صفحات سورية

العقيدة العسكرية السورية وثالوث التحريم: المسّ بها.. إعلان حرب شاملة لا تميز بين حرب عامة وأخرى أهلية/ سالم الأخرس

 

 

 

عندما حطّت الحرب العالمية الأولى أوزارها، وبدأت ضرورات انشاء الدولة الوطنية السورية تلقي بأحمالها على جميع القوى الداخلية التي كانت تنشد إقامة مجتمع ودولة مستقلة، عربية الطابع والهُوية لها حدود جغرافية طموحة، حاولت النخب السياسة آن ذاك، أن ترسم تضاريسها وتحدد تخومها وتكتشف عناصر عيشها في حقول الزراعة والصناعة والتجارة، وتهندس الحياة السياسية والاجتماعية على قواعد الدولة الحديثة، بناء على تجربة الاصلاحات العثمانية التي اختُبرت وجُربت لأكثر من نصف قرن، ومرت عليها أطوار ثلاثة، آخرها تجربة الاتحاد والترقي الطورانية، قبل أن تأتي نتائج الحرب العالمية الأولى لتنهي هذه التجربة.

ولقد تفاءلت تلك النخب السياسية برعاية البريطانيين ووعودهم بدعم قيام دولتها العتيدة، وما ستقدمه من خبرات في مجالات الإدارة والدولة والجيش والقوانين الضريبية والمدنية وغيرها.

ومع تنصيب الأمير فيصل ملكاً وإعلان المملكة السورية وتعيين الوزراء والإدارات ووضع دستور عام للبلاد توافق عليه هيئة برلمانية، بعض أعضائها منتخب من قبل الأعيان والوجهاء والبعض الأخر معين من قبل الملك الجديد. وتشكيل جيش جديد، بدأت ورشات العمل الوطني انطلاقتها.

وكان إنشاء جيش وطني من الأولويات الضرورية لقيام الدولة، فتم تشكّيله من كوادر عسكرية عربية نشأت وتدرّبت ضمن الجيش العثماني، الذي اكتسب ونقل العقيدة العسكرية الغربية، الفرنسية منها والالمانية. وقد استفاد الضباط العرب والأفراد في التشكيل الجديد من خبرة عميقة اكتسبوها خلال خوض الحرب العالمية الأولى في صفوف الجيش العثماني وما كشفته الحرب من نواقص وثغرات والحالة المتردية لهذا الجيش، أمام قوة الجيوش الأخرى. فكان الضباط العرب، عسكريين تشربوا العقيدة العسكرية الغربية بالبروتوكول العثماني، وصقلت خبرتهم في اتون معارك الحرب الاولى. فامتلكوا امكانية تأسيس الكتائب والوحدات الاولى للجيش الوطني الوليد، رغم ضعف التمويل والعتاد والتسليح، بعد أن أتت الحرب الاولى على الأخضر واليابس من العتاد والمال والسلاح. فجاءت عمليات تشكيل الوحدات وهيكليّاتها سهلة الإجراءات نتيجة اكتساب تلك الخبرات.

الا أن المفارقة الكبيرة في هذه التشكيلات، تكمن في بنية العقيدة العسكرية المكتسبة، التي جاءت متقدمة كثيرا على الرؤية السياسية والإدارية والمؤسساتية اللازمة لقيام دولة ومجتمع وطني محلّي. سواء على مستوى الكوادر العسكرية سليلة الجيش العثماني، أو على مستوى النخب الوطنية السياسية، التي كانت تحمل من الأسئلة أكثر من الأجوبة عن كيفية تشكيل دولة وطنية، وبناء مجتمع محلّي، ورسم حدود جغرافيته، وتحديد مجاله الحيوي الاجتماعي ومكوناته، ما جعل الفضاء السياسي والاقتصادي هشّا أمام تداعيات ونتائج الحرب العالمية الأولى (سايكس – بيكو ومؤتمر فرساي)، إذ عصفت هذه الاتفاقيات بأركان الدولة الوليدة، بشهور عمرها المعدودات. وجاءت معركة ميسلون كشهادة وفاة لهذه التجربة، وشهادة بطولة للعقيدة العسكرية، التي أبت أن تخضع لمنطق موازين القوى العسكرية والحسابات السياسية، رغم صوابية وقوة مبرراتها.

خلال فترة الانتداب الفرنسي تعرّضت هذه العقيدة العسكرية لعمليات تشويه عميقة، اذ تم تشكيل وحدات عسكرية محلية الى جانب القوات الفرنسية ضمّت في صفوفها قوات من الدول المستَعمرة من قبل الفرنسيين (سنغال، المغرب وغيرهما) بقيادة ضباط فرنسيين، تخضع لأوامرهم وتدريباتهم وتسليحهم. كما برزت في هذه الوحدات المنضوية تحت مسمّى جيش الشرق الفرنسي، الكولونيالي الوظيفة، التقسيمات الطائفية والأقليات القومية بهيكليّاتها وتسمياتها.

بعد جلاء الانتداب الفرنسي عادت فكرة الوطنية السورية لتحضر بقوة، وعادت معها أفكار إنشاء مؤسسة عسكرية ذات عقيدة وطنية. وكان لنشوء دولة اسرائيل وعقيدتها الصهيونية التوسّعية الأثر الأعظم في نمو المؤسسة العسكرية وهيكليّاتها، وتصدّرها مركز الاهتمام والدعم بتسليحها وتدريبها وتطوير بنيتها بما يتناسب مع تطور العلوم الحديثة عبر ارسال ضباطها لدورات دراسية وتدريبية في المعاهد والكليات الحربية بأوروبا . الأمر الذي جعل العقيدة العسكرية السورية تتكون تحت قبّة العقيدة العسكرية الأوروبية، الفرنسية منها خصوصاً.

أبان الحرب العالمية الثانية كان صعود الدور الأميركي لدى تأسيس جمعية الأمم المتحدة ومجلس الأمن من الدول المنتصرة. وتقاضت الولايات المتحدة الأميركية تعويضات وقوفها مع الحلفاء المنتصرين؛ غنائم ليست أراضي أو احتلال دول، بل وضع اليد على ذهب الدول المهزومة، وترك شؤون المستعمرات وغنائمها للحلفاء، الأمر الذي مكنها من فرض هيمنتها على المشهد العالمي عبر سياسة الاحتواء الاقتصادي، من دون تكبد أعباء الكولونيالية العسكرية. فكان «مشروع مارشال» والترويج الدعائي السياسي والاعلامي لنمط الحياة الأميركية، إضافة الى سياسة بناء التحالفات مع القيادات العسكرية المحليّة في مناطق الصراع الدولية، والتي أخذت نسقا جديدا بين الامبراطوريّتين الصاعدتين (الأميركية والسوفياتية) سالكة مسار الحرب الباردة، وقفت خلالها الامبراطوريّتان الهابطتان (بريطانية العظمى وفرنسا المهيبة) مع الحليف الأميركي، بالتوازي مع عمليات طرد (ناعمة) للنفوذ البريطاني والفرنسي من مناطق سيطرتهما، لصالح تقدم النفوذ الأميركي. كانت الانقلابات العسكرية أهم ادوات عمليات الطرد الناعمة من مناطق الصراع. فخلال عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين حدث أكثر من أربعين انقلاباً عسكرياً ناجحاً في العالم، ودخلت سوريا مسار الانقلابات (التحديث المباغت) منذ عام 1949 بانقلاب الزعيم حسني الزعيم، الذي فتح الباب على مصراعيه أمام المؤسسة العسكرية للاستيلاء على الحياة السياسية بطرقاتها الضيقة، وراحت فلسفة «النفوذ العسكري» داخل الفضاء السياسي تحلّ محل «نفوذ الأعيان والوجهاء»، ذوي الخبرة والتقاليد العائلية والمالية، وأصبحت القوة السياسية ترجح القابض على القوة العسكرية، والنفوذ السياسي يستمد قوته من القوة الموالية له داخل المؤسسة العسكرية، وغدت الحياة الحزبية وديناميتها مرهونة بتواجدها داخل المؤسسة العسكرية.

ومع دخول السلاح التشيكي وبعده السوفياتي، الى الجيش السوري واعتماده مصدراً وحيداً للتسلح بسبب التمنّع الغربي والأميركي، دخلت العقيدة العسكرية السوفياتية بنسيج العقيدة العسكرية السورية، والتي حملت للجيش شعارات الحزب القائد والتربية العقائدية الحزبية. فأصبحت فلسفة انفراد ونفوذ القوة عماد العقيدة العسكرية السورية، سيما وأن السياسة كانت قد بدأت تعيش على مائدة هذه الفلسفة منذ انقلاب الزعيم وحتى إشعار أخر.

ويمكن القول إن بنية «جيش الشرق الفرنسي» وآلية تكوينه، وفكرة التصدّي للتوسع الصهيوني؛ والسياسة تنبع من فوهة البندقية؛ كانت هي مرتكزات وأركان العقيدة العسكرية السورية، خلال أكثر من نصف قرن، إذ تشكلت العقيدة العسكرية السورية على قاعدة حماية حدود الدولة التي رسمتها معاهدة فرساي – لوزان 1922، وارتسمت هيكليّاتها الإدارية والتنظيمية على هذه القاعدة، وكان بجانب هذه الدولة الوليدة وعقيدتها العسكرية، عقيدتان عسكريتان(تركيا الحديثة مع أتاتورك -دولة اسرائيل) قوامهما الفعلي، أن جيشهما قاما بترسيم وتحديد حددوهما على قاعدة «أقدام الجنود ترسم الحدود» مع طموحات متحركة بشأنها، وضمن طموح هاتين العقيدتين تقع الحدود السيادية السورية.

في الستينيات من القرن العشرين ضخت الموجة القومية العربية طموحات جديدة للعقيدة العسكرية السورية، إن كان على مستوى دورها بترسيم الحدود السيادية، أم على مستوى دورها في تحديد قواعد اللعبة السياسية الداخلية، والشروط التنفيذية والتنظيمية لدخول النادي السياسي السوري. فتم وضع نظام يعاقب من يخالف هذه الأسس، يبدأ بالإقامة الجبرية ويصل الى عقوبة الاعدام، مع تجاهل وضع نظام أجر وثواب وامتيازات المنتسبين الى هذا النادي وآليات ضبطه (لأن الانتساب واجب وطني)، وظهرت الروح العسكرية في هذه القوانين، إذ تم التعامل مع النادي وأعضائه كما تعامل أيّ قطعة عسكرية وعناصرها، ولكن بلباس غير عسكريّ.

ترجمت هذه العقيدة على الصعيد الاجتماعي والسياسي بإنشاء مراكز ومقارّ لها في كل المدن السورية تحت أسماء (نادي الضباط – نادي صف الضباط – حزب البعث العربي الاشتراكي -الجبهة الوطنية التقدمية ومراكز اجتماعية خدماتيّة (المؤسسة الاجتماعية العسكرية – المؤسسات الاستهلاكية والتعاونية). من خلال تلك الأدوات تمكنت العقيدة العسكرية من فرش أركان عقيدتها على كامل الحياة السورية العامة، وجعلت المسّ بها ثالوثاً محرّماً من أي جهة كانت، والاقتراب منها بمثابة اعلان حرب شاملة. بحيث ضاعت خطوط التمييز ما بين الحرب العامة دفاعا عن الثغور والسيادة، والحرب الاهلية الناهشة لبنية الدولة والمجتمع، وسقطت احلام أبناء ورجالات «الثورة العربية الكبرى»، التي اندلعت بوجه العسف العثماني، وانتفضت على الانتداب الفرنسي وتمادت بطموح أن تبني مجتمعاً حراً كريماً حديثاً. ولم يتبق للأحفاد إن شاؤوا، سوى التعلم من دروس قرن مضى، طرق بناء مجتمع حديث لها على أرضٍ، طبقات التاريخ فيها كثيرة ومتفجرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى