حمّود حمّودصفحات الرأي

العلمانيّة: من خطاب «السّلطة» إلى خطاب «المعرفة»


حمّود حمّود()
في ذاتها، الكلمات صمّاء، صامتة، لا تنطق بمدلولاتها إلا بما يُراد منها أن تنطقه. ورغم ذلك، اللغة ليست كائناً حياديّاً. إنها «سلطة« متغلغلة في كلِّ ثنايا التاريخ البشري. فاحتكارها من أيّ طرف كان، هو إعادة إنتاج لهذه السّلطة بتموضعات شتّى: سياسيّة، اجتماعيّة، دينيّة. الكهنوت مثلاً، حينما يحتكر لغة المقدّس، فإنّه يعيد إنتاج سلطته من خلالها باستمرار، الأمر الذي يؤدّي إلى احتكار التأويل، وحصره في دائرة «المطلق»، هذه الدائرة التي سيُجسّد «معانيها/ دلالاتها» رجال الكهنوت فقط من خلال: اللغة. وقل الأمرَ نفسَه على صاحب السلطة السياسيّة التوتاليتاريّة. وبهذا، ليست العلاقة بين الدّال والمدلول (= اللغة) اعتباطيّة، بقدر ما هي علاقة مخادعة، متوترة، ملتبسة؛ علاقة تخضع للسّياق التاريخيّ المعنيّ، وللخلفيات الإيديولوجيّة المتحكّمة بأطراف الصّراع.

العلمانيّة كـ اصطلاح ودالّ معرفيّ وحداثيّ كوني، احتُكِر معناها في البلاد العربية من قبل الطرفين: السلطة السياسية والكهنوتية. وليس مفاجأة أن يتفق الاثنان في الخطوط العريضة على نقطتين: أولاً، السلطتان اشتركتا في التغييب «الجذري» لمفهوم الدّولة، كـ اجتماع وكيان سياسي، واختصار العلاقة بين الدولة والدين، كمتقابلين: «مقدّس ومدنّس»، لكن خارج حدود مفهومة الدولة.

الاشتراك الثاني، لقد أسّسا سلطةً من وراء تشريع أو «تسليط» المدلول الذي أُريد: فمن جهة، اختُصِرت العلمانيّة بالإلحاد (عند الكهنوت)؛ ومن جهة أخرى، تساوت بالاستبداد (عند السلطة السياسيّة)؛ ما أسّس تالياً لـ»سلطة» ضمنيّة لمفهوم العلمانيّة، من خلال سلطة الكهنوت والاستبداد، واستطاع هذا الفهم التغلغلَ والسّيطرة على الوعي الشعبيّ، المغلق سلفاً بذينك السلطتين.

وتجدر الإشارة، أنّ المجتمعات على المدى الطّويل حينما تُصابُ باليأس جرّاء أنظمتها التوتاليتاريّة «المغلقة»، لا تلجأ في ثقافتها وسلوكها وأفعالها إلى ما يناقض انغلاق تلك الأنظمة، بل إلى «انغلاقات» أخرى، تشعر المجتمعات أنها تُكْسبها الأملَ والخلاص؛ وهذه غالباً تكون في الأشكال الدينيّة «الخلاصيّة». هذه إحدى الزوايا التي من المفترض أن نقرأ من خلالها صعود التيارات الدينيّة، في بعض البلدان العربيّة التي كان يُظن بها أنها علمانية.

ولأنّ تجربة تطبيق العلمانيّة في البلاد العربيّة كانت أساساً على أيدي العسكر والإيديولوجيات التوتاليتاريّة (من قوميّة وغيرها)، أصبح خطاب العلمانيّة هو خطاب الأنظمة السياسية، خطاب السلطة (= الاستبداد)، هذا الخطاب الذي ساعد في استشراء (وليس خلق) خطابات مناقضة لها شكلاً لا جوهراً، وتحديداً الإسلام السياسيّ، الذي تجسّد بحركات وأحزاب جمعت بين الكهنوت والسياسة في مزج غير بريء؛ فاستَثْمرت هذه الحركات الدينية المدلولاتِ التي قدّمها خطابُ السلطة، فأصبح الإسلام السياسيّ تالياً يساوي في ذاته خطاباً ذا «سلطة» أيضاً: العدالة والحرية والقضاء على الاستبداد، من جهة، والتخلّص من إلحاد العسكر وعلمانيتهم (سوريّة البعث)، والإيديولوجيات التي تقاطعت مع هذا الإلحاد، من جهة أخرى.

وفوق هذا، كثير من الأنظمة العربيّة استطاع السّيطرة على معنى الدّين ذاته، وإعادة إنتاج هذا المعنى من خلال السيطرة ليس فقط على رجال الكهنوت ذاتهم، وإنما على خطابهم الدينيّ. هكذا سيساوي الإسلامُ العلمانيّةَ في الأنظمة التي قالت أنها علمانيّة (المفتي السوريّ -مثلاً- الذي يهدد الآن الغرب بالقيام بعمليات انتحاريّة، كان هو نفسه منذ فترة زمنيّة قد أكد في الغرب أنّ: «العلمانية ليست ضد الدين، وأنا مسلم علماني«. لكن الآن البعض من الكهنة الكبار المسيطر على بعض قنوات الإعلام يتهم برهان غليون بأنّه «علماني ملحد»! من أجل تأليب الرأي العام ضدّه)، كما تساوى الإسلام في عهد عبد الناصر بالاشتراكية، ولاحقاً أخذ يتساوى باللبرالية وحقوق الفرد في عهد السادات فصاعداً.

من هنا، ضرورة إعادة تحرير مفهوم العلمانية «كليّاً» بنحو معرفيّ: تحريره أولاً من السلطة «الصّنميّة» التي جسدتها أنظمة الاستبداد، والأشقاء من التيارات الدينية المسيّسة، وغيرها من الإيديولوجيات التوتاليتارية القوميّة، وثانيّاً بإعادة موضعة المفهوم باستحقاقه الحداثيّ والتاريخيّ هو، لا وفقاً لتمنيات إيديولوجيّة مسبقة، تدّعي الخصوصية الثقافيّة والدينيّة وما شابه.

العَلْمنة ليست قراراً سياسياً يُفرض من فوق، أو إجراء أوتوماتيكياً لعَلْمنة جزء من كيان الدولة دون آخر؛ إنها فعل ثقافيّ ومعرفيّ أولاً وقبل كلّ شيء، تبدأ من قاع الهرم الاجتماعي، وانتهاء بقمته، السلطة السياسية. ما فعلته أنظمتنا ليس فقط «مسخ» المفهوم، وإنما تأسيس «سلطة» لهذا «المسخ»، وإعادة إنتاج لهذه السلطة في مجتمعات أغلقتها، إلا من الانفتاح على الماضي المذهّب، الماضي الذي تنتمي إليه هذه السُّلطة. هل من الغريب أن تُعيد الأنظمة هذه إنتاجَ الماضي وشخوصه التاريخية بما يدعم استبدادها، واختيار بعضها أنهم كانوا اشتراكيّين! أو شخصيات مخيالية أخرى نادت بالوحدة العربيّة والقوميّة!؟

لكن إذا قيل أنّ إقرار اللائيكية الفرنسية (1905) كان فعلاً سياسياً، وكذا رضوخ الكنيسة الكاثوليكية (1924) كان أيضاً سياسياً (خوفاً من تهميشها لاحقاً)، فإن من المهم عدم إغفال أنّ إقرار اللائيكية كأمر واقع في فرنسا، لم يكن سوى عمليّة تتويج تاريخي لعَلْمنة معرفيّة استمرت مئات السنين، علْمنة لم يشتغل صانعوها من قمة الهرم، بل من قاعه، بعد إعادة «ضبط» الظاهرة الدينية معرفيّاً ونقديّاً، وذلك من خلال علمنة لاهوتها؛ بمعنى أنها كانت تتويجاً لـ»الأنوار» الفرنسيّة، وليس على الطريقة العسكريّة لأتاتورك الذي لم يقرر فقط علمنة المجال السياسي وفصله عن الدين في سياق منفصل عن التاريخ، بل قرّر التّحكّم بالدين وإدارة قضاياه.

إنّ جدّية وخطورة ما تمر به بعض البلدان العربية، يُحتّم الخروج، وإلى الأبد من «العَدَم» السجالي، وإدخال مفهوم العلمانيّة (وغيره من مفاهيم الحداثة) في دائرة المُفكّر فيه (وليس حصره ضمن دائرة اللامفكر فيه بين أقطاب الكهنة والمحافظين السياسيين)، بحيث يتحول التقابل الأبدي المعاصر بين طرفي الثنائية المفاهيمية، دين/ دنيا إلى مجال أوسع، بحسب مصلحة الاجتماع السياسي أولاً وقبل كلّ شيء، بعيداً عن التنظيرات الأخلاقية وما إليه، والتخلّي عن المناهج السكولائية الستاتيكية الثقافوية المعاصرة، وذلك من خلال «الاستيعاب النقدي» لتاريخيته، بحيث يغدو خطابُ العَلْمنة خطاباً معرفيّاً وثقافيّاً.

() كاتب سوري

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى