صفحات الرأيمحمد ديبو

العلمانيّة المغدورة في سوريا


(تقرير من إعداد: محمد ديبو)

مَن يراقب البيانات التي تصْدر عن مؤتمرات المعارضة السوريّة يَلْمح دخولَ مصطلح “الدولة المدنيّة” وغياب مصطلح “الدولة العلمانيّة،” مع أنّ المعارضة المذكورة تتكوّن من تيّارات وأحزاب وشخصيّات كانت منذ عقود (وما زالت في جزء منها) تعتبر نفسَها علمانيّة!

فلصالحِ مَن إحلالُ “الدولة المدنيّة” مكانَ “العلمانيّة”؟ وإنْ كان مفهومًا أن يُقْدم السياسيُّ على مبازرةٍ طالما امتهنها، فإنّ المستغرب أن يجاريه المثقفُ، فيقرأ بعينَي السياسيّ لا بعينيه هو. بل وصل الأمرُ بالمفكّر السوريّ برهان غليون، حين سأله مارسيل غانم كيف يتفق مع الإسلاميين وهو علمانيّ، أنْ ردّ مستنكرًا: “من قال إنني علمانيّ؟!” (ورد في مقال نزار العاني، “غليون والعقل السياسيّ العربيّ”). كذلك يفاجئنا المُنْصف المرزوقي بتصريحه الآتي: “لو كنتُ فرنسيًّا لكنتُ لائكيًّا [علمانيًّا]. لكنْ بما أنّني مسلم تونسيّ فلن أرضى باللائكيّة في بلدي.”(تقرير نشرته ا ف ب بعنوان “تونس تقطع علاقتها مع الماضي،” جريدة الرأي الأردنيّة http://www.alrai.com/pages.php?news_id=433454)

أثمّة ردّة في ما يحصل؟ هلّا توقّفنا عند تحذير شيرين عبادي، القاضية والناشطة الحقوقيّة الإيرانيّة الحائزة جائزةَ نوبل للسلام، حين خاطبتْ نساء اليقظة العربيّة أثناء مؤتمر “منبر النساء” في دوفيل بفرنسا قائلة: “لا ترتكبْن خطأنا. إنّ فصلَ الدين عن الدولة هو الضمانة الوحيدة للديموقراطيّة، لا لأنّ الخلل من الشريعة وإنّما لأنّ هذه قابلةٌ للتفسير من قِبَل الرجال الذين يريدون المزيدَ من التسلط ويروْن في الديموقراطيّة عدوًّا لتفرّدهم وخطفًا لصلاحيّاتٍ صادروها وأبعدوا النساءَ عنها عمدًا”؟ (راغدة درغام، “الغرب يصادر الثورات العربيّة لمصلحة الإسلاميين،” الحياة، 28/10/2011).

الهواجس السابقة وجّهناها إلى عددٍ من الفاعلين في الشأن السوريّ، علّنا نفهم ما يجري.

جاد الكريم الجباعي (باحث سوريّ): مكْر العلمانيين أدهى وأمرّ .

لا أعرف مَن يراقب بياناتِ المعارضة سوى لجان الصياغة، التي تعبِّر غالبًا عن نسبة القوى في المؤتمرات. وأدّعي أنّ هذه اللجان لا تهتمّ بالحقائق أو بالجهة التي توجِّه إليها بياناتِها، بقدر اهتمامها بالتعبير عن “ثوابتها ومبادئها،” وبقدر حرص كلّ واحدٍ من أعضائها على وضع بصمتِه أو سمةِ الاتجاه الذي يمثّله على تلك البيانات. وهذا أمرٌ مطّردٌ في أعمال لجان الصياغة في المؤتمرات، ولا سيّما مؤتمرات المعارضة التقليديّة. لذلك لا يُنظر إلى أيّ من هذه البيانات إلا بصفته “خطابًا مثقَّبًا” تقول فجواتُه أكثرَ مما تقوله كلماتُه.

أدّعي أيضًا أنّ أحزاب المعارضة التقليديّة الشائخة لم تتخلّ عن “الدولة العلمانية.” إذ ليس من المنطقيّ أن يتخلّى أحدٌ عن شيء لا يملكه أصلاً ــ فليس في فكر الأحزاب التقليديّة الموصوفة بالعلمانيّة وبرامجِها لا فكرةُ الدولة ولا فكرةُ الدولة العلمانيّة، بل لدى كلٍّ منها مشروعُ دولة “قوميّة” أو “اشتراكيّة” أو “إسلاميّة”، شموليّة لا تمتّ إلى الدولة العلمانيّة بصلة. لقد غابت فكرةُ الدولة الوطنيّة، أي العلمانيّة بالتمام والكمال، عن الثقافة السياسيّة منذ أكثر من نصف قرن، أيْ منذ اغتيال جنين الدولة الوطنيّة الذي كان آخذًا في النموّ بعيْد الاستقلال وبداية ما يسمّيه بعضُ الباحثين “العهد الليبراليّ.”

إنّ مصطلح “الدولة المدنيّة” الشائع اليوم في خطاب المعارضة السياسيّة هنا وهناك، وفي خطاب بعض المثقفين، هو مصطلحٌ محليّ لا أساسَ له في العلوم السياسيّة والقانونيّة. وقد ابتكره منظّرو الإخوان المسلمين في خمسينيّات القرن الماضي على أنه تعبيرٌ عن “حقيقة الدولة الإسلاميّة،” ويرْجعه بعضُهم إلى “الدولة” التي أقامها النبيّ محمّد في المدينة المنوّرة ووَضع لها “صحيفةً” يشبِّهها بعضُهم بالدستور. لكنّ أهمّ ما يدحض هذا المصطلح اليوم أنه من قبيل الأضداد (التي تحمل المعنى ونقيضه)، إذ يعني به الإسلاميون الدولة الإسلاميّة صراحةً، ويعني به “العلمانيون” الدولة العلمانيّة مواربةً. وفي اعتقادي أنّ شيوعه ناتجٌ عن جهل أو مكر، فكيف يأمن الناس على مستقبلهم بين الجهل والمكر؟ والمكْر هنا قسمة بين الإسلاميين والعلمانيين، ولعلّ مكر “العلمانيين” أدهى وأمرّ.

جورج طرابيشي (مفكّر سوريّ): ارتداد علمانيّ

من المؤسف أنّ الإسلاميين ـ المموَّلين بالبترودولارات، والمروَّجَ لهم بالصحافة والمحطّات الفضائيّة المموَّلة بدورها بالدولارات النفطيّة، والمتفوّقةِ بالتالي تفوقا تقنيًّا ساحقًا ـ استطاعوا أن يؤبلسوا كلمة “العلمانيّة” التي كانت الأحزابُ التقدميّة (القوميّة والشيوعيّة معًا) قد تحاشت اعتمادَها في مسعًى انتهازيٍّ منها لكسب أصوات الجماهير المتديّنة التي لم تخرجْ مجتمعيًّا من القدامة إلى الحداثة. وهذه الانتهازيّة هي عينها التي جعلت المعارضةَ العلمانيّةَ باطنًا تقْبل اليوم باستبدال كلمة “العلمانيّة” المؤبلسة بكلمة “المدنيّة” الملتبسة، والتي يزيد في التباسها وذيوعها جماهيريًّا أنها قد تُفهم وكأنها النقيضُ للدولة الدكتاتوريّة المتعسكرة في مصر وسورية والعراق وليبيا. وهذا ما جعل كلمة “المدنيّة” مقبولةً جماهيريًّا ما دامت توحي بأنها ضدّ عسكرة الدولة من دون أن يكون لها إطلاقًا معنى العلمانيّة.

والحال أنّ الضعف الجماهيريّ لأحزاب المعارضة العلمانيّة باطنيًّا لم يتركْ لها من خيار آخر، في سياق تنافسها غير المتكافئ مع الإسلاميين الذين قطفوا الثمارَ ناضجةً بعد نجاحهم في أسلمة المجتمع تمهيدًا لأسلمة الدولة وفق النموذج التركيّ (بعد أن كان إسلاميّو الستينيّات يعملون على أسلمة الدولة أولاً عن طريق الانقلاب أو التمرّد المسلّح)، غير أن تَسْحب الكلمة المؤبلسة من برامجها المعلنة. وعلى هذا النحو بات الإسلاميون اليوم هم المطالبين بالديمقراطيّة، وذلك بعد أن باتت نتائجُ صناديق الاقتراع معروفةً سلفًا بفضل أسلمة المجتمع. الجدير ذكرُه أنّ الأنظمة الدكتاتوريّة تتحمّل نصيبًا كبيرًا من المسؤوليّة عن هذه الأسلمة بعد أن قمعتْ على مدى أربعين عامًا كلَّ شكل من أشكال المعارضة السياسيّة، وغضّت النظر (بل شجّعتْ) تلك الأسلمة في سعيها إلى شرعنة نفسها جماهيريًّا.

حازم نهار (الناطق باسم هيئة التنسيق الوطنيّة): سرّ نجاح أيّ ثورة هو منطقها العلمانيّ

يمكن في هذه اللحظة السياسية تفهّمُ وجود حالة من التنافس المحموم لكسب الشارع السوريّ المنتفض من قبل الأحزاب السياسيّة والنشطاء السياسيين ـ وهذا أمرٌ طبيعيّ بعد حالة الكمون والبلادة السياسية واقتصار العمل السياسيّ على الغرف المغلقة. وبالتالي يعتقد بعضُ الأحزاب السياسيّة بضرورة تفادي استخدام كلمات مرفوضة من الشارع السوريّ كمفردة “العلمانيّة.”

في اعتقادي أنّ هذا الموقف خاطئ من جهتين. فمن جهة أولى، أرى أنّ الأحزاب، تحت هاجس كسب الشارع مؤقتًا، تتخلّى عن أهمّ وظائفها المتمثّلة في الارتقاء بالوعي العامّ. والحقّ أنّ الأحزاب التي تتخلّى عن هذا الدور، وترتكز فقط إلى المزاج العامّ المؤقّت وإلى الحدس والمباشر والآنيّ، تصبح غير ضروريّة مع الزمن؛ ذلك لأنّ الشارع في المآل الأخير لا يحتاج إلى مَن يعبِّر عنه وحسب، بل يحتاج بالقدر ذاته إلى من يرتقي به ويقوده.

وهو خاطئ، من جهة ثانية، لأنّ هذا التشخيص لِما “يريده” الشارعُ المنتفض غير دقيق. هنا أستطيع القول إنّ الشارع السوريّ المنتفض كان علمانيًّا على مستوى السلوك أكثرَ من أصحاب العَلمانيّات المبتذلة أو العَلمانيّات التي تتكشّف عن طائفيّةٍ مقيتةٍ في داخلها. فالشارع لم يخرجْ من أجل إقامة حكم إسلاميّ، ولا تحرّك بإرادة رجال الدين أو الأحزاب الدينيّة، وإنما خرج ثائرًا من أجل الحريّة والكرامة في وجه نظام استبداديّ وفاسد. وقد حدَّد الشارعُ موقفه من الجميع استنادًا إلى اعتبارات المواطنة والوطنيّة ومصالح الشعب: فهو، على سبيل المثال، لم ينظرْ بعين الاحترام إلى عدد من رجال الدين الإسلامي كالبوطي وحسّون، ورفع في كلّ المناطق السوريّة شعاراتٍ وطنيّةً ترى الشعبَ السوريّ كلاً واحدًا موحّدًا. وإذا كانت هناك ملامةٌ من قِبل مدّعي العلمانيّة للمتظاهرين على خروجهم من الجوامع أو على ترديدهم صيحات “الله أكبر،” فإنّ هذا يحدث بسبب نظام القمع والقتل والاستبداد الذي يقوم بكلّ ما هو إجراميٌّ لمنعهم من الوجود في الساحات العامّة. ثم إنه ليس المطلوب بالتأكيد أن يردِّد المتظاهرون أثناء تشييع شهدائهم سمفونيّات بيتهوفن وموزارت!

وإذا كان الشارع يمتلك حساسيّةً خاصّةً تجاه مفردة “العلمانيّة،” فإنما يعود ذلك إلى ارتباط هذه الكلمة بسياسات النظام الاستبداديّ الذي حاول تقديمَ نفسه على أنه نظامٌ علمانيّ، وهو في الحقيقة أبعدُ ما يكون عن العلمانيّة. كما يعود إلى ارتباط المفردة (كما حاول العلمانيون المبتذلون إيصالها) بالموقف السلبيّ والعدائيّ من الدين ــ وهذا الفهم لا علاقة له بالفهم الفلسفيّ والفكريّ للعلمانيّة، وبتجسيداتها السياسيّة.

قد نتفهّم هذا السحبَ لكلمة “العلمانيّة” من التداول في حالةٍ واحدةٍ فقط، هي الحفاظ على مدلولاتها وتعبيراتها ومعانيها في الأهداف والبرامج السياسيّة والتطبيقات العمليّة، وألاّ تكون المفرداتُ البديلة (كالمدنيّة أو غيرها) غائمةً وتنتقص من المدلولات الفكريّة والسياسيّة للعلمانيّة. ذلك أنّ سرّ نجاح أيّ ثورة هو منطقُها العلمانيّ، أيْ عندما يكون الانتماءُ إلى الوطن فوق كلّ انتماء. فهذا الانتماء هو الأساس لبناء الدستور الديمقراطيّ الذي يساوي بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات.

بقي أن أضيف فكرةً حول ما أسمّيه “العلمانيّة الطائفيّة” التي هي توصيفٌ لتفكير سطحيّ ومختزل لدى قطاعٍ واسع، وبخاصّةٍ أدعياء الثقافة والتحضّر. إذ تُختزل العلمانيّة لديهم إلى “فصل الدين عن الدولة،” ثم تُختزل بعد جولة نقاشٍ بسيطة معهم إلى موقف ضدّ حجاب المرأة ومع حريّة تناول الكحول، وإلى التخوّف على فقدان هذه النِّعَم التي يتيحها نظامُ الحكم في سورية. وهذا الفهم المبتسر والسطحيّ يتكشّف في المآل الأخير عن قاعٍ طائفيّ لدى هذه العلمانيّات المدّعية، وعن موقف متعالٍ ومتعجرفٍ إزاء الآخر المختلف. العلمانيّة مفهوم أوسع من هذا الذي تقدّمه هذه العلمانيّاتُ الطائفيّة (أو بالأحرى الطائفيّون الذين يتستّرون بقشرة علمانيّة شكليّة). إنها رفضٌ لهيمنة أيّ فكر أو دين أو إيديولوجيّة أو حزب أو فردٍ على الدولة وأجهزتها ومدارسها ونقاباتها وشوارعها. بهذا المعنى كان حزبُ البعث منذ استلامه السلطة الأكثرَ سلفيّةً، وكان شأنه في ذلك شأن الحكومات الإسلاميّة السلفيّة. الدولة في النظام العلمانيّ قطاعٌ حياديّ مستقلّ فكريًّا وسياسيًّا عن الحزب الموجود في السلطة، لتكون الدولةُ دولةَ كلّ المجتمع، لا دولةَ البعثيين أو الإسلاميين أو دولة الحاكمين. العلمانيّة لا تتجسَّد إلا في بيئة الحريّة واحترام حقوق الإنسان. والدولة التي تفتقر إلى نظام ديمقراطيّ تفتقر بالضرورة إلى نظام علمانيّ، والعكس صحيح. فاحترامُ الآخر والقبولُ بوجوده وبحريّته هما أساس كلّ رؤية علمانيّة حقيقيّة، وبالتالي ليس ما يحدِّد علمانيّةَ فردٍ أو طرفٍ ما هو الفكر الذي يحمله أو الإيديولوجيّة التي يتبنّاها أو الدين الذي يعتنقه أو الطائفة التي ينتمي إليها؛ وإنما هو ذلك الإيمان الراسخ بحريّة الآخر المختلف. من هنا، فإنّ المتديِّن الذي يؤْمن بحريّة الآخر المختلف عنه ويقبل بوجوده وينظر إليه نظرةَ الشريك في الوطن هو ما يمكن توصيفُ موقفه وسلوكه بالعلمانيّ. أما ذلك الذي يختزل الحريّة (التي هي جذر العلمانيّة وأساسها) بالموقف من لباس المرأة أو بحريّة تناول الكحول، بمعزل عن جملة الحريّات الأساسيّة الأخرى، فلا يمكن تسميته إلا بالعلمانيّ المبتذل. وليس من قبيل المصادفة أن يكون هذا الابتذالُ مستلهمًا لروحٍ طائفيّةٍ في العمق.

العلمانيّة في المحصّلة ليست موقفًا ضدّ الدين أو ضدّ أيّ فكر أو إيديولوجيّة. إنها موقفٌ راسخٌ مع الحريّة وضدّ الهيمنة والاستبداد من أيّ نوع كان.

روزا حسن (روائيّة وناشطة سوريّة): رحلة الألف ميل تبدأ بمئة خطوة.

إنْ تذكّرنا سلسلة الخيبات التي مُنيتْ بها الأحزابُ والقوى والتيّارات العلمانيّة في العالم العربيّ عمومًا، فلربّما برّرْنا قليلاً عمليّةَ التلاعب بالمصطلحات، ومحاولاتِ عدم الخوض (الآن) في سجالاتٍ إيديولوجيّةٍ تلْهي المعارضين عن حربهم الأهمّ ضدّ الطغاة، خصوصًا أنّ التقاطعات بين المصطلحين (العلمانيّة والمدنيّة) كثيرة والتفارقات قليلة.

يعود غيابُ مصطلح “الدولة العلمانيّة” إلى أسباب شتّى. من هذه الأسباب حملاتُ التشويه الممنهج، على مدى عقود، من قِبل رجالات الدين الإسلاميّ، الذين نعتوا العلمانيّة مرةَ بأنها صنيعةُ الغرب، ومرةً أخرى بأنها كفرٌ وإلحاد. سببٌ آخر يجعل العلمانيّة تغيب من الخطاب الإعلاميّ لصالح مصطلح “الدولة المدنية” هو أنّ الأخير مصطلحٌ فضفاض ومشوّش، وليست لدى الشارع العربيّ ذاكرة “سيّئة” عنه كما هو الحال مع العلمانيّة. بل إنّ قسمًا كبيرًا من التيّارات الدينيّة “المعتدلة” ترى اليوم ألاّ غضاضة في تطبيق الدولة المدنيّة لأنّ الإسلام قال بها؛ وسيُلْقون عليك أكثرَ من شاهد على ذلك كقولهم إنّ الشورى ممارسة ديمقراطيّة، وإنّ أهل الذمّة أو أهل الكتاب عاشوا سالمين في الدولة الإسلاميّة… وهكذا.

ثمة ركيزةٌ أساسيّةٌ تشترك فيها الدولة المدنيّة والعلمانيّة، وركيزةٌ أخرى تختلفان فيها. الركيزة الأولى المشتركة تفيد، بالإضافة إلى ترسيخ الفعل الديمقراطيّ، بأنّ وظيفة الدولة هي رعايةُ مصالح المواطنين الدنيويّة، وتفيد بضرورة التمييز بين مجالين في حياة المواطنين: 1) مجال عامّ هو من حقّ جميع المواطنين التمتّعُ به، بغضّ النظر عن أصولهم ومعتقداتهم، ولا مرجعيّة فيه لأيّة سلطة دينيّة. 2) مجال خاصّ يكون المرءُ فيه حرًّا بما يعتنق ويرى. أيْ إنّ القانون الوضعيّ العقلانيّ، لا أيّة شريعة سماويّة، هو الذي يحكم الدولة وأفرادَها في الدولتين من دون التمييز بين المواطنين.

لكنّ الركيزة الثانية التي تقوم عليها الدولةُ العلمانيّة، وتتفارق فيها مع الدولة المدنيّة، إنما هي المساواة الكاملة بين معتنقي أيّ دينٍ بمختلف مذاهبهم، ومساواةُ هؤلاء بغير المتديّنين، والملحدين أيضًا، وضمانُ الدفاع عن حريّتهم المطلقة في إيمانهم أو عدم إيمانهم (وهذا ما يسمّى في العديد من البلدان الأوروبيّة: “حريّة الضمير”).

ولنا أن نتذكّر أنّ قوانين الدول العلمانيّة استطاعت أن تحقّق إنجازاتٍ حضاريّة مهمّة على صعيد إنهاء الصراعات الطائفيّة والحروب الدينيّة في الدول التي اعتنقتها، كالحروب الشهيرة بين البروتستانت والكاثوليك. وربما نجمتْ عن عدم اعتناق الدولة المدنيّة لهذه الركيزة صعوبةٌ في إيجاد تساوٍ حقيقيّ بين مختلف الفئات الدينيّة أو العرقيّة، وخصوصًا في البلدان المتنوّعة طائفيًّا وإثنيًّا وفكريًّا واجتماعيًّا كسوريا: فتفاصيلُ ما يسمى “الدولة المدنيّة” لا تضمن الاعترافَ بحقِّ عدم الإيمان (أو شكله) أو الإلحاد، وبالتالي يُخشى من أن تفتح البابَ على ما كان يمارَس باسم الدين لعقود طويلة!

في النهاية، وعلى الرغم من ذلك، فربما كان استخدامُ العلمانيين مصطلحَ “الدولة المدنيّة” بدلاً من “الدولة العلمانيّة” خطّة براغماتيّة في ظلّ الثورات العربيّة، لستُ متشنّجةً في الحقيقة تجاهها، بل ربما كانت لها ضرورة؛ ذلك أنّ تطوّر الشعوب والقوانين والبلاد العربيّة المتخلّفة أمرٌ يحتاج إلى انتقال تدريجيّ، وليس بالضرورة إلى الانتقال الأوروبيّ المباشر نحو الدولة العلمانيّة. فأن أستطيع اليوم أن أطبّق قوانينَ “غير دينيّة” في بلادٍ كانت إسلاميّة منذ قرون، ويزداد المدُّ الدينيُّ فيها، أمرٌ ليس بالسهل ولا بالقليل. وربما أقتنع بأنّ رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة، فما بالكم إنْ كانت خطوةً بمئة خطوة؟!

لؤيْ حسين (كاتب ومؤسِّس تيّار بناء الدولة السورية): استخدام مقصود

صحيح ما تقوله عن غياب مصطلح “الدولة العلمانيّة” وبروز مصطلح “الدولة المدنيّة.” ولا أنكر أننا استخدمنا كلمة “المدنيّة” بديلاً من “العلمانيّة” بشكل مقصود. وربما كنّا نحن مَن بدأ بترويج مصطلح “الدولة المدنيّة” على نطاق واسع في مؤتمر السميرأميس، وحاولنا قاصدين تكريسَه لاحقًا في جميع الأدبيّات والخطاب السياسيّ [مؤتمر سميراميس هو أول مؤتمر علنيّ للمعارضة في الداخل السوريّ، دعا إليه المعارض لؤيْ حسين، ليجتمع فيه حوالي 300 شخصيّة معارضة ومستقلّة للتشاور في شأن الانتفاضة السوريّة، وأصدر بيانًا في ختام أعماله، من أهمّ بنوده الانتقالُ الآمن والسلميّ إلى دولة مدنيّة ديمقراطيّة ودعم الانتفاضة والتأكيد على التظاهر ودون إذن مسبّق ـ م. د].

إنّ مصطلح “الدولة المدنيّة” لم يكن يدلّ سابقًا على شيء، أيْ لم يكن معتمَدًا، أو لا دلالة سياسيّة له. لكننا آثرنا استخدامَه بديلاً من “العلمانيّة” في الاصطلاح، لا في المضمون والمعنى. فمن يراجع وثائقنا وأدبيّاتنا يجد بسهولة أننا نريد دولة علمانيّة محايدة تجاه العقائد والأديان، وتقوم على المواطن الفرد، ومصدرُ التشريع فيها هو الإرادة الحرة للسوريين لا أيُّ نصٍّ أو مرجعٍ سابق.

ومع علمنا بعدم الدلالة السياسيّة لمصطلح “الدولة المدنيّة،” فإننا ننوي أن نعطيه نحن تلك الدلالةَ التي تتطابق تمامًا مع العلمانيّة وتنوب منابها. واستخدامُنا لذلك المصطلح نابعٌ من أنّ مصطلح “العلمانيّة” ملتبسٌ في الثقافة السوريّة ويشير دومًا إلى الإلحاد ومناهضة الدين ـ وهذا غير صحيح. وكنّا قد سعينا في الزمن الميّت سياسيًّا، قبل الانتفاضة، أن نروّج لمصطلح العلمانيّة في الثقافة السياسيّة السوريّة. لكنّ استخدامَه في هذا الزمن الحيّ سياسيًّا، الذي انتعش بعد انطلاق الانتفاضة السوريّة، سيسبّب الكثير من الإرباك للمتظاهرين والمحتجّين. لهذا حاولنا أن نقلّل الإرباكات الآن باستخدام مصطلح “الدولة المدنيّة” الذي بات معروفًا لدى المهتمّين بالشأن العامّ السوريّ أنه بديلٌ للعلمانيّة. وهذا ليس تنازلاً أمام الأحزاب الدينيّة على الإطلاق، بل على العكس: فالقوى الدينيّة الآن بدأت تعتمد هذا المصطلح.

ملاحظة: تسلسل الأسماء جاء حسب التسلسل الأبجديّ.

الآداب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى