابوس للعالم كله؟

التجاهل الذي يواجه به ترامب المعارضة السورية، وتهديده بقطع المساعدات الأميركية عنها، واعتباره أن البحث في إخراج الأسد من السلطة يقارب حد «الجنون أو الحماقة»، يعني أن لا أمل في حسم المعركة ضد «داعش» مهما حشد لها الأميركيون، لأن في جعبة نظام دمشق الكثير من المجموعات الإرهابية، الجاهزة للخروج إلى العلن، كلما اقتضى الأمر.

وما لم تسعَ الولايات المتحدة وأوروبا والعالم بأسره إلى وقف مسارات القتل المستفحلة بحق السوريين، وتقديم بشار الأسد وعصابته إلى محاكمة دولية، سيظل قصر المهاجرين بؤرة لنشر الإرهاب الفعلي «الهادئ»، بل ويمنح بين الحين والآخر «شهادات حسن سلوك» أهدى آخرها إلى ترامب «الواعد»، وسيظل السوريون ضحية إرهابين متلازمين يمارسهما النظام و«داعش».

الحياة

بؤس «النظريّة» وازدهار مسلخ صيدنايا/ حازم صاغية

إبّان احتدام المعركة الانتخابيّة بين دونالد ترامب وهيلاري كلينتون، ركّز الممانعون العرب نيرانهم على كلينتون. كان أكثر ما يهمّهم أنّ المرشّحة الديموقراطيّة قد تتدخّل في سوريّة وقد تطيح بشّار الأسد وسيطرته المؤسَّسة على السجون والزنازين. تاريخ وزيرة الخارجيّة الأميركيّة السابقة، بوصفها من «صقور» إدارة أوباما والحزب الديموقراطيّ، كان يضاعف عداءهم لها وخوفهم منها.

نقد ترامب المعلن لإيران، ولنظام سيطرتها الإقليميّ، كان يُقلقهم قليلاً. لكنّ «تأمّلاتهم» عن المرشّح الجمهوريّ الذي حظي بالرئاسة لاحقاً ظلّت ثانويّة في الأهميّة كما في التركيز: فأوّلاً، كان الخوف من فوز هيلاري هو الطاغي، فيما بدا من المشكوك فيه كثيراً أن يفوز منافسها. وثانياً، كان الكلام عن ترامب سريعاً ما يتجاوزه ليذهب في منحى «نظريّ» بحت: ذاك أنّ ترامب من عوارض الرأسماليّة المأزومة، أو من علامات الاستعداد الفاشيّ في الرأسماليّة، أو هو الوجه الخفيّ – إنّما الحقيقيّ! – لأميركا. وأخيراً، كان الممانعون يجدون ضمناً ما يطمئنهم في صداقة ترامب لبوتين: ذاك أنّ الروسيّ الهادئ لا بدّ أن يروّض الأميركيّ الهائج، وصديق صديقي قد يغدو صديقي.

هيلاري كانت الكابوس الفعليّ. ترامب كان همّاً نظريّاً. والتناول النظريّ هذا كان يشبه تكبير الحجر من أجل الاستنكاف عن الضرب فيه. فالأحجار الحقيقيّة لا تُضرب إلاّ على المرشّحة كلينتون.

إذاً، الاهتمام بما تراءى تدخّلاً في سوريّة فاق في أهميّته كلّ المخاوف المنسوبة إلى ترامب: العنصريّة والجنسويّة والاحتيال والتسبّب بنزاعات وربّما حروب و «تلفزيون الواقع» والتخلّف على أنواعه، ناهيك عن تمثيل قطاع من الرأسماليّة، عقاريّ وسياحيّ، لا يُعتدّ بإنتاجيّته.

لكنْ حين فاز ترامب وحلّ في البيت الأبيض، وخصوصاً بعد فرض إدارته عقوبات على إيران، ساد خطّ جديد في النقد الممانع. وهو سيتصاعد حتماً مع احتمال تصنيف «الحرس الثوريّ» منظّمة إرهابيّة. هكذا، للمرّة الأولى، بات الرجل خطراً فعليّاً، بل هو الخطر الفعليّ. فهيلاري كلينتون انهزمت فيما الروسيّ الصامت لا يبدو صالحاً للاستخدام في ترويض الأميركيّ الصاخب.

النقد «النظريّ» لم يختف بالطبع، إلاّ أنّه عثر على لحمه وشحمه: تهديد إيران وإمكان تغيير توازن القوى في سوريّة والعراق. في هذا الإطار بات يُستشهد بالمآخذ التي تؤخذ عليه، لا لأنّها خطيرة بذاتها، بل لأنّها تتجانس مع موقفه السلبيّ من… إيران. المعادلة الفعليّة أصبحت: من يعادي إيران ونظامها الإقليميّ، لا بدّ أن يكون عنصريّاً إلخ…، أو: إنّ عنصريّته وباقي صفاته تمهيد مبكر لمعاداته إيران. في المقابل: لو لم يُعادِ ترامب إيران، لأمكن هضم كلّ المآخذ النظريّة عليه، أو تسجيلها من دون اشتقاق أيّ خلاصة سياسيّة تترتّب على ذلك. والسابقة المعروفة هنا هي علاقة الممانعين بالرئيس الروسيّ: لا بأس بأن يقف الرجل مع إسرائيل ما دام واقفاً معنا في سوريّة.

ذاك أنّ القول إنّ ترامب عنصريّ يبقى بذاته قولاً فاتراً، وإلى حدّ ما حياديّاً، كالقول إنّ المياه باردة، أو إنّ حرارة الشمس قويّة. أمّا حدود النقديّة فلا تتعدّى الانزعاج من برودة الماء أو سخونة الشمس بوصفهما أكثر ممّا تحتمله الأجساد في زمن لا يتعدّى الربع ساعة. لكنّ التأويل «النظريّ» نفسه يغدو تعبويّاً ونضاليّاً وذا مهمّات مباشرة حين يتّضح الموقف السلبيّ من إيران ومن سياستها السوريّة.

إيران وسوريّة الأسد هما فعلاً «بوصلة» الممانعين. دع عنك، إذاً، ماركس وهابرماس، تشومسكي وجيجك. دع عنك فلسطين وإسرائيل والعنصريّة والجنسويّة ومكافحة التخلّف والتكفير والنهب والاستغلال… المهمّ أن يبقى المسلخ في صيدنايا شغّالاً ومزدهراً. بشّار الأسد وقاسم سليماني صادقان: إنّهما يريدان المسلخ من دون نظريّات في السلخ. الآخرون، جماعة «النظريّة»، هم أهل الكذب المحض.

الحياة

الطغاة يبحثون عن “الأخلاقية”/ محمد أبو الغيط

في التقرير المروّع لمنظمة العفو الدولية عن إعدام النظام السوري نحو ثلاثة عشر ألف سجين في سجن صيدنايا بين 2011 و2015، يظهر سؤال مهم: لماذا يحتاجون كل هذه التفاصيل؟ لماذا كانت الإعدامات لا تتم إلا بعد محاكمة عسكرية، حتى لو كانت صورية تستغرق دقائق، ولماذا الإعدام بالشنق؟ لماذا لم يطلقوا النار على من شاؤوا ببساطة؟

يظهر السؤال نفسه بشأن إصدار الكنيست الإسرائيلي قبل أيام قانون “تبييض المستوطنات”. لماذا يحتاجون إصدار قانون مليء بالتفاصيل الدقيقة، ومنها النص على التأكد من “حسن نية المستوطنين” وتعويض مالي مجزٍ للفلسطينيين، وغيرها؟ هذه دولة احتلال قائم بالسلاح بالفعل، فلماذا لا يستولون على ما شاؤوا ببساطة؟

جانب من التفسير هو سعي البشر الدائم نحو الغطاء الأخلاقي، مهما كان الواقع مختلفاً، بل كلما زاد الانحطاط في الواقع ازدادت الشعارات جمالاً ومزايدة. وفي هذا المجال تتنافس الشعارات الإسرائيلية، مثل “الجيش الأكثر أخلاقية في العالم” و”الشعب لا يمكن أن يكون محتلاً في أرضه”، مع شعارات النظام السوري مثل “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”، “وحدة، حرية، اشتراكية”.

لسنا نظاماً يقتل شعبه، بل هؤلاء مُجرمون أقمنا لهم محاكمات، وأُعدموا بالطريقة القانونية. نحن لسنا دولة احتلال، بل دولة ديمقراطية، وهذه الأرض صودرت بإجراءات قانونية سليمة تماماً. هذه رسالة لتثبيت الداخل قبل الخارج، وللنفس قبل الآخر، وهم يصدّقونها حقاً لا خداعاً.

جانب آخر من التفسير هو الدولة الحديثة القائمة على توزيع السلطة في بنيتها، بحيث ينتفي الدور الأخلاقي تماماً، ليس بمعنى مناقضته، بل بمعنى انعدام وجوده، بفصل الأهداف عن الأفعال جذرياً، بحيث تنتفي المسؤولية عن الفاعلين. وفي هذا المجال، اشتهر تعبير “تفاهة الشر” للفيلسوفة حنا أرندت التي ابتدعت هذا التعبير، بعد حضورها محاكمة النازي أدولف إيخمان، والذي كان مسؤولاً عن ترحيل اليهود إلى المعتقلات التي قُتلوا فيها بأفران الغاز، وتمكّنت إسرائيل من جلبه من مخبئه في الأرجنتين للمحاكمة في القدس. كان إيخمان يدافع عن نفسه في الجلسات بأنه كان مجرد موظف بيروقراطي لا أكثر، كانت تأتيه الأوامر من المستويات الأعلى، فينفذها لأن هذا عمله فقط بلا أي مشاعر أو انحيازات.

يستفيد الطغاة والمنظومات الظالمة من نزع المعنى عن الأفعال. حينها، لا يرى الإسرائيليون بشراً يُنتزعون من أرضهم، بل مجرّد خرائط وأرقام، ولا يرى حرّاس سجن صيدنايا بشراً يُعذبون ويُشنقون، بل مجرد قوائم أسماء وجداول. ولذلك، كان لا بد من ممارسة “آليات الضبط”، كما يسميها ميشيل فوكو على السجانين مثل المسجونين، فليس من حق سجّان أن يقتل عشوائياً من شاء، بل يجب أن يأتيه الأمر من المستوى الأعلى.

ولا يعني هذا وجود تماثلٍ مطلقٍ بين التجربتين. في إسرائيل نظام “الضبط” كفؤ إلى حد عدم الحاجة للإفراط في القوة، لا يُقتل مئات الفلسطينيين يومياً كما يحدث للسوريين، بل تم استيعاب الفلسطينيين أنفسهم، إلى حد كبير، في تفاصيل الدولة وبيروقراطيتها، وهذا ما شرحه فوكو عن عدم حاجة الدولة الحديثة الكفوءة للسيطرة على الأجساد بالعنف المباشر، كالتعذيب أمام العامة كما كان يحدث في الماضي.

وفي إسرائيل جهات حقوقية وقضائية وبرلمانية ترفض قانون تبييض المستوطنات الذي يلقى مقاومة حقيقية، بينما في سورية الأسد لم يرفع إنسان صوتاً يستنكر ما يحدث في سجونه.

بجانب الصراع الرئيسي الواقعي الذي يخوضه الشعب السوري ضد الاحتلال الداخلي، أو الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الخارجي، هناك صراع آخر لا يمكن إهماله، وهو هذا الصراع حول الأخلاقية، وحول الخطاب السياسي.

في كل وقت، يجب أن نقولها ونثبتها: أقوالكم لا تغير من أفعالكم. نظام بشار قاتل، وإسرائيل دولة احتلال، لأن هنا والآن يُقتل السوريون، ويُستولى على أراضي الفلسطينيين. لا تعنينا شعارات النظام السوري عن دعم المقاومة لتبرير الاستبداد، كما لا تعنينا شعارات إسرائيل عن ديموقراطيتها لتبرير الاحتلال. نحن في غنىً عن مقاومة القاتل للمحتل، أو دروس المحتل للقاتل.

العربي الجديد

تقرير العفو الدولية قبيل مفاوضات جنيف… أي فاعلية لحل لا يلحظ مرحلة انتقالية؟/ روزانا بومنصف

لم يثر ما كشفته منظمة العفو الدولية التي تتخذ لندن مقرا لها من ان القوات السورية أعدمت 13 الف سجين شنقا في عمليات اعدام جماعي، ومارست تعذيبا ممنهجا في سجن صيدنايا العسكري قرب دمشق، وهي عمليات ترقى الى أن تكون جرائم حرب وقعت بين 2011 و2015، وربما لا تزال تحدث ردود فعل كبيرة باستثناء موقفين لافتين لكل من وزيري الخارجية البريطاني والفرنسي بوريس جونسون وجان مارك ايرولت، يحملان فيهما الرئيس السوري بشار الاسد مسؤولية هذه الوحشية وانه لا يمكن ان يكون له مستقبل في سوريا. التقرير في فظاعة مضمونه يوازي مستوى الصور التي سربت عام 2014 من منشق عن الشرطة العسكرية التابعة للنظام السوري كان مكلفا تصوير المعتقلين المعارضين الذين قتلوا تحت التعذيب، وهي صور تثبت مقتل 11 الف سوري جوعا وتعذيبا في أقبية سجون الاسد، وقد شكلت هذه الصور طويلا معرضا في مبنى الامم المتحدة كما في الكونغرس الاميركي. الفارق اليوم هو وضع الاسد والموقف منه الذي تبدل من المطالبة برحيله كجزء من الحل في التقرير السابق، الى الصمت على استمراره راهنا مع تدعيم روسيا هذا الاستمرار بمساعدته في استعادة السيطرة على بعض المدن. ولعل عدم القدرة او عدم الرغبة في الانشغال دوليا بمصير سوريا او بالبحث عن حل لازمتها في ظل السيطرتين الروسية والايرانية، يخفف وطأة التعليقات على تقرير منظمة العفو الدولية، انطلاقا من ان تقرير المنظمة يكشف جرائم حرب تحتم تحمل المجتمع الدولي مسؤوليته واحالة النظام السوري على المحكمة الدولية، وليس جلوسه الى طاولة للتفاوض على بقائه على الاقل حتى نهاية ولايته الحالية. ومعلوم أن الامم المتحدة تملك ما يلزم من اثباتات في استخدام النظام الاسلحة الكيميائية ضد شعبه، من دون أن يستطيع مجلس الامن أن يصدر قرارا ضد النظام نتيجة الفيتو الروسي، كما لا يزال أمام مجلس الامن موضوع قصف قافلة المساعدات الانسانية العام الماضي، والتي تقع مسؤوليته على النظام وفق ما خلصت التحقيقات التي أجريت، ورفض روسيا اتخاذ اي اجراءات ضد النظام ملوحة دوما باستخدام الفيتو. وسبق لمنظمة العفو الدولية أن اصدرت في تشرين الثاني 2015 تقريرا ذكرت فيه ان النظام يتحمل مسؤولية اختفاء 65 الف سوري منذ بداية الحرب السورية.

بين المدافعين عن النظام من يعتبر ان صدور التقرير في هذا التوقيت يستهدف المفاوضات المرتقبة في جنيف لاحقا هذا الشهر، وهو امر مماثل الى حد بعيد لصدور ما بات يعرف بتقرير “سيزار”، وهو الاسم الذي اطلق على التحقيق الذي أجرته لجنة حقوقيين وخبراء دوليين كلفتهم الامم المتحدة في 2014 التحقيق في الصور التي وثقها الضابط السوري المنشق. اذ صدر “سيزار” قبل يوم واحد من انطلاق مفاوضات جنيف التي عرفت بمؤتمر جنيف 2 يومذاك. والتقرير الجديد الذي وثقته منظمة العفو الدولية يفترض من حيث المبدأ ان يحرج رعاة النظام امام الرأي العام الخارجي، ولا سيما روسيا وايران ازاء الدفاع عن استمرار نظام والعمل من اجل فرضه. فمن غير المحتمل إقناع السوريين باستمراره أو بقبولهم بالانضواء تحت سيطرته بصلاحياته المعروفة او بصلاحيات أقل في ظل ما هو موثق عن ممارساته الفظيعة ضد السوريين المعارضين، حتى لو ان الحرب يمكن ان تشهد فظائع كثيرة، لكن الامر مختلف عن المعارك الحربية. والواقع أن مسودة الدستور السوري التي أعدها خبراء روس وعرضتها روسيا على وفد المعارضة السورية الذي شارك في مؤتمر أستانا أخيرا، لم تلحظ تغييبا للرئيس السوري عن رئاسة النظام. ومن شأن التقرير ان يحرج وفد المعارضة ايضا، ازاء احتمال قبولها بأي تسوية تتعلق ببقاء الاسد وعدم البحث في فترة انتقالية كما نص مضمون مؤتمر جنيف 1 في الاصل، علما انها قد لا تكون في الاساس في هذا الوارد. وهو ما من شأنه ان يعطيها ورقة قوة في يدها لجهة الاصرار على الحل الانتقالي، علما ان مراقبين كثرا يخشون الا تحسن المعارضة نتيجة انقساماتها توظيف ما يتاح لها توظيفه كما في مراحل سابقة.

إلا أن مفاعيل التقرير تبقى مؤثرة على الاقل في اتجاهات متعددة من بينها ما هو ابعد من المفاوضات المحتملة قريبا، انطلاقا من ان التفاوض يحصل مع قوى امر واقع من هنا او هناك. فهناك توثيق لجرائم من غير المستبعد، بل من المرجح أن تكون موضوع ملاحقة، إن لم يكن من المحكمة الجنائية الدولية لاعتبارات عدة فمن محاكم اخرى ما لم تلحظ عدم الملاحقة حصول تسوية سياسية كبرى تقضي بخروج النظام من دون ملاحقته على ما ارتكبت قواته في ظل رئاسته. إذ لا يمكن دول العالم، حتى لو تغيرت إداراتها وأبدت استعدادا لغض النظر او للقبول بأمر واقع معين، على ما قد يكون الحال مع عدم الاهتمام ببقاء الاسد في المرحلة الحالية، أن تتجاهل هذا التاريخ الموثق، وسيكون متعذرا على الدول المؤثرة ان تنفتح على النظام اقله امام الراي العام الداخلي المتعلق بها مباشرة، علما ان تجربة الدول الكبرى مع سوريا اظهرت انه يمكنها ان تغض النظر عن الكثير، اما لعجزها وإما خدمة لمصالحها. ولعل هذا ما يراهن عليه النظام في ظل انقلاب الوضع في سوريا لمصلحته بعد تدخل روسيا وإنقاذه من الانهيار، وبعدما باتت روسيا موجودة عسكريا في سوريا لحماية مصالحها.

النهار

بشار الأسد مطمئنّ… وهو يعرف لماذا؟/ بن درور يميني

بعد أسبوع من اليوم العالمي للهولوكوست، إنكشف مشروع إبادة على مسافة كيلو مترات غير بعيدة عن دولة إسرائيل، والعالم مرة أخرى يسكت. فلا نوهم رجاء أنفسنا. هذا حصل، هذا يحصل وهذا سيحصل. كل الأحاديث عن «لن يتكرر أبدا» تنكشف كتصريحات عابثة. فمن يهمه الأمر؟

يوم الإثنين الماضي فقط، جلس أعضاء برلمان من بلجيكا مع الرئيس السوري بشار الأسد، الذي أدار المسلخ في ضواحي دمشق. ليس له ما يقلقه. لن يتغير شيء. وفي الأسبوع التالي أيضا جلسوا معه. ووفد آخرعلى الطريق. عندما ارتكب مذبحة بحق أبناء شعبه بالسلاح الكيميائي، نال تهديدات من جانب رئيس القوة العظمى الأقوى في العالم. هذا سيكون الخط الأحمر، حذر حينها باراك أوباما. الخط الأحمر تم تجاوزه. وأوباما اكتفى باتفاق لنزع السلاح الكيميائي برعاية روسية. كان واضحاً منذ ذلك الحين بأن هذا الإتفاق لا يساوي الورق، الذي كُتب عليه. مرت أشهر غير كثيرة، وإذا بالسلاح الكيميائي يستخدم مرة أخرى. ولم يسجل في واشنطن أي رد فعل. إذاً العالم يسكت.

منذ عشرات السنين والعالم يسكت. منذ الكارثة وهو لا يكف عن السكوت. العالم سكت في «بيافرا»، العالم سكت في رواندا، العالم سكت ويسكت أمام القتل في دارفور. العالم يسكت في ضوء حقيقة أنه كل سنة، في السنوات الأخيرة، يقتل «الجهاد» العالمي نحو 25 ألف شخص في المتوسط.

هذا ليس الأمر نفسه. لأن هذه المرة، قرب دمشق، يدور الحديث عن شيء هو الأقرب إلى معسكر الإبادة. ليس مُخرباً انتحاريا. ليس مؤدلجاً متزمتاً. ليس جُنوناً دينياً. ليس حرباً يصاب فيها مدنيون أيضا. هذه المرة يدور الحديث عن مشروع إبادة من قبل حكم علماني. ولكن بشار مطمئنّ. وهو يعرف لماذا.

في مراكز المعسكر التقدمي في أوروبا وفي الولايات المتحدة سيبقى السكوت. فهذا لا يهم رجال الأخلاق إذا كان «جهاديون» هم الذي يذبحون عشرات الآلاف الأبرياء أم حكم عربي فتح مشروعاً لإبادة آلاف المعارضين.

هذا لا يهم، لأن هؤلاء هم عرب ومسلمون يقتلون عربا ومسلمين. إذن من يهمه الأمر. الضمير يجب أن يبقى لحملة أخرى ضد اسرائيل، التي تحاول أن تدافع عن نفسها أمام الجهاد والجنون. وعلى المظاهرات الكبرى أن تركز على الفلسطينيين، الذين كانت الأغلبية المطلقة من أهالي الشرق الأوسط وأفريقيا «سيبيعون أمهم كي يكونوا مكانهم»، كما قال، للحظة، الفيلسوف المناهض لإسرائيل سلافو جيجك، قبل أن يواصل التحريض ضد إسرائيل.

إسرائيل يمكنها، وربما هي حتى ملزمة  أخلاقيا بان تقيم معسكر لاجئين قرب الحدود مع سوريا، كي تقيم فيه كل من حياته مهددة بالخطر. من لا يمكنه أن يهرب باتجاه تركيا أو الاردن، ويكل من يوجد في خطر ، ينبغي أن نوفر له ملجأً مؤقتاً. كما ينبغي أن نتذكر أيضا أن كل شيء تفعله الأنظمة العلمانية أو الجهادية لأبناء شعوبها، تفعله، بشهية مضاعفة، لليهود أيضا. هكذا إذن ينبغي أن نكون إنسانيين. هذا واجب أخلاقي. وفي الوقت نفسه أن نكون أقوياء أيضاً، أقوياء جداً.

يديعوت 8/2/2017

صحف عبرية

القدس العربي

“المسالخ البشرية” في سورية [1]: وحشية التعذيب/ عدنان أحمد

سلّط تقرير منظمة “العفو” الدولية، الثلاثاء، الضوء على فظاعات النظام السوري بحق المعتقلين، بعد إشارته إلى قيام سلطات بشار الأسد بتنفيذ إعدامات جماعية سرية شنقاً بحق 13 ألف معتقل، غالبيتهم من المدنيين المعارضين، في سجن صيدنايا قرب دمشق، خلال خمس سنوات منذ بداية الثورة في سورية.

لكنّ حكايات “المسالخ البشرية” في سورية، قديمة العهد، بعضها معروف، وبعضها تبقى أسرارها دفينة غياهب العذاب، في سجون النظام وأقبية الأجهزة الأمنية. ومع أنّ الحديث عن ظلامات السجون والمعتقلات يطول، إلا أنّ “العربي الجديد”، يحاول من خلال هذا التقرير من جزءين توسيع دائرة الضوء على ملف المعتقلين، من خلال عرض خارطة سجون نظام الأسد، واستعراض نماذج من أساليب التعذيب.

التعذيب

تشترك السجون والمعتقلات في سورية بعدد من السمات المشتركة من ناحية أساليب التعذيب، خصوصاً بعد اندلاع الثورة السورية في ربيع العام 2011، وهو التاريخ الذي تم بعده الزج بمئات آلاف السوريين في المعتقلات، وتوفي منهم عشرات الآلاف تحت التعذيب حتى الآن. وكانت أكبر عملية كشف موثقة بالصور عن هؤلاء الضحايا، قدّمها مصور في الشرطة العسكرية السورية يدعى “قيصر” عام 2014، انشق وهرب خارج البلاد ومعه 55 ألف صورة لـ11 ألف ضحية تم تعذيبها في سجون النظام السوري حتى الموت.

وتنص المادة /30/ من نظام السجون السوري، على حظر استعمال الشدة بحق الموقوفين أو حتى مناداتهم بألقاب محقرة أو مخاطبتهم بلسان بذيء أو ممازحتهم. وينص الدستور وكذلك قانون العقوبات على منع التعذيب. كما أنّ الحكومة السورية وقّعت على الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب في عام 2004. ورغم ذلك، فإنّ التعذيب بكل أشكاله، بما فيه المفضي إلى الموت، شائع في كل السجون والمعتقلات في سورية، وحتى بالنسبة للمعتقلين الجنائيين.

رحلة التعذيب

تبدأ رحلة التعذيب بالنسبة للمعتقل منذ لحظة توقيفه، حيث يتعرّض للضرب المبرح فوراً، ويستمر ذلك خلال رحلة الطريق إلى الفرع الأمني، إذ تكون بانتظاره “حفلة استقبال” من الضرب والشتائم بشكل منظّم.

وكثيراً ما يظل الموقوف رهن الاعتقال، مع التعرّض يومياً للضرب، والحرمان من كل الحقوق طيلة أشهر دون أن يخضع للتحقيق أو حتى الاستجواب. والكثير من المعتقلين ذوي البنية الضعيفة أو الذين يعانون من الأمراض يفارقون الحياة خلال هذه الفترة، إما بسبب الضرب المبرح أو الحرمان من الطعام، أو منعهم من تناول أدويتهم.

وقد وثقت منظمة “هيومن رايتس ووتش” أنواع التعذيب التالية في السجون السورية:

– الضرب المبرح واللكم والركل لمدد طويلة.

– الضرب بأدوات مثل الأسلاك والسياط والعصي والقضبان.

– الشبح، أي تعليق الضحية في السقف من المعصمين، بحيث لا تكاد قدماه تلمسان الأرض أو بحيث يقع ثقله كله على المعصمين، مما يؤدي إلى التورّم والألم.

– “البلانكو”؛ أي تعليق الضحية مع تقييد المعصمين خلف الظهر.

– “بساط الريح” أي تقييد الضحية على لوح مسطح، مع تعليق الرأس في الهواء حتى لا يدافع عن نفسه.

– الدولاب (إطار السيارة) حيث يرغم الضحية على الانحناء والدخول في الإطار، ليتلقّى الضرب دون مقاومة.

– الصعق الكهربائي.

– الإعدام الوهمي.

– تهديد المعتقل، أو أفراد عائلته بالاعتقال، والاغتصاب، أو القيام بعملية الاغتصاب فعلاً.

– تعريض المعتقل للبرودة والحرارة لمدة ساعات أو أيام.

– الأوضاع المجهدة المؤلمة، كإرغام المعتقل على الوقوف منتصباً.

– تعليق المعتقل مع قلب الرأس إلى أسفل.

– تقييد المعتقل وظهره إلى الحائط، مع منعه من الاستناد إليه، بواسطة عمود حديدي يبرز من الحائط ويلكز ظهر المعتقل مسبّباً له الألم.

– انتزاع الأظافر، ونتف الشعر واللحية.

– استخدام الأحماض لحرق الجلد.

– تجريد المعتقل من ملابسه والعري لمدد طويلة.

– الحرق بالسجائر والمواد المذيبة.

– عــملـيات الإعـدام نتيجة لصدور أحكام كثيرة بالإعدام بحق الناشطين من قبل المحاكم العسكرية.

العربي الجديد

 

“المسالخ البشرية” في سورية [2]: سجون الأسد الرسمية

عدنان أحمد

سلّط تقرير منظمة “العفو” الدولية، الثلاثاء، الضوء على فظاعات النظام السوري بحق المعتقلين، بعد إشارته إلى قيام سلطات بشار الأسد بتنفيذ إعدامات جماعية سرية شنقاً بحق 13 ألف معتقل، غالبيتهم من المدنيين المعارضين، في سجن صيدنايا قرب دمشق، خلال خمس سنوات منذ بداية الثورة في سورية. لكّن حكايات “المسالخ البشرية” في سورية، قديمة العهد، بعضها معروف، وبعضها تبقى أسرارها دفينة غياهب العذاب، في سجون النظام وأقبية الأجهزة الأمنية. ومع أنّ الحديث عن ظلامات السجون والمعتقلات يطول، إلا أنّ “العربي الجديد”، يحاول من خلال هذا التقرير من 3 أجزاء توسيع دائرة الضوء على ملف المعتقلين، من خلال عرض خارطة سجون نظام الأسد، واستعراض نماذج من أساليب التعذيب.

وفي الجزء الثاني، نستعرض سجون الأسد الرسمية:

السجون

ثمة الكثير من السجون في سورية، خاصة في العاصمة دمشق، حيث لكل محافظة من المحافظات الـ14 سجنها المركزي الخاص، فضلاً عن وجود سجون في المدن الرئيسية. لكن السجون والمعتقلات الأكثر فظاعة هي تلك التي تتبع الأجهزة الأمنية، والمنتشرة أيضاً في جميع المحافظات، وإن كان أكثرها عدداً، وأكبرها حجماً في العاصمة دمشق.

تاريخ السجون في سورية

طرأ على نظام السجون السوري، مجموعة من التعديلات منذ فترة ما بعد استقلال البلاد عام 1945، حيث كانت السجون تتبع لإدارة السجون قبل أن يجري إلحاقها بوزارة الداخلية، مع تولّي حافظ الأسد السلطة عام 1970، لتصبح تابعة تماماً لأجهزة النظام الأمنية. وهذه التبعية لوزارة الداخلية والأجهزة الأمنية، جرّدت السجون من وظيفتها الإصلاحية المناطة بها بموجب القانون، وأبعدتها عن أي رقابة قضائية

وقد قسّم القرار رقم /1/ لعام 1981 السجون إلى ثلاث فئات أطلق عليها تسمية: (فروع- أقسام- مخافر). وتضمّ الفروع سجون دمشق، حمص، حلب، اللاذقية، والحسكة، بينما تضمّ الأقسام سجون بقية المحافظات السورية، حيث في كل محافظة سجن. أما المخافر فهي تضمّ سجون المناطق وبعض النواحي الكبيرة.

يُضاف إلى ذلك، معاهد الإصلاح الخاصة بالأحداث وهي تتبع لوزارة الشؤون الاجتماعية. أمّا الأخطر من كل ما سبق، فهو الأماكن السرّية للاحتجاز وتضم السجون وأقبية الفروع الأمنية، وتخضع لإدارة الأجهزة الأمنية.

السجون الرسمية

من أشهر السجون الرسمية “المدنية” سجن دمشق المركزي، والذي يقع في مدينة عدرا إلى الشمال الشرقي من العاصمة دمشق، ويبعد عنها حوالى 20 كيلومتراً، ويمتد على مساحة كبيرة تبلغ نحو عشرة هكتارات، ويحتوي عدة مبان وساحات وأراضي غير مستثمرة.

يتكوّن السجن من عدة مبان للإدارة، بما فيها أقلام الدخول والعدلي والإداري، وبناء مخصّص لمدرسة السجن، إلا أنّ البناء الأهم في هذا السجن هو البناء الذي يشغله النزلاء ويتألف من 12 جناحاً، إضافة إلى جناح للموقوفين السياسيين الذين لا علاقة لإدارة السجن المدني بهم، حيث يحوّلون إليه من فروع أمنية عدة، وتشرف عليه شعبة الأمن السياسي.

مساحة الغرفة في السجن تصل إلى حدود 55 متراً مربعاً، ويسكنها بشكل دائم ما لا يقل عن 50 نزيلاً، وكثيراً ما يصل عدد النزلاء إلى أكثر من مائة سجين، يفترشون الأرض بين الأسرّة وأحيانا دورات المياه الداخلية والمغاسل. ومن الشائع بين النزلاء تأجير الأسرّة أو حتى الفراغات بينها، بسبب شدة الاكتظاظ، حيث لا يجد السجناء الجدد مكاناً ينامون فيه.

وقد شهد السجن تمرّداً من السجناء بسبب الأوضاع المزرية داخله عام 2007، وإضراباً عن الطعام عام 2009. وخلال زيارة بعثة المراقبين العرب إلى سورية بعد اندلاع الثورة عام 2011، قام سجناء الرأي بتنفيذ إضراب عن الطعام، وذلك بعد أن زار المراقبون العرب السجن من دون أن يلتقوا بالسجناء.

* سجن عدرا المركزي للنساء:

يقع أيضاً في مدينة عدرا التابعة لمحافظة ريف دمشق، وهو إلى جانب سجن الرجال من الناحية الجنوبية الشرقية، وقد شهد هذا السجن العديد من الإضرابات، للمطالبة بتحسين ظروف الاعتقال والإسراع في العرض على المحاكم.

وينقسم سجن عدرا للنساء إلى قسم جنائي؛ يختص بالتّهم الجنائية المختلفة، وقسم سياسي يشمل المعتقلات اللواتي يتمّ تحويلهن من الأفرع الأمنية.

وتخضع المعتقلات السياسيات لظروف مشابهة لسجن الرجال من ناحية الإهانة والضرب والتعذيب وحتى الاغتصاب، في حين تنعدم الرعاية الطبية بالرغم من وجود نساء مسنّات ومريضات بأمراض خبيثة، أو حوامل.

* سجن حلب المركزي:

يقع إلى الشمال من مدينة حلب، بجانب مخيم للاجئين الفلسطينيين، شمال مشفى الكندي، ويتألف من ثلاثة أبنية، على شكل شعار سيارة “مرسيدس”، وتتألف من أربعة طوابق، وكل طابق فيه ستة أجنحة، في كل جناح عشر غرف، تضم كل غرفة 25 سجيناً. ومع انطلاق الثورة أصبح عدد السجناء في كل غرفة أكثر من خمسين.

وبعد التحاق محافظة حلب بالثورة عام 2012، بدأ السجن يستقبل المزيد من المعتقلين السياسيين الذين يتعرّضون لمعاملة قاسية، ما أدى إلى وقوع استعصاء في السجن ردّت عليه إدارته بصورة قاسية، تم على إثره نقل نحو 500 سجين إلى مكان مجهول. وشهد السجن بعد ذلك العديد من الاستعصاءات والمواجهات مع إدارة السجن، أسفرت عن سقوط العديد من القتلى بين السجناء.

* سجن حماة المركزي:

شهد العديد من حالات العصيان الناجحة من جانب المعتقلين، والتي أجبرت النظام على الخضوع للعديد من مطالبهم، ويقبع فيه حالياً نحو 800 معتقل، ما زال النظام يماطل في إطلاق سراحهم بالرغم من وعوده المتكرّرة بالإفراج عنهم. كما يشهد كل من سجن السويداء المركزي، وسجن حمص المركزي، إضرابات واستعصاءات مماثلة لكنها لم تحقق نجاحاً كبيراً.

* سجن صيدنايا المركزي:

لعل أشهر السجون العسكرية في سورية، هو سجن صيدنايا العسكري في مدينة صيدنايا على بعد 30 كيلومتراً شمال غرب دمشق. افتتح في سبتمبر/ أيلول عام 1987، ومنذ ذلك الوقت يستخدم لسجن المعتقلين السياسيين، والسجناء العسكريين القضائيين.

يتكوّن مبنى سجن صيدنايا من ثلاثة طوابق، على شكل ثلاثة أجنحة تلتقي في المركز، على غرار شعار سيارة “مرسيدس”، وكل طابق مقسّم إلى جناحين، وفي كل جناح عشرة مهاجع. وتحيط بالسجن ثلاثة أسوار، وتتولّى الحراسة من الخارج كتيبة عسكرية مسلحة بالمدرعات، ومن الداخل سرية من الشرطة العسكرية.

لا يوجد لأي سلطة مدنية، سلطة على السجن، حيث هو جزء من منظومة الاستثناء التي تحكم أوضاع حقوق الإنسان في سورية، منذ أواخر السبعينيات من القرن المنصرم.

يخضع سجن صيدنايا لإشراف وزارة الدفاع، ويحتجز فيه المعتقلون الذين انتهى التحقيق معهم من قبل الأجهزة الأمنية، أو من تمّت إحالتهم إلى محكمة أمن الدولة أو إلى المحاكم الميدانية العسكرية، ويقضي هؤلاء الأحكام الصادرة بحقهم في هذا السجن.

حتى أواسط التسعينيات من القرن المنصرم، كان السجن يضم معتقلين من الشيوعيين وحزب “البعث الديمقراطي”، و”الإخوان المسلمين”، فضلاً عن فلسطينيين من تيارات مختلفة، ولبنانيين، وأكراد، ومعتقلين من تيارات إسلامية مختلفة.

كان سجن صيدنايا يضم قبل اندلاع الثورة السورية عام 2011، بين 1500 و2000 سجين، لا سيما المتهمين بالانتماء إلى جماعة “الإخوان المسلمين” المحظورة، والتيارات السلفية.

شهد السجن عام 2008 تمرّداً أسفر عن مقتل العشرات من السجناء، وبعد اندلاع الثورة زاد عدد النزلاء في السجن بشكل كبير.

يقدّر عدد المعتقلين حالياً في سجن صيدنايا، بحوالى 14 ألف معتقل، خضع معظمهم لمحاكمة صورية أمام محكمة الميدان العسكرية، وتلقوا أحكاماً جائرة تتراوح بين الإعدام والسجن لمدة 15 عاماً، كما يوجد نحو 8 آلاف معتقل بينهم نساء وأحداث، محتجزون في أحد أجزاء مبنى سجن صيدنايا، ويدعى “السجن الأحمر”، وكان شاهداً على الكثير من الانتهاكات، بينما يضم بناء جديد، يعرف بـ”السجن الأبيض”، حوالى 6 آلاف معتقل، بينهم حوالى 4 آلاف ضابط من جميع الرتب.

يخضع المعتقلون في سجن صيدنايا، لممارسات لا إنسانية من لحظة دخولهم، من ضرب بالهراوات والقضبان المطاطية، وغالباً ما يتم إيداع السجناء الجدد في الزنازين الانفرادية لمدة شهر على الأقل بعد جلدهم بالكابلات. وكشف تقرير لمنظمة “العفو” الدولية صدر قبل أيام، النقاب عن وجود حملة مدروسة تنفذّها السلطات السورية على شكل إعدامات خارج نطاق القضاء، وتتم عن طريق عمليات شنق جماعية داخل سجن صيدنايا، شملت 13 ألف سجين.

إضافة إلى السجون الرسمية، يدير نظام الأسد سجوناً أمنية، يتوسع عناصره في أساليب التعذيب، وتقع داخلها أبشع الجرائم ضدّ الإنسانية. نستعرضها في جزء ثالث.

العربي الجديد

مقبرة “صيدنايا”/ خليل العناني

لا يريد المرء دليلاً على إجرام الديكتاتوريات العربية ووحشيتها أكثر من مطالعة أخبار سجونها ومعتقلاتها التي تحولت إلى “مسالخ” بشرية، تفوح منها رائحة الكراهية والموت والانتقام. وهو أمر ليس جديداً على أنظمة قائمة، ومستمرة فقط، بفضل آلة القمع والقتل الذي تمارسه بحق معارضيها. وعلى الرغم من الحقائق المفزعة التي أوردها تقرير حديث أصدرته منظمة العفو الدولية عن ضحايا سجن واحد فقط في سورية، هو سجن صيدنايا العسكري الذي يبعد عن العاصمة دمشق 30 كيلو متراً شمالاً، إلا أنها ليست مستغربةً على نظام قصف المدنيين في مدينة حماة بالمدفعية في فبراير/ شباط 1982 أكثر من ثلاثة أسابيع. فحسب تقرير المنظمة، فإن ما يقرب من 13 ألف شخص تم قتلهم شنقاً منذ انطلاق الثورة السورية قبل ست سنوات، حتى نهاية 2015. وهو أمر ليس غريباً علي نظامٍ قتل حتى الآن ما يقرب من نصف مليون شخص، وهجّر الملايين خارج ديارهم وقراهم.

حوالى نصف قرن من القتل والتعذيب مارسهما النظام الأسدي، سواء تحت حكم حافظ الأسد منذ بداية السبعينيات، أو تحت حكم الإبن بشار الذي استكمل مسلسل الجرائم الكئيب طوال العقدين الماضيين، وهي جرائم يرقى جميعها إلى إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية. وهي تتفوق بمراحل على مذابح ومجازر أنظمة ديكتاتورية أخرى، في المنطقة وخارجها، ليس فقط من حيث عدد الضحايا، وإنما أيضاً من حيث طرائق القتل والتعذيب وأساليبهما. فحسب تقرير “العفو الدولية”، فإن معظم حالات القتل التي جرت في صيدنايا كانت من خلال الشنق وتكسير عظام الرقبة للمعتقلين، حيث يشير التقرير، حسب تغطية “العربي الجديد”، إلى أنه كان يتم اقتياد السجناء من زنزاناتهم، وإخضاعهم لمحاكمات عشوائية، وتعذيبهم ثم “شنقهم في منتصف الليل وفي سرّية تامة”، وإلقاء جثثههم في أماكن لا يعرفها أحد. ويورد التقرير الذي استند إلى شهادات عشرات الأشخاص، سواء معتقلين أو مسؤولين سابقين عن السجن، بالإضافة إلى قضاة ومحامين، حقائق مفزعة حول كيفية معاملة المعتقلين داخل السجن. وفي واحدةٍ من أكثر الشهادات إيلاماً ما أشار إليه قاض سابق، شهد هذه الإعدامات، بأنه كان يتم إبقاء الذين تم إعدامهم معلقين حوالى 10 إلى 15 دقيقة، وأن “صغار السن من بينهم كان وزنهم أخف من أن يقتلهم (الشنق)، فكان مساعدو الضباط يشدونهم إلى الأسفل، ويحطمون أعناقهم”.

كنّا نتندر على الفرق بين سورية ومصر أيام حسني مبارك بأنه مهما بلغ قمع نظام الأخير، إلا أنه يظل أكثر ديمقراطية و”ليبرالية” من نظام حافظ الأسد. والآن، يمكن التندّر بأن المعتقلات والسجون المصرية التي تحوي بداخلها ما يقرب من 40 ألف معقتل سياسي تعتبر “نُزهة” بالنسبة لمعتقلات بشار الأسد وسجونه. ولو أن كلا النظامين واحد، مع اختلافٍ في الدرجة، وليس في الأصل.

لا يمكن للأنظمة الديكتاتورية العيش بدون القمع والقتل، وهذا أصل وجودها وبقائها ابتداء، بيد أن ما يفعله نظام الأسد يتجاوز ذلك، ويصل إلى درجة جرائم كاملة ضد الإنسانية، لا تختلف عما حدث في بلدان إفريقية، مثل كينيا وكوت ديفوار وإفريقيا الوسطى، أو ما حدث في البوسنة والهرسك في أثناء الحرب الأهلية بداية التسعينات، وما حدث في مناطق أخرى من العالم. ولو أنه تمت محاسبة حافظ الأسد عن جريمته البشعة في حماة قبل 35 عاماً، لما وصلنا إلى ما يفعله ابنه الآن، والذي يحاول الروس الإبقاء عليه في السلطة، حتى يرتكب مزيداً من الجرائم والإبادة بحق من تبقى من السوريين داخل سجونه ومعتقلاته.

العربي الجديد

أصوات صيدنايا/ روجيه عوطة

ثمة أصوات للقتل، الذي ترتكبه دولة الأبد

ثمة أصوات للقتل، الذي ترتكبه دولة الأبد، بجسمها العسكري والأمني، في سجن صيدنايا، أصوات يعرفها المعتقلون جيداً، ومن خلالها، يشعرون أن الإبادة تحصل في جوارهم. فبحسبما شددوا في الحقائق، التي نقلها عنهم تقرير منظمة العفو الدولية، غالباً ما يتلقفون مجرى الإبادة بالإستناد إلى السمع، وذلك، في حين يعمد المسؤولون عنها إلى اقترافها بعيداً عن النظر. ففي وقت الإعدام وتنفيذه، وهو قوام الزمن الإعتقالي، يأمرهم الحراس بالنوم باكراً لكي لا يتسنى لهم أن يكونوا على دراية بنقل رفاقهم من المهاجع إلى حتفهم، لكن، شدة الأصوات لا تسمح لهم بالإغفاء، بل أنها تبلغ آذانهم، وتجعلهم مدركين بأن المجزرة المنظمة قد بدأت أو شارفت على الإنتهاء: “كان الأمر يحدث بعد أن يأمروننا بأن نخلد إلى النوم، وعليه، كان بمقدورنا أن نسمع كل شيء”.

تتدرج الأصوات، التي تصدر عن عملية الإعدام، أو “الحفلة” كما يسميها جهاز الأبد في صيدنايا، من مرتبة إلى أخرى. فلهذه “الحفلة” مسار، أوله، احتجاز المدرجين على قائمة الشنق في قبو تحت “المبنى الأحمر”، حيث يتعرضون للضرب المبرح، وآخره، اقتيادهم إلى قبو تحت “المبنى الأبيض”، حيث يجري وضع الأنشوطة حول أعناقهم، وقطع أنفاسهم. على هذا النحو، ومن الأول إلى الآخر، تتغير الأصوات، ولا تبقى على حال واحدة، فتكون الصراخ، الذي يطلقه المعتقلون من جراء تعذيبهم، ثم تضحى صوت حشرهم في المركبات، التي تحملهم إلى فنائهم، ولاحقاً، تغدو صوت شنقهم، الذي يشبه “صوت سحب شيء ما، تماماً كما تسحب قطعة خشب”، وبعد هذا، تصبح صوت احتضارهم القريب من “الغرغرة”، قبل أن تصير صوت احتكاك توابيتهم بحديد الشاحنات المتوجهة إلى المقابر.

يحاول جهاز الأبد محو هذه الأصوات وحظر وقوعها على مسامع المعتقلين في المهاجع الإفرادية والجماعية. فهو لكي يمنع صراخ المحتجزين في قبو “المبنى الأحمر”، يلزمهم بقاعدة محددة، مفادها أنهم، وكلما أصدروا أنيناً أو صيحةً، سيضاعف من تعذيبهم. ولكي يمنع صوت احتكاك توابيتهم عند تكديسها في “برادات اللحوم” من الذيوع، يدير محركات وسائل النقل من أجل طمسه. على أن هذا الجهاز، ومهما سعى إلى إزالة تلك الأصوات، لا يقدر، بحيث انها تنتشر بحدة، فتلخبط نظام الإخفاء، الذي يعتمده لحجب إبادته، مثلما تطيح بالوجوم، الذي يفرضه. يريد من مجزرته أن تكون غير مسموعة، لكن، أصواتها سرعان ما تنقلب عليها وعليه.

تستوي الأصوات، التي يصدرها المشنوقون من أجسامهم أو من توابيتهم في وقت إعدامهم، على معنيين. من ناحية، تدل على موتهم، ومن ناحية أخرى، تشير إلى أنهم يتمسكون بالحياة عبر مقاومة نفيهم، وفي الناحيتين، تواجه هذه الأصوات نظام طمسها وكبتها. تنتقل من الأقبية الى المهاجع، فلا حواجز تردعها، ولا عوائق تلغيها، معلنةً ان الإبادة تحصل، وحاملةً لرسالة من القتلى الى رفاقهم: “اعلموا بأنهم لم ينقلونا الى معتقلات اخرى، كما أخبروكم، بل انهم يقتلوننا”. كأن الأصوات، هنا، هي دعوة الى باقي المعتقلين لكي يشهدوا، وفعلهم المرجو هذا، يساوي أخذهم الحيطة والحذر: “اشهدوا على قتلنا عبر اتقائكم منه”.

يغضب جلادو الأبد من أصوات المعتقلين، فهم يريدون إبادتهم  كلياً، وبلا ان يبقوا على أي اثر منهم. وفي حين تعذيبهم، يطلبون منهم ان يخرسوا، ان يكونوا غير موجودين بالمطلق، لا بالكلام، ولا بالصراخ، ولا بالأنين. ممنوعة الأصوات على المعتقلين، بهذا القانون، يحسب الجلادون انهم لا يعدمون أحداً، ولا يرتكبون اي شيء بحقه، وبهذا القانون، يتنكرون لشرهم، ويواصلون ممارسته. لكن، ولما تهبط أصوات المعتقلين على مسامع الجلادين، ولو كانت تنم عن مجرى القتل الذي يقترفونه، تفلت من قانونهم، وتقاومهم. لذلك، يعمدون إلى إلغائها، ولذلك، هي إلى جانب السوريين.

المدن

صيدنايا:حرب المئة عام/ ساطع نور الدين

لا مفر من القراءة، بعد طول تمنع وتردد. النص لا يكشف سراً ولا يفضح ستراً. هو مجرد فصل جديد من تاريخ سوري ممتد نحو نصف قرن أو أكثر، لكنه موثق بشهادات وصور وبيانات أدق من ذي قبل، ومدعم بوقائع وأرقام لم يسبق ان جمعت في فترة زمنية لا تتعدى السنوات الخمس.

وما بين الاحساس بالرعب والغثيان، الذي تثيره القراءة الالزامية السريعة، وما تنتجه المخيلة من أفكار وأعراض مؤلمة، وما تستعيده الذاكرة من نصوص مشابهة وتواريخ غير بعيدة، تترسخ الفكرة بان تلك الفظائع هي قدر سوريا ولعنتها، مثلما هي نتاج العلاقة المَرضية المضطربة بين سلطتها وبين شعبها.

فجأة يخطر في البال ان النص يبوح بما يرفضه الجميع ، ويقدم الدليل على ان الحرب الراهنة، التي كان يعتقد انها تقترب من نهاياتها، المتمثلة في إتفاق تجريبي لوقف النار ، وفي مفاوضات إختبارية للسلام، وفي مسودة دستور تؤسس لمرحلة انتقالية فعليةـ، ما زالت في مستهل المئة العام المفترضة لحسم ذلك الصراع الدامي الذي تمتد جذوره الى قرون عديدة مضت، بل ربما الى موعد الاقامة البشرية الاولى على تلك الارض المعذبة.

كيف يمكن لأحد ان يتخيل نهاية وشيكة، في غضون عقد أو إثنين ، لصراع يفجر هذا القدر من الاحقاد والامراض ، ويراكم هذا الكم من الجثث وهذا النوع من التمثيل بالجسد والفتك بالعقل. للجلاد أهل وأقارب وأصدقاء لا ينبذونه ولا يستنكرون وحشيته، وللضحية أهل وأقارب وأصدقاء لا ينسون ولا يسامحون. الانتقام المتبادل هو الخيار الوحيد. والتصفية النهائية هو الرجاء الاكيد.

الفظائع مستمرة. الآن ربما، ثمة من يلفظ أنفاسه الاخيرة في سجن او معتقل او مفرزة أو حاجز، ليضيف الى المذبحة رقماً جديداً ، وليكسب القاتل تشجيعاً على المضي قدماً في مسار التخلص من الآخر، طالما أن النهاية من وجهة نظره صارت وشيكة، والاستسلام هو قاب قوسين أو أدنى. عندها لن يبقى على قيد الحياة، سوى النفوس المستعدة للنسيان والغفران، وتمزيق النصوص المتكررة والمتلاحقة عن مجازر باتت تشكل علامة ثانية من علامات الجغرافيا السورية.

إنها حرب المئة عام. ذلك هو الاستنتاج الابعد الذي يخرج به أي قارىء لتقرير منظمة العفو الدولية عن المسلخ البشري في صيدنايا. يمكن للمتفائل أن يحسم من تلك الحقبة الزمنية، الاعوام ال47 الماضية، التي حفلت هي الاخرى بمذابحها المسجلة والموثقة والمعروفة جيداً ، والتي تبدو معها الحرب الحالية مجرد تتمة منطقية، تتوج الصراع الازلي وتدفعه الى ذرى غير مألوفة.

التوصل الى مثل هذا الاستنتاج مستمد من حقيقتين مذهلتين: ثمة تسليم سوري، موالٍ ومعارضٍ، بان ما ورد في التقرير هو من عاديات الحرب ومن تفاصيلها العابرة، التي لا تستحق سوى بعض الهجاء او الرثاء لا أكثر. وثمة تسليم خارجي بان هذه هي سوريا وتلك هي حربها ، ولا داعي للتدخل لوقف تلك الاعمال الهمجية، على الاقل، او حتى لاستثمارها في الصراع على الحكم او على الشعب، او على ما تبقى من مصالح على الارض السورية.

بعد أسابيع، او حتى أيام، سيسقط التقرير من الذاكرة، ويسحب من التداول ، ويوضع على رفٍ يحتوي على العشرات من التقارير المماثلة. وسينسى الجميع ما كان يمكن للمعارضة السورية أن تفعله، وما كان يمكن لحلفائها وأصدقائها العرب والاجانب ان يقوموا به، من أجل إقفال سجن صيدنايا أو إخضاعه لرقابة ما، أو إدراجه على جدول أعمال ما.

ثمة فظائع تحدث الان بالذات، ولا بد من الاستعداد لتلقي أنبائها والتفاعل (العاطفي والوجداني) مع وقائعها..قبل متابعة مسيرة حرب المئة عام التي تميزت حتى الان بقدر هائل من اللامبالاة الانسانية.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى