صفحات المستقبل

العلاج بالكيماوي

دمشق ـ يسار قدور

طغى الحديث حول السلاح الكيماوي واستخدامه في سوريا على صوت المعارك الجارية على الأرض، وحتى على المجازر وعمليات التطهير التي باتت تحدث بشكل شبه يومي، والأعداد الكبيرة للضحايا. وأصبح من الواضح لدى الجميع أنّ السلاح الكيماوي قد تمّ استخدامه في أكثر من منطقة سورية، وإن كان استخدامه لايزال مقتصراً على جرعات خفيفة وكميات محدودة، إلا أن الخط الأحمر الذي حدّدته الولايات المتحدة الأميركية بلسان رئيسها قد تمّ تجاوزه بالفعل.

أما بالنسبة للسوريين أنفسهم فإنّ كلمة “الكيماوي” كانت تخيفهم منذ زمن بعيد، ولكن ليس بمدلولها العسكري كسلاح فتاك يقتل البشر والطبيعة، وإنما لارتباطها بمرض السرطان كعلاج له، حتى أنّ السوريين يتحاشون ذكر اسم المرض في تعبيراتهم فيكفي أن يقول لك أحدهم: (فلان معو هداك المرض) حتى تعرف أنّ الشخص مصاب بمرض السرطان، وينتقل الحديث بشكل آلي عن مقدار الجرعة من “الكيماوي” للاستدلال عن حالة المريض والدرجة التي وصل إليها. وكما أنّ لكل الأدوية أعراض جانبية مؤذية فإن التأثير الجانبي الأكثر شيوعاً بين الناس للعلاج بالكيماوي هو تساقط الشعر، لذلك يلجأ السوري للتخفيف عن المصاب بالقول: “بسيطة ولا يهمك بتحط باروكة ولا كأنو صار شي”، وأصبحت “الباروكة” البديل الجاهز للأثر الجانبي المؤذي للكيماوي.

بعد دخول الثورة السورية عامها الثالث، وعدم وجود أي أفق لحل الأزمة السورية سياسياً، وتحوّل معظم المناطق السورية إلى ساحات للمعارك، انشغل المجتمع الدولي والمعارضة السياسية السورية بالسلاح الكيماوي، وإمكانية أن يتغير التعاطي مع الموضوع السوري بناءً على مدى استخدام هذا السلاح في الحرب الدائرة في سوريا. أما المواطن السوري في الداخل فهو على يقين أنّ الحل لايزال بعيداً إلا إذا لجأ للعلاج بالكيماوي كما في مرض السرطان.

أثبتت التجربة للسوريين، خلال العامين الماضيين، أن المجتمع الدولي لن يتحمل مسؤوليته الأخلاقية والانسانية في رفع الظلم والمعاناة عن الشعب السوري، وبات واضحاً لهم أيضاً أن كل الكلام عن حقوق الانسان والحريات ليس أكثر من شعارات تزين بيانات التنديد والاستنكار للوحشية التي يتعرض لها السوريون، كما أدرك المواطن السوري أنّ الحرب بشكلها الحالي لن تُفضي إلى نتيجة أو أي حل في المدى المنظور. ويعلم كل من يقيم في الداخل أن أي إمكانية للحل السياسي غير واردة، بعد أن وصلت الأمور إلى ماهي عليه الآن. لكن الذي لايعلمه المجتمع الدولي، أو ربما يتجاهله، أنّ طعم الموت بالنسبة للسوري لن يختلف إن كان موته بالسلاح الكيماوي أو تحت القصف أو بأي سلاح آخر.

بما أنّ الموت بمختلف الأسلحة يلاحق السوريين، وبما أنّ السلاح الكيماوي هو الخط الأحمر الأخير المرسوم للتدخل في سوريا، فربما بات استخدام السلاح الكيماوي بجرعة أكبر طوق النجاة الأخير للخلاص سريعاً من هذه المأساة اليومية، رغم أنّ الضريبة قد تكون كبيرة بعد أن دفع السوريون كل هذا الثمن من الضحايا والدمار إلى الآن. لكن، لسان حال السوري يقول: “تعبنا وبدنا نخلص”، وما أن تنبهه إلى الأثر الكبير الذي ينتج عن استخدام الكيماوي يجيبك مبتسماً: “هيك هيك عم نموت شو الفرق؟ بعدين اذا بقينا عايشين منحط باروكة”.

بعد كل هذا الجدل الذي حصل حول السلاح الكيماوي وتبادل الاتهامات من الطرفين باستخدامه، والتناقضات في التصريحات الدولية والأممية سواءً من المسؤولين أو من لجنة التحقيق، التي لم تتمكن من الدخول إلى سوريا حتى اللحظة… تعامل السوريون مع موضوع السلاح الكيماوي كمحطة عابرة، مثل أي محطة مروا بها في ثورتهم بالتدرج في استخدام الأسلحة الفتاكة، ابتداءً من استخدام الرصاص الحي بوجه التظاهرات السلمية، وصولاً إلى القصف العشوائي للأحياء والمدن، وإطلاق الصواريخ البالستية عليها، وكما هي عادة السوريين، فقد كان ردهم واضحاً على هذا النهج الذي حفظوه عن ظهر قلب من خلال اللافتات التي كتبوا عليها: “أسلحتكم الكيماوية لن توقف مد الحرية”، ثم أصبح موضوع السلاح الكيماوي مادة للتندر عند السوريين مثله كأي سلاح سبقه، فكلنا يذكر اللافتات التي رفعت رداً على استخدام الرصاص، والتي كتب عليها “اقتلني ليش فكرك كنت عايش”. ومع القصف رفع لافتات “أوقفوا القصف بدي نام”، وكان الرد على استخدام الصواريخ “على بلد المحبوب وديني بشي صاروخ سكود يا عيني”. ومع الوصول للكيماوي كان السؤال: “سيادة الدكتور تناول واستنشاق الكيماوي قبل الطعام أم بعد الطعام؟”.

يغرق المجتمع الدولي في خلافاته وتناقضاته حول السلاح الكيماوي، كما هو حاله في كل القضايا التي تخص سوريا خلال الثورة. لكن السوريين يمضون في ثورتهم، غير مبالين بكل الخلافات الاقليمية والدولية، في رحلة العلاج من سرطانهم واثقين من الشفاء، رغم كل الآثار الجانبية التي أصابت الجسد السوري.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى