إيّاد العبداللهصفحات مميزة

العلويون: رحلتهم إلى سورية ورحلتهم منها!: إياد العبدالله

إياد العبدالله

نعترف في البداية بصعوبات عديدة تقف أمام بحثنا في موضوع العلويين. ربما يتعلق بعضها بقلة الدراسات التي حظيت بها هذه «الجماعة». إن أغلب ما أنتج من مقاربات حول العلويين كان من خارجهم، ولعل مستشرقي القرن التاسع عشر، هم أول من أفرد لهم بعض المساحات من خلال تناول أحوالهم وأوضاعهم وأصولهم وعقائدهم. ثمة كتابات أحدث حول العلويين جاءت، غالباً، من قبل إسلاميين مناهضين لهم، تضعهم في فئة الفرق الباطنية، التي اتفقت أدبيات، سُنية وشيعية، على إخراجها من الإسلام. الاعتراف بكون العلويين مسلمين، لم يحصل إلا في القرن العشرين، وهو أمر لم ينل إجماعاً بكل حال.

العلويون لم يكتبوا تاريخهم. ما هو موجود على هذا الصعيد حديث ذو طابع سجالي في غالبيته، يهدف إلى التأكيد على أصالة إسلامهم وعروبتهم، والرد على التصورات التي تنال منهم من خارجهم. بينما يلجأ العلويون إلى التاريخ الذي ينتسب إلى الشيعة الإمامية في ما يخص الإسلام والتحولات التي ستطرأ عليه وعلى المسلمين، وهو في معظمه، تاريخ سجالي أيضاً، ينافح لأجل تثبيت شرعية عقائده وأحقيته في أن يكون الممثل الأصيل للإسلام. وبالنسبة للعلويين، لا يأخذ حضورهم التاريخي بالتكثف والازدياد إلا مع نهايات الحقبة العثمانية، وما قبل ذلك عبارة عن أخبار متناثرة في بطون كتب التاريخ، وبعض الفتاوى الدينية حولهم.

بقي قبل أن نخوض في موضوعنا، أن نؤكد أن مقاربتنا للعلويين، قد تبدو وكأنها تورطت في تناولهم كمجموعة بشرية منسجمة في أهوائها وطبائعها وسلوكياتها، وهذا مما لا يعتقد البحث به، بل ويقر بامتناعه في حياة المجموعات البشرية سواء صنفت على أساس الدين أو السياسة أو وجدت في حيز جغرافي ما. ولكننا مع ذلك لا نقف مع تلك النظرة التذريرية التي تغالي في إعلاء وقائع الاختلاف وطمس ما عداها، إذ ثمة مشتركات يتداخل فيما بينها ما هو متوارث بحكم المنطقة الجغرافية أو الانتماء الديني أو غير ذلك، يتيح لنا الكلام عن نظام عام يكاد يميز مجموعة بشرية عن غيرها، ويجعلها مشتركة في بعض السلوكيات أو المشاعر أو التعبيرات. ينطبق هذا الكلام على الطوائف الدينية وعلى الأمم والشعوب المختلفة، ويغدو أكثر بروزاً في المجموعات البشرية الصغيرة.

فتاوى وتواريخ

1

لم يكن العلويين فاعلين في التاريخ الإسلامي. لم تنشأ دول وممالك باسمهم أسوة بغيرهم من المذاهب الأخرى، حتى الباطنية منها، كالإسماعيلية والدروز الذين يربط بعض المؤرخين بين ظهورهم وبين دولة الفاطميين في مصر. يرغب بعض العلويين في تقرير أن سيف الدولة الحمداني كان علوياً، وخصوصاً وأن أحد شيوخ العلويين المؤسسين، الحسين بن حمدان الخصيبي، كان من المقربين لسيف الدولة، وتغالي بعض الروايات لتجعل من هذا الأخير أحد الدعاة السريين عند الخصيبي. إلا أن هذه الرواية لا تجد لها سنداً قوياً، فثمة روايات أخرى تذهب إلى غير ذلك. ومن ناحية أخرى لم يشتهر عنهم مساهمتهم في الكلام الإسلامي، والسجال الذي حفلت به كتب التاريخ بين المذاهب. وعلى الرغم من هذا، فإنهم، مع باقي الطوائف الباطنية، كانوا في مرمى الفتاوى الدينية التي كان يطلقها علماء دين، سنيون وشيعيون.

ربما أول ما نستذكره في هذا الشأن، حجة الإسلام أبو حامد الغزالي (توفي 1111م)، في كتابه «فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية». وهو كتاب هدف من ورائه الغزالي الانتصار للخليفة العباسي المستظهر بالله بعد أن قويت شوكة الفاطميين في مصر وأخذوا يشكلون تهديداً جدياً لسلطة العباسيين. وما يلفت الانتباه في هذا الشأن أن الغزالي عاصر اقتحام الصليبيين لبلاد المسلمين، وكذلك سقوط القدس على أيديهم  1099م، ومع ذلك لم يحرك ساكناً إزاء هذا الأمر، وخصوصاً وأنه عاش بعد سقوط القدس ما يقارب ثلاثة عشر عاماً. لن نخوض في تفاصيل كتاب الغزالي، وسنقف فقط إزاء بعض الأحكام التي يوردها بحقهم.

الباطنية عند الغزالي لا تعامل معاملة الكافر الأصلي، بل الكافر المرتد. إن كل من هو على غير دين الإسلام يعتبر كافراً، لكن الأصلي هو من لم يسبق له أن أسلم، أما المرتد فهو من ترك الإسلام إلى الكفر. هذا الأخير هو أشد كفراً من الأصلي، جزاؤه القتل، بينما يسمح للكافر الأصلي أن يبقى حيث هو، إن خضع للإسلام ودفع الجزية. ولهذا يقول الغزالي: «يتخير الإمام في الكافر الأصلي بين أربع خصال: بين المنّ والفداء والاسترقاق والقتل. ولا يتخير في حق المرتد، بل لا سبيل إلى استرقاقهم، ولا إلى قبول الجزية منهم ولا إلى المن والفداء. وإنما الواجب قتلهم وتطهير وجه الأرض منهم ـ هذا حكم الذين يحكم بكفرهم من الباطنية»1. يقع هذا الحكم حتى على «النسوان» من الباطنية2، ولا يستثنى منه إلا الصبيان الذين سيخيرون حين يكبرون بين الإسلام أو دين آبائهم، فيعفى عنهم في الحالة الأولى ويقتلون في الثانية3.

وتعتبر فتوى ابن تيمية هي الأشهر من بين الفتاوى التي تناولت العلويين بالتكفير، وهي لا تزال حتى الآن المرجع الأول لتكفيريي هذا الزمان، ومنهم أولئك المنخرطين في الوضع السوري مؤخراً. يقرر ابن تيمية أن «هؤلاء المسمون بالنصيرية هم وسائر أصناف القرامطة الباطنية أكفر من اليهود والنصارى، بل وأكفر من كثير من المشركين وضررهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من ضرر الكفار المحاربين مثل كفار التتار والفرنج وغيرهم»4. ورغم أن السؤال كان عن النصيرية، إلا أن ابن تيمية يتوسع في إجابته ليشمل جميع «الباطنية»، ويبدو ذلك جلياً من خلال ذكره لبعض «الموبقات» التي ارتبطت باسمهم، كقتل الحجاج ورميهم ببئر زمزم، والاستيلاء على الحجر الأسود، وتحميلهم وزر استيلاء الصليبيين على السواحل الشامية، ومن ثم القدس. ومساعدتهم للتتار في دخول البلاد الإسلامية، ودور النصير الطوسي الذي كان وزيراً للباطنية في الألموت، في قتل خليفة بغداد5. ويستذكر ابن تيمية «الألقاب» المعروفة لهم بين المسلمين، والتي تتراوح بين «الملاحدة، القرامطة، الباطنية، الإسماعيلية، النصيرية، الخرمية، المحمرة»6. بل إن الخلط يبدو منذ البداية مع السؤال، وذلك عندما يذكر السائل بأن «هذه الطائفة الملعونة استولت على جانب كبير من بلاد الشام»7، ولم يأت لا في التواريخ التي يعتمدها العلويون أو سواهم، ذكر عن مثل هذا الاستيلاء، وأغلب الظن أن الخلط حاصل بين العلويين من جهة والفاطميين أو الشيعة الإمامية من أخرى. وعلى الرغم من دعوة ابن تيمية في فتواه إلى جهاد النصيرية بوصفهم من الباطنية، وتقريره بأن «دماؤهم وأموالهم مباحة»8، حيث أن جهاد المرتدين مقدم على جهاد غيرهم اقتداء بما فعله الصحابة؛ إلا أنه يترك باب التوبة أمامهم مفتوحاً، مستلهماً سنة أبو بكر في حربه مع المرتدين حيث قام بتخييرهم بين «حرب مجلية أو سلم مخزية»، بل ويذهب في فتوى ثانية، إلى أن «الأئمة متفقون على أن المرتد إذا أسلم عصم بإسلامه دمه وماله وإن لم يحكم بذلك حاكم»9. الحكم الوحيد الذي يرد فيه القتل بخصوص الباطنية، وبحيث لا تقبل أي توبة، جاء في فتوى رد بها على سؤال يخص الدروز، حيث يحكم ابن تيمية بأنهم «زنادقة مرتدون لا تقبل توبتهم، بل يقتلون أينما ثقفوا، ويلعنون كما وصفوا»10، وربما التعليل الذي يمكن نجده عند ابن تيمية بهذا الخصوص، أنه يراهم «أعظم كفراً من الغالية»((المصدر السابق ص162))، والنصيرية من هؤلاء الأخيرين.

في أزمنة أحدث، من دمشق هذه المرة، ستصدر فتوى عن مفتي الشام عبد الرحمن بن محمد العمادي (توفي 1641م)، وسيؤكد على ما جاء فيها فيما بعد مفتي الشام علي بن محمد المرادي (توفي 1771م). يتطرق العمادي للدروز، ويرى «أنهم ينتحلون عقائد النصيرية والإسماعيلية كالقرامطة والباطنية» ليقرر بأن «جميع الطوائف المذكورة زنادقة ملاحدة، وهم متقاربون في الاعتقاد، وملتهم في الكفر واحدة». بل، واستناداً إلى رأي من سبقه من علماء وفقهاء، فإن من «شك في كفرهم، فهو كافر مثلهم». وأما دليله بأنهم أكفر من اليهود والنصارى، فهو أنه «لا تحل مناكحتهم، ولا تؤكل ذبائحهم بخلاف أهل الكتاب»11.

2

مع بداية القرن التاسع عشر ستتفاعل المسألة الشرقية التي تعود جذورها إلى الحساسية الأوروبية من التمدد العثماني-الإسلامي داخل أوروبا. سيكون لاحتلال نابليون لمصر (1798-1801م) دور في تفعيل هذه المسألة ودفعها باتجاهات جديدة. لقد أيقظ احتلال مصر مخاوف الإنكليز والعثمانيين، إلا أنه من ناحية ثانية شكل صدمة للوعي الإسلامي/السنّي، دفعه باتجاه السعي لبلورة ذاتية تعرّف نفسها بالتناقض مع المسيحية/الغرب. فيما بعد، سيكون للحملة التي أطلقها حاكم مصر محمد علي باشا دور في دفع المسألة الشرقية للأمام، وخصوصاً بعد دخول قواته إلى بلاد الشام وتهديده عرش السلطان العثماني محمود الثاني. لقد استدعى هذا مزيداً من التدخل الأوروبي في المنطقة، وخصوصاً من قبل الروس والانكليز، حيث أن انتصارات محمد علي بدت لهما انتصارات لفرنسا الداعمة له. كان أحد نتائج التغلغل الدولي الجديد هو بروز مسألة الأقليات، وخصوصاً في المشرق العربي، حيث ستسعى دول إلى إقامة علاقات مع بعض المكونات المحلية، فرنسا مع المسيحيين (موارنة لبنان خصوصاً) والإنكليز مع الدروز والروس مع الروم الأرثوذكس، بينما سينشد المسلمون السنّة إلى الهوية العثمانية. سيكون لبنان أحد الساحات الساخنة للمسألة الشرقية، التي ستمتد تداعياتها حتى دمشق وحلب. وعناصرها هم المسلمون السنّة والمسيحيون والدروز في كل من سورية ولبنان. أمام هذه المعطيات لن يبدو غريباً أن يحصل تصادم بين المسيحيين والدروز في لبنان بعد عام واحد من انسحاب جيوش محمد علي إلى مصر، 1841، لتتطور إلى حرب أهلية بينهما عام 1845، والتي ستتجدد عام 1860م ويصل أوارها إلى دمشق وحلب. ففي هذه الأخيرة ستعلق ملصقات على أبواب الجوامع تدعو إلى ذبح المسيحيين12، لتتطور فيما بعد، بحسب إحدى المراسلات، إلى «منازعات بين المسلمين والمسيحيين في شوارع حلب»13. وفي دمشق سيصل عدد ضحايا الفتنة التي حصلت بين المسلمين والمسيحيين إلى الآلاف بحسب عدة روايات. بالإضافة إلى دور الدول الغربية والعثمانيين في إذكاء مثل هذه النزاعات، إلا أنها في جانب لا يستهان به تعكس ذلك الشعور بالغبن الذي بدأ يستحوذ على مشاعر المسلمين إزاء التدخلات الغربية في بلادهم، وانعكاس ذلك على أوضاع المسيحيين فيها. سيرى المسلمون في التدخل الغربي امتداداً لغزو أهل الصليب الديار الإسلامية في أزمان سابقة، والرد عليها لن يكون إلا عبر تدعيم الذاتية ومديح التعصب والتحزب، لتصل الأمور في بعض الأحيان إلى درجة شيطنة المسيحيين وتحميلهم وزر ما لحق بأحوال البلاد والعباد من ضعف وتراجع. ربما يعكس البيان الذي أطلقه علماء دمشق 1860م، داعين فيه المسلمين إلى استغلال ضعف القوى الغربية بعد أن أنهكتها حرب القرم وعدم قدرتها على التدخل لحماية «الأمة المسيحية»14 لأن هؤلاء المسيحيين «متآمرون على المسلمين مع الدول الأوروبية»15. إلا أن الملفت في هذا البيان هو موقف هؤلاء العلماء من العلويين. فكما رأينا سابقاً، يعتبر هؤلاء الأخيرين أكفر من النصارى واليهود، المعتبرين من أهل الكتاب، وليسوا من أهل الردة كالعلويين وسائر أصناف الباطنية، كما حكم كلّ من الغزالي وابن تيمية، ومن بعدهم العالمان الدمشقيان اللذان توليا منصب الإفتاء في دمشق، العمادي والمرادي. يقلب بيان علماء دمشق هذه الترسيمة، ليقرر في أحد البنود الواردة فيه أن «شهادة المسيحي غير معتبرة شرعاً بل يجب تفضيل شهادة النصيري عليه»16.

لم يلفت العلويون انتباه الدول الغربية، ولم يكونوا حتى على هامش المسألة الشرقية، وخارج الأقليات التي أخذت تبرز على الساحة في المنطقة، والتي كانت محط اهتمام الدول الغربية. وجميع الأخبار عنهم في تلك الحقبة تفيد عن انقطاعهم عما يحصل في المنطقة. يروي يوسف الحكيم (ولد في اللاذقية 1879) عن عزلة العلويين في الجبال، مُرجعاً هذا الأمر إلى الاضطهاد الذي تعرضوا له «في العراق وغيره»، فكان هذا في «مقدمة أسباب هجرتهم غرباً واعتصامهم في الجبال التي استوطنوها وسميت باسمهم (…) ورغم انتشار العلويين في القرى الجبلية والساحلية، لم يسكن أحد منهم في المدن آنذاك، لا في بلدة جبلة، مركز القضاء العلوي بأكثريته البارزة، المأهولة بالسنيين دون سواهم، ولا في اللاذقية، المأهولة بالسنيين والمسيحيين»17. وربما تعكس الصورة التي ينقلها «الملازم ولبول» الذي زار مناطق العلويين 1851، بعضاً من هذا الانقطاع المتبادل بين العلويين وغيرهم، يقول والبول: «عندما انطلقت نحو الجبال، لم يكن هناك شخص واحد في تلك المدينة (أي اللاذقية) إلا وكان مقتنعاً بأنني ذاهب إلى موت محقق، ذلك أنه لم يغامر أي من سكان المدينة بالذهاب إلى مناطق العلويين فقد كانت تمثل بالنسبة إليهم أرضاً مجهولة تماماً‘»18. وربما كانت هذه العزلة وراء الصفات التي تبدو منمطة وجامعة لجميع العلويين، بنظر العديد ممن كتب عنهم، وبما يصل أحياناً إلى درجة تمييزهم بإطلاق عن باقي السكان في المنطقة، يقول كاهون: «إن صفة الحذر والجفول التي يتسم بها هذا الشعب، والغموض الذي يحيط بمعتقداته الدينية، والثبات والحمية التي دافع وما يزال يدافع بهما عن قوميته العربية، ضد كل الغزاة الأجانب، والهيئة المتميزة لهؤلاء الشقر ذوي العيون الفاتحة والمختلفة بشدة عن هيئة الأتراك والمارونيين والأكراد إلخ… كل هذا دفعني إلى تجميع المعطيات الأنتروبولوجية بحيث يكون العلويون من بين الجماعات البشرية الأخرى التي أسعى لكشف أصولها والتعريف إيجابياً بخصائصها، الأنثروبولوجية»19. هذه العزلة بالذات، والاختلاف والغموض الذي يميز تدين العلويين، بالإضافة إلى أحوالهم التي كانت إلى البؤس أقرب؛ كل هذا سيشكل إغراء لبعض المبشرين والمستشرقين الذين أملوا بأن تكون مناطق العلويين أحد معاقل التبشير المسيحي في المنطقة. وربما نجحوا في بعض الحالات الضيقة والمحدودة، يروي يوسف الحكيم عن اعتناق بعض العلويين للمسيحية على يد البعثة العلمية الأميركية، وبأن هذا الأمر لم يلق أي «اعتراض أو تذمر من قبل إخوانهم، الذين يؤلفون الأكثرية في الجبل وضواحي المدينة، ولا من قبل الحكومة أو أحد المسلمين السنيين»20. يلمح تقرير لمدحت باشا عن أحوال ولاية سورية عام 1879م، إلى نشاط البعثات التبشيرية الأميركية في «جبل النصيرية»، وإلى أنها تستغل الحالة المزرية للسكان وتسعى لأن تسيطر على تلك الأنحاء، حيث قامت ببناء المدارس الكثيرة والكنائس21. تكاد تكون الحال المزرية للعلويين في ظل الدولة العثمانية، مما أجمع عليه جميع من نقل عن أحوال العلويين وأوضاعهم. وبحسب محمد كرد علي، فقد «أصبحت كلمة النصيري أشنع كلمات التحقير»22 وبأن أهل السنة المجاورين لهم كانوا «ينظرون إليهم نظر الازدراء» (0 محمد كرد علي، خطط الشام، الجزء الثالث، مطبعة الترقي بدمشق، 1925، ص107. يسهب كرد علي في وصفه لحال العلويين ودروز سورية آنذاك، يقول: «وكان الشعب في معظم الأرجاء يستخف بعامة الدروز إذا اختلفوا إلى الحواضر، وإذا ذكروا يذكرونهم كم يذكرون النصيرية بالسخرية والمهانة (…) وكان لبعض المشايخ المتعصبين في الحواضر يد في إلقاء هذه الكراهة وهذه النفرة بين هاتين الشيعتين وبين الأكثرية التي انشقوا منها من أهل السنة، ولعل الحكومة كانت تتعمد ذلك ولا يسوءها فتغضي عما كان النصيرية والدروز يسامونه من الذل (…) ولو كانت الدولة بذلت شيئاً من العناية بهذين الشعبين الجبليين في الساحل والداخل كأن تنشر بينهم التعليم الابتدائي، وتعطف على بلادهم فتصلح طرقها (…) ولو دخلت المدنية على دروز جبل حوران ونصيرية جبل اللكام، كما دخلت مثلاً على دروز جبل لبنان (…) لما استحكم هذا النفور الذي كان من أثره ما ظهر في العهد الأخير اليوم رضوا بأن ينزعوا أيديهم من أيدي جيرانهم…»23. لا يبتعد يوسف الحكيم، الذي تدرج في مناصب القضاء من أيام العثمانيين وحتى عهد الاستقلال عن الفرنسيين، عن هذا الرأي، فيقول: «لما كان دين الدولة العثمانية الإسلام على المذهب السني، مذهب أكثرية العثمانيين المسلمة، كان لأهل المذهب الجعفري (المتاولة) المنزلة الثانية في نظر الدولة، ثم يأتي الإسماعيليون، بينما كان الدروز والعلويون غير منظور إليهم كمسلمين. (…) ظل الشعب العلوي مضطهداً في كل العهد العثماني الذي استمر أربعة قرون، فمنعت عنه الوظائف الحكومية، حتى الصغيرة منها التي لا تتطلب شيئاً من العلم والكتابة. وكان دوماً عرضة للامتهان من رجال الحكم والزعماء من أهل المدن. فإذا جاءها علوي، لم يسمح له بدخول مساجدها وجوامعها ولا يأكل السنيون من ذبيحة العلوي»24.

حاول العثمانيون في نهايات القرن التاسع عشر القيام ببعض الإصلاحات التي من شأنها تحسين أحوال العلويين، ولعل أهمها ما قام به متصرف اللاذقية ضيا باشا، الذي كانت فترة ولايته مرحلة نعيم بالنسبة للعلويين، شعر العلويين بأنهم «بشر كسائر مواطنيهم»25، وبقي هذا الأمر إلى أن «وافاه الأجل المحتوم، فبكاه الشعب العلوي من أعماق قلبه»26، حيث ستعود الأحوال  بعد ذلك إلى سابق عهدها. ستؤدي هذه الأحوال إلى بعض الاحتجاجات في بلاد العلويين، ولكنها ستكون مرتبطة بالبعد المعيشي والحياتي المباشر والبعيد عن أي مطالب سياسية تخصهم، فلم «تحدثهم أنفسهم بالاستقلال عن الدولة، إذ لا ملجأ لهم من الأمم الغربية يرجعون إليه ويصدرون عنه»27، وهذا ما جعل من يوسف الحكيم يتكلم عن أن «أهم مزايا الشعب العلوي، الإطاعة لأوامر الحكومة واحترامه لزعمائه ومشايخه (…) وصبره على ما كان يلقاه من قسوة ذوي النفوذ من شركائه في الأرض وجيرانه»28.

مع بدايات القرن العشرين، ستُكتب للدولة العثمانية نهايتُها، وستتراجع الفكرة الإسلامية التي كانت تمثلها، لصالح صعود العروبة كهوية بديلة. وستكون «مسألة الأقليات» إحدى الأمور التي سترثها المنطقة وترافقها في تطوراتها، بعد انهيار العثمانية. ونختم هذا القسم من بحثنا، باستشهاد طويل لصبحي العمري، أحد الضباط الذين خاضوا غمار الثورة ضد العثمانيين وشهد معركة ميسلون ضد الفرنسيين، يعكس فيه هذه المسألة ومآلاتها مع رحيل العثمانيين. يقول: «خرجنا من الحكم التركي ونحن متفرقون مفكّكون إلى مسلم، مسيحي، شيعي، سني، إسماعيلي، نصيري، ودرزي… ومن القوميات الأخرى: تركي، تركماني، شركسي، كردي، ألباني، أرمني… وجميع هذه الديانات والمذاهب والقوميات مختلفة مع بعضها، كل منها تعتبر نفسها غريبة عن الآخرين وتعتقد أنها مغبونة مهضومة الحقوق. لقد كان المسيحيون بصورة عامة لا يزالون تحت تأثير الماضي. لقد كان المسيحي في العهد العثماني مواطناً من الدرجة الثالثة، لا يشعر أنه مواطن له حقوق وعليه واجبات، فلا يعقل أن ينقلبوا بمجرد خروج الأتراك قوميين عرباً وينسوا كل ما مرّ بهم من مظالم وإهانات خلال تلك القرون الطويلة، وهكذا كانت أكثرية المسيحيين، غير مرتاحة للحكم الوطني، فبقوا أصدقاء لفرنسا؛ أما اليهود فهم شعب عدوّ لكل ما هو غير يهودي، يفضلون أن يكونوا تابعين لأي حكم أجنبي؛ والشيعة في حيّهم منكمشون يشعرون بغربتهم عن الأكثرية السنية وقد لجأ عدد غير قليل منهم للحصول على الجنسية الإيرانية لتحميه من ظلم الدولة؛ والنصيرية في جبالهم، منعزلين تحت وطأة الفقر والجهل والإهمال، لا يعرفون عن الحكم سوى أنه ضريبة إلى الجابي في يد الجاندرمه (الدرَك)؛ وهكذا الإسماعيليون المرتبطون مذهبياً واجتماعياً بآغا خان؛ والدروز في مناطقهم الجبلية يشعرون بغربتهم عن جميع من يحيط بهم، وهم دائماً في ريبة وعدم اطمئنان، والحكومة في نظرهم عدو متربص بهم. أما الأقليات العنصرية، كالأتراك والشراكسة والتركمان وغيرهم، فبقي ولاؤهم للأتراك، يعتبرون أن هذه الحركة العربية، التي فصلتهم عن الأتراك المسلمين بالتعاون مع الإنكليز الكفار، حركة خائنة، ويتفق معهم بهذه الفكرة أكثرية رجال الدين المسلمين، والكثير من العامة»29.

العلويون… رحلتهم إلى سورية!

1

الكيان السوري حديث، وجد بعد رحيل العثمانيين، على خلفية التنافس الفرنسي-البريطاني على المنطقة، وتقاسم التركة التي خلفها العثمانيون. وبالتالي فإن الكلام عن هوية سورية، أو انتماء سوري، هو من الأمور التي ستحتاج إلى وقت لا بأس به لكي تظهر معالمه. مثل هذه الهوية وهذا الانتماء في البداية، كانا عبارة عن تصور سياسي في البداية أخذت تنادي به النخب التي جعلت مشروعها بناء الدولة السورية، وخصوصاً بعد أن أخذت تتبين الغايات الغربية الرامية إلى خلافة العثمانيين. لن تحظى الدولة السورية الوليدة (1918) بفرصتها للعمل على تشييد مؤسساتها وبسط هيمنتها وسلطتها على الأراضي السورية، مما كان من شأنه الشروع بتعزيز الانتماء إليها وإشاعته بين السوريين. عام 1920 أنهى الفرنسيون هذه الدولة، وفيما بعد عمدوا إلى تقسيم سورية إلى عدة دويلات، ستعيش أضعاف ما عاشته الدولة السورية، وهو ما يعني أنها ستنغرس في نفوس العديد من النخب والأبناء، على حساب الوحدة مع باقي الأنحاء السورية.

بالنسبة للعلويين، حتى أواخر القرن التاسع عشر كانت مناطقهم جزء من ولاية سورية العثمانية التي يشير إليها تقرير مدحت باشا على أنها «أوسع من غيرها من ولايات الدولة، وإن أهلها من العرب والأتراك والتركمان والدروز والنصيرية والروم والموارنة والكاثوليك والبروتستنت والسريان والأرمن، ويتألف من هؤلاء شعب عدده أربع وعشرون نوعاً من الملل والأديان والمذاهب، ينضم إليهم الجزائريون والشراكسة والتتار وغيرهم من المهاجرين (…) وأن إدارة هذه الأجناس المختلفة على قاعدة واحدة وما تولده من مشاكل غني عن التعريف والإيضاح»30. لن تمضي سوى سنوات قليلة بعد تقرير مدحت باشا، حتى تفصل كل من «ألوية بيروت وعكا ونابلس وطرابلس ولواء اللاذقية موطن النصيرية، في عام 1887م، عن ولاية سورية، لتشكل بيروت الجديدة»31. يعني هذا أن العلويين كانوا بالإضافة إلى عزلتهم التي أتينا على ذكرها سابقاً، بعيدين إدارياً عن باقي المدن السورية، التي بقيت كما يبدو ضمن ولاية سورية، وستبقى الأمور على هذه الحال حتى انتهاء الوجود العثماني. وعند قيام الحكومة العربية في دمشق 1918، كانت الوجود الفرنسي قد بدأ في الساحل السوري، وهو ما أعاق إمكانية التواصل بين العلويين وهذه الحكومة. في انتخابات جرت عام 1919م ، بدا فيها أن آثار التقسيم العثماني للمناطق لا زالت حاضرة، أرادت فيها الحكومة في دمشق اختيار ممثلين عن «المنطقة الغربية»، بيروت وطرابلس واللاذقية (ولاية بيروت سابقاً)، سيتم اختيار هؤلاء الممثلين من المسلمين السنّة والمسيحيين، وسيُستبعد العلويون والإسماعيليون والدروز32. ومن المفارقات أيضاً أن العلويين لن يتهيأ لهم الاجتماع مع باقي الأنحاء السورية حتى في ظل الاحتلال الفرنسي، حيث سيقوم هذا الأخير بإنشاء دولتهم الخاصة بعد دخوله دمشق، لتبقى هذه الدولة حتى عام 1942، قبل خروج الفرنسيين من سورية بثلاثة أعوام. ولعل أول اتحاد للمناطق العلوية كان أيضاً تحت سلطة الاحتلال الفرنسي عام 1922، أثناء إعلان الاتحاد بين كل من دولة دمشق ودولة حلب ودولة العلويين، وهو ما لن يستمر إلا ثلاث سنوات، حيث سيعلن عن حل الاتحاد وقيام الدولة العلوية المستقلة، وفي ذات العام سيتم تشكيل الدولة السورية من خلال توحيد دولتي حلب ودمشق، وسيكون العلويون والدروز خارج هذه الدولة. ينص الدستور الخاص بهذا الاتحاد على وجود مجلس اتحادي يضم خمسة ممثلين عن دولة دمشق، ومثلهم عن دولة حلب، وكذلك عن دولة العلويين. وفي الاجتماع الأول لهذا المجلس في حلب، تم انتخاب الحلبي صبحي بركات رئيساً له، الذي قام بتوزيع المناصب في الاتحاد على الدمشقيين والحلبيين، واستبعاد ليس فقط العلويين، بل «كل من ينتمي إلى الدولة العلوية، من تقلد المناصب والإطلاع ]كذا[ بأدنى المسؤوليات في الإتحاد»33. ورداً على هذا التجاوز، وغيره، سيتم توجيه رسالة من قبل بعض الشخصيات، إلى المفوضية السامية عام 1923م، تشجب ضم دولة العلويين إلى الاتحاد. نص الرسالة: «من الزعماء العلويين المسيحيين والتركمانيين والسنيين والإسماعيليين الذين يمثلون خُمس أسداس سكان الإقليم العلوي ]350 ألف نسمة[، والذين يرفضون ضمّ سورية للإقليم العلوي، مذكّرين سلطات الانتداب بوعود الجنرال غورو»34. لم يلتفت هذا الأخير إلى هذه العرائض، وبالمقابل كان ثمة تيار لا بأس به مُناهض لها وداعم للاتحاد، ولعل أبرزهم السني عبد الواحد هارون، والعلوي إسماعيل هواش، الذي يصفه تقرير فرنسي بـ«المشهور بمعارضته الصلبة لفرنسا إلى جانب كونه من أشد مؤيدي فيصل»35.

ستجد الدولة العلوية من يناصرها من بين العلويين (وغيرهم بالطبع)، فهذه دولتهم الأولى، وهم الخارجون من مرحلة كانت قاسية عليهم من جميع النواحي، مرحلة العثمانيين. سيقوم الفرنسيون، لأجل توطيد أسس بقائهم، باستخدام القوة اتجاه من يعارض وجودهم، كما حصل مع ثورة الشيخ صالح العلي، ولكن أيضاً بإنشاء المؤسسات الخدمية والتعليمية وفتح باب الوظائف أمام أبناء العلويين وتقديم بعض المساعدات لفقرائهم، وهو ما حرك بعض الحساسيات اتجاههم، كدنادشة تلكلخ، السنّة الموالين لدمشق، بسبب «عطف المحتلين على العلويين الذين يؤلفون أكثرية سكان القضاء»36. لقد أرجع يوسف الحكيم مناصرة بعض العلويين لهذه الدولة إلى أنهم وجدوا أنفسهم «في نعيم بعد سابق جحيم»، ويذهب محمد جميل بيهم إلى أن سبب ذلك يعود إلى أن سكان الساحل من العلويين هم «شعب فقير جاهل مقسوم إلى عشائر وطوائف كان يحكمه زعماء إقطاعيون»37. ربما كانت ثورة الشيخ صالح العلي ضد الفرنسيين هي التجربة السورية الأولى للعلويين. البدايات كانت نتيجة خلاف محلي بين علويين وإسماعيليين، لكن الأمر سيتطور مع تدخل الفرنسيين ليأخذ أبعاداً وطنية، تجلت على سبيل المثال برفع العلم العربي في كل المناطق التي كان يحررها الثوار. بالإضافة للمساندة التي ستتلقاها الثورة من قبل حكومة دمشق، وثوار جبل الزاوية بزعامة إبراهيم هنانو38، وكذلك من قبل الحمويين وبعض العشائر. في برقية سيرسلها الجنرال غورو إلى وزارة الخارجية، يقول فيها: «في منطقة ’الأنصارية‘ تحدث منذ قرابة شهرين اضطرابات عنيفة يقودها شيخ ’أنصاري‘، يدعى صالح، استطاع بفضل مساندة حكومة دمشق له ومنحها إياه كل ما يحتاجه من دعم وأسلحة وعتاد ومؤن أن ’يقود التمرد‘»39. ويشير الجنرال بوردو، أحد القادة في منطقة حمص، في برقية له إلى وجود عسكريين عرب للشيخ صالح العلي، يذكر منهم الملازم الخيال فوزي المقدسي من فلسطين والملازم العراقي يوسف عز الدين، والملازم عبد العزيز من دمشق40. وتورد الوثائق الفرنسية رسالة وجهها الأمير عبدالله بن الحسين عام 1921 إلى إسماعيل الهواش، يحمد فيها «الله الذي يقف إلى جانب العلويين الأتقياء»، ويكمل: «أعلمكم أنني قد حضرت لإنقاذ الوطن والحفاظ على الأمة. وقد أحسست بالسعادة والرضا إذ علمت أنكم ثابتون في قتالكم للعدو، وفي القريب العاجل ستصلكم طلائع قواتنا ومعهم ذخيرة كاملة…»41. وبهذا تكون ثورة الشيخ صالح العلي، غالباً، هي الاحتكاك الأول للعلويين بالسوريين والعرب، ومن موقع المشاركة والندية.

2

طوال قيام الدولة العلوية، ستشهد الأوساط العلوية، على صعيد النخب خصوصاً، سجالاً بين تيارين رئيسيين، أولهما ذلك الداعي إلى استقلال العلويين في دولتهم وعدم الوحدة مع السوريين، والثاني هو تيار الوحدويين. وربما أشهر وثيقة في ما يخص الاستقلاليين، هي تلك التي تم تداولها مؤخراً وأثارت العديد من المواقف. وثيقة أخرى هي عبارة عن برقية وقع عليها بعض الزعماء والقادة في المجلس النيابي في الدولة العلوية، منهم إبراهيم الكنج رئيس المجلس ووديع سعادة نائبه، وكذلك الشاعر المشهور محمد سليمان الأحمد (بدوي الجبل)، وذلك رداً على ما شاع حول المفاوضات بين الوفد السوري والفرنسيين في باريس 1936، من موافقة فرنسا على إلحاق دولة العلويين بالجمهورية السورية. يرفض الموقعون على هذه البرقية، معللين رفضهم بأنه «ليس هناك ما يجمعنا. فطرق التربية في المنزل والمدرسة والعادات القومية والأهداف الاجتماعية مختلفة بيننا وبين السنّة كل الاختلاف. ورغم أنه تجمعنا معاً حضارة القرن العشرين وأن الإدارة في سورية إدارة فرنسية إلا أن تناقضنا الديني والعقائدي متغلغل في كل مجالات الحياة الاجتماعية. (…) لن يضيف ضمنا إلى سورية ثقلاً لوزنها أو نفوذها خاصة إذا تم هذا الضم رغم أنوفنا. كل ما في الأمر أنها تطمع إلى تنمية مواردها التجارية والصناعية والاقتصادية والسياسية على حسابنا»42. لن يتأخر رد الوحدويين، إذ سيرسلون بدورهم برقية تشير إلى نفاذ الصبر من «سياسة التفرقة المشؤومة التي مازال يسير عليها ممثلو فرنسا في حكومة اللاذقية حتى يومنا هذا»، الذين استثاروا أنصارهم للتوقيع على عرائض تهدف إلى «إبقاء حكومة اللاذقية على نظامها الحالي» بعد أن ادّعوا «أن العلويين ليسوا مسلمين ولا عرب، بل إنهم من سلالة الصليبيين، وأنه يفصل بينهم وبين سكان سورية حرب عقائدية ومصالح مختلفة». ثم تشير البرقية إلى سهولة إبطال هذه المزاعم، وإلى أن رأي الانفصاليين لا يمثل العلويين، متسائلة: «كيف يمكنهم تفسير تواجد أكبر الزعماء ورجال الدين العلويين بين صفوفنا والذين يمثلون باعتراف الجميع الأكثرية الساحقة؟»، ثم تقلل البرقية من شأن الرأي الداعي إلى ضم الإقليم إلى لبنان، «وهو المرتبط منذ الأزل بسورية ويشكل جزءاً لا يتجزأ منها ولم ينفصل عنها برغبة سكانه بل بالإرادة السياسية لحكامه الفرنسيين…». أما عن حجة كون العلويين ليسوا مسلمين، فترد البرقية مؤكدة أنه، «من جهة لا يمكن اعتبار الديانات كقاعدة لتكوين الشعوب، ومن جهة ثانية فالعلويون مسلمون كما أن الإغريق أرثوذكس والبروتستانت مسيحيون. (…) لماذا لا يفكر المسيحيون المجتمعون في بعض المناطق السورية في طلب الانضمام إلى لبنان حيث يشكل أبناء دينهم أكثرية؟ وأين في العالم كله البلد الذي يتبع سكانه دون استثناء مذهباً واحداً؟»43. ويذكر فيليب خوري في كتابه «سورية والانتداب الفرنسي» شيئاً عن تشكيل «عصبة الشباب العلوي المسلم»، تدعو «لمكافحة الانفصالية ولممارسة الضغط في سبيل الوحدة السورية»44.

الوحدة هي ما سيتحقق أخيراً، وسيغدو العلويون سوريين للمرة الأولى في تاريخهم، مثلهم في هذا مثل جميع السوريين. إلا أن «تضحيتهم» في سبيل هذا ستكون أكبر. لقد خسروا أول دولة لهم في تاريخهم، لمت شملهم بعد أن كانوا متفرقين، وفتحت لهم بوابة للأمل بأنهم سيكونون أسياد مصائرهم، وأن أيام الماضي الأليم قد ولت إلى غير رجعة. مقابل هذه «التضحية»، لم تكن مفاعيل الاستقلال ذات مردود يشعر معه العلويين بحسنات الوضعية الجديدة، إذ بدأت سيرة الملاكين السنّة بالعودة، لتعود معها المخاوف القديمة. يذكر فيليب خوري أن العلويين «حين واجههم خطر الوقوع تحت سيطرة طبقة مدينية من الملاكين السنة الغائبين (…) استجابوا كـ’طائفة- طبقة‘»45. كما أن أول إعدام سياسي في دولة الاستقلال كان بحق أحد الشخصيات البارزة في مناطقهم، ونائب في البرلمان، وهو سليمان المرشد، الذي، على الرغم من أنه يشكل حالة انشقاق داخلي اجتماعي وديني بالنسبة لباقي العلويين، إلا أنه كان على اتصال مع مختلف الأطراف منهم بحكم كونه نائباً. ويذكر فيليب خوري أن المرشد أصبح «مزعجاً إلى حد بعيد للحكومة الوطنية الجديدة في دمشق، من خلال مجموعة الضغط العلوية التي كان يرأسها في البرلمان. (…) الحكومة السورية المستقلة أعدمته بعد أقل من سنة من انسحاب الفرنسيين عام 1946، بتهمة اقترافه جرائم في حق الأمة»46. يروى أن سليمان المرشد تم أسره بالخديعة، وبعد أن أبدى حسن نواياه اتجاه الحكومة السورية، وأن هذه الأخيرة استغلت «الرعب والذهول اللذين أعقبا شنق المرشد» فسارعت إلى إعادة بسط السيطرة على جبال العلويين، وخصوصاً المناطق التي توالي سليمان المرشد، فحصلت تجاوزات من قبل قوى الأمن وصلت في بعض الأحيان إلى حد الاعتداء على الأعراض. ويبدو أن إحدى أساطير العلويين، «أبو علي شاهين»، تعود إلى هذه المرحلة. فهي في أصلها قصة حقيقية، حيث قام رئيس مخفر الدرك باغتصاب زوجة شاهين، فما كان من هذا الأخير حين علم إلا أن أخذ بندقيته وهجم على المخفر وقتل من فيه، ليصعد الجبل بعد ذلك، حيث بقي ثلاثة أشهر وهو يقاوم حملات الدرك موقعاً في صفوفها خسائر كبيرة. سيتحول شاهين إلى بطل شعبي أسطوري، وتؤلف بحقه الأشعار والأغاني، وخصوصاً وأنه لم يؤسر إلا بفعل خيانة، وبقي متماسكاً وقوياً حتى لحظة إعدامه47.

بالطبع، لا يُفهم من وراء هذا السرد أن أحوال العلويين في الحقبة الوطنية مماثلة لأحوالهم أيام العثمانيين. إننا لا نتبنى مثل هذا. فقد غدا العلويون سوريين، حاملين معهم مخاوفهم. جميع السوريين مستجدون في سوريّتهم، ولهذا كان القلق عنواناً ثابتاً لهذه الهوية، وهكذا كان الأمر بالنسبة للعلويين.

رحلتهم من سورية

1

الرحلة هنا هي على الصعيد النفسي، وهي تحتمل أكثر من مستوى للحديث عنها، منها ما يخص العلويين ذاتهم، ومنها ما يخص آخرين لم يعد باستطاعتهم تقبل العلويين، فتم ترحيلهم نفسياً من سوريا، مع أن البعض لا يتوانى عن إعلان نيته بترحيلهم فعلياً إما إلى الرفيق الأعلى، أو إلى أماكن أخرى.

سوريا = السنّة. هذه هي معادلة علويين أيام الانتداب الفرنسي، ومعادلة علويين حالياً إذا زال النظام، كما أنها معادلة سنيين قبل وجود هذا النظام، وسنيين جهاديين الآن. لكن سورية في نظر هؤلاء العلويين ليست علوية بوجود هذا النظام، وإنما هي سورية يستطيعون العيش فيها والتعايش مع الآخرين، ويكونون سوريين. «الحساسية المتشكلة حيال السنّة»48 تجد لها بعض الجذور في الماضي القريب، ولا ضير بالعودة إلى الوراء قليلاً للاستعانة ببعض الشواهد.

لقد سبق للشيخ سليمان الأحمد، أثناء ردّه على سؤال لمحمد كرد علي، أن ذكر أن المظالم التي وقعت على العلويين، والبؤس الذي عاشوا به أيام العثمانيين، انعكس على شكل نفور من السنّة وليس من الدولة العثمانية49. نجد هذا الشعور يتردد في البرقيات التي صدرت عن دعاة استقلال العلويين أيام الاحتلال الفرنسي. في جانب منه، يعكس موقف الرافضين للوحدة دفاعاً عن مصالحهم التي ترتبت في دولتهم الوليدة، إلا أن بعض الحجج التي يسوقونها لتبرير موقفهم تعكس أيضاً جانباً من الوعي الذي يسكن قطاعات لا بأس بها من النخب العلوية وعوامهم اتجاه السنّة. في برقية بعثوا بها إلى وزير الخارجية الفرنسي إيفون دلبوس، يذهب الاستقلاليون إلى أنهم يقبلون، في حال «كان الإبقاء على استقلالنا أصبح مستحيلاً من الناحية الدولية، أن نتفاوض بشأن ضم أراضينا إلى لبنان، فهو يماثلنا في التكوين ويمكننا بسهولة التفاهم مع الأقليات التي يتكون منها. نحن مستعدون لأي شيء إلا الخضوع لسيطرة وهيمنة وتعصب السوريين السنيين…»50. ويشرحون في رسالة ثانية تفضيلهم للبنان، فهذا الأخير «مثلنا، مشكل من أقليات، ومن هنا فسيحترم معتقداتنا وتقاليدنا وكرامتنا وأمننا، أما سورية فتمثل القهر المعنوي والاجتماعي، إلى جانب التعصب الديني الذي يبيح لها القضاء على العلويين وإبادتهم كما يثبت لنا التاريخ»51. جدير بالذكر أن من الموقّعين على هذه البرقية سليمان المرشد والشاعر بدوي الجبل. هذا الأخير الذي سيغدو أحد رجالات الحقبة الوطنية، له بعض الآراء بهذا الخصوص. عند وفاة الملك فيصل، غاب بدوي الجبل عن حضور جنازته وعن المراسم التي أقيمت على روحه. وعندما طلب منه الحضور أجاب: «والله لقد أحببت فيصل كإنسان، غير أن الأحداث الجارية في العراق والوضع الذي أرى عليه الآشوريين والكلدانيين يذكرني بالوضع الذي يمكن أن يكون عليه العلويون إذا تمت السيطرة العربية على البلاد وتقلصت السلطة الفرنسية، التي أفضلها حالياً على أي سلطة أخرى»52. وعلى ذكر الآشوريين في العراق، يجدر بنا أن نذكر موقف عصبة العمل القومي التي تأسست عام 1933 من هذه القضية. تتألف العصبة «من فريق من الشباب من مختلف الطوائف (…) يشكل العلويون الأكثرية الساحقة بين الطوائف العربية (…) وأكثر أفراد عصبة العمل القومي منهم»53. لقد أرسلت العصبة بعد عقد مؤتمرها التأسيسي برقية تأييد لملك العراق فيصل بعد قمع ثورة الآشوريين في العراق، وأعلنوا من خلالها تأييدهم «للجيش الباسل»، كما كان «رجال العصبة يطلقون على العراق، وفيصل على عرشها، ’بروسيا العرب‘، داعين إلى وحدة سورية معها»54. وحول موقفهم من قضية الأقليات، نجد الجذر الذي ستسير عليه التقدمية العروبية لاحقاً، حيث جاء في بيان مؤتمرهم: «وحيث أن ذريعة الأقليات كانت وما تزال سلاحاً ماضياً بيد المستعمرين، يبرّرون بها تدخلهم في شؤون الأمم المستقلة فيتوصلون بذلك إلى استعمارها، وحيث أنه لا فرق في الحقوق والوجائب بين مواطن ومواطن، أياً كان مذهبه أو منبته أو لغته، فإننا ننكر ولا نعترف بوجود الأقليات، المذهبية أو العنصرية أو اللغوية، وليس لسكان البلاد العربية غير جنسية واحدة هي الجنسية العربية ولغة رسمية واحدة هي اللغة العربية. وكل إخلال بهذه الوحدة جريمة وطنية تجب مقاومتها»55. يظهر ما سبق وجود تيار عروبي كان قد بدأ بالتبلور بين العلويين آنذاك، متمايز عن التيارين الآخرين المتنازعين، الوحدويين والاستقلاليين، لا يعترف بدوره بسورية، بل يراها محطة فرضها الاستعمار، لا بد من تجاوزها نحو التوحد العربي.

يذكر الحوراني في مذاكراته تقريراً ورد من محافظة اللاذقية ونشرته جريدة البعث (العدد 248، 28/10/1949)، تحت عنوان «الإقطاعية في حماه يجب أن تهزم»؛ يرد في التقرير أن عدداً من المرشحين إلى انتخابات المجلس التأسيسي هم من أصحاب الأملاك الواسعة في ريف «محافظة العلويين»، وأن هذا الأمر أثار مخاوف الفلاحين العلويين الفقراء «حيث السعيد السعيد من يملك حصيرة في بيته أو ينتعل خفاً»، وأن «الجهالة والسذاجة اللتين رانتا على أذهان الفلاحين ألقتا في روعهم أن ما يحل بهم من العذاب والخسف من قبل الملاكين نتيجة لاختلافهم عنهم مذهباً (…) هذا الظن الخاطئ حمل العلويين على الظن بأن كل من في البلاد عدو لهم، وأيأسهم من كل عدل وإنصاف واضطرهم إلى عزلة روحية أليمة وتشاؤم كان من الصعب جداً استئصاله، وربما كان له أثر في سكوتهم على مظالم الانتداب لأنها على شرها كانت أخف عليهم وقعاً من مظالم السادة الملاكين»56. ينجح التقرير كما أعتقد، بتلخيص الخصائص السيكولوجية والأحوال المعاشية للكثير من العلويين آنذاك، والتي بقيت ترافقهم حتى بعد انتقالهم إلى الحضن السوري. ستسير الدولة السورية في مرحلتها الوطنية الأولى في بناء مؤسساتها وتَلافي بعض النواقص والإشكاليات التي خلفها الفرنسيون، ولا سيما أن الكيان السوري وليد. أثناء ذلك، سيبدأ العلويون بالتعرف على سوريتهم الجديدة عبر الانخراط في هذه المؤسسات، وخصوصاً مؤسسة الجيش الذي كان المؤسسة الأقوى والأهيب اجتماعياً وسياسياً. لن يتأخر الكيان السوري الغضّ حتى يتعرض لأول هزة تنال من شرعيته ووجوده، وذلك عند قيام الوحدة مع مصر، حيث سيغدو إقليماً شمالياً في الجمهورية المتحدة. لن يتأخر الانفصال الذي قاده ضابط دمشقي، ثم ستأتي مرحلة التقدمية الجماهيرية في الاستيلاء على السلطة في سورية، في عام 1963، حيث أطيح بحكم الانفصال لينتهي الأمر إلى قيادة عسكرية بعثية. سيبرز في هذه الحقبة ضباط علويون، وسيشاركون في ترتيب السلطة، وصولاً إلى السيطرة عليها. ولعل السيطرة الأبرز ستكون أثناء انقلاب حافظ الأسد 1970. حتى ذلك الوقت كان مجتمع العلويين بعيداً عن أن يكون مجتمع سلطة تحت أي اعتبار، بل لقد توفر فيه مختلف الصنوف التي تبدأ من تأييد هذه الانقلاب إلى أشد المعارضين له، وهم بهذا لا يختلفون عن باقي السوريين، وقد دفع علويون معارضون لهذا الانقلاب، أو محسوبون على التراتبية السلطوية السابقة، أثماناً كبيرة.  بقي أن نقول أن ثنائية سني-علوي ستبرز أول ما تبرز في سياق الصراع والتنافس اللذان ميّزا النخب العسكرية والسياسية البعثية على ترتيب السلطة، وبقيت على صعيد النخب.

الانعطافة الكبرى التي ستصيب العلويين، بل والمجتمع السوري كله، ستكون في ثمانينيات القرن المنصرم. وهي ستأخذ شكل حركتين: الأولى إلى الماضي، حيث ستنبعث المخاوف القديمة، وتنتعش الذاكرة بقصص الماضي الرهيب؛ الثانية إلى المستقبل، قطاعات واسعة من العلويين رأت أن استمرارها مرهون باستمرار هذا النظام. ساعد على هذا الأمر عدة أمور. كان ثمة اغتيالات قد بدأت منذ عام 1976، طالت شخصيات محسوبة على النظام، وكان نصيب العلويين من هذه الاغتيالات هو الأكبر، وسيتم تبنيها في عام 1979 من قبل مجموعة أطلقت على نفسها اسم «المجاهدين» من خلال نشرة سرية تصدر عنها، واسمها «النذير»57. في ذات العام ستقع مجزرة المدفعية التي نفذها أحد الضباط البعثيين، والمنتمي في ذات الوقت للطليعة المقاتلة، بحق العشرات من طلاب الضباط، وكان معظمهم من العلويين. كانت هذه الحادثة بداية التصعيد بين الطرفين، الإسلاميين والنظام، وستعلن نشرة النذير أن الجهاد قد بدأ ضد «العدو النُصَيري» و«الكفرة المارقين عن ملة الإسلام»، محددين طبيعة صراعهم أنه «بين الأغلبية المسلمة المكبوتة والأقلية النصيرية الكافرة»58. الشعور بالاستهداف هو الذي سيكون شعور العلويين بعد مجزرة المدفعية، وهو شعور سيتضخّم مع الدعاية السلطوية لطبيعة الخصوم الذين كانوا بدورهم يوفرون بعض مادتها من خلال تصريحهم باستهداف النظام لأنه «نظام علوي»، وتكفيره والعلويين، وأيضاً مع توافد الضحايا من أبنائهم نتيجة احتدام الصراع والاغتيالات. سيعمل النظام على استغلال الأزمة لتسوية الأرض أمامه، وإلى الأبد، ليس فقط من خلال سحق التمرد الإسلامي عليه، بل ومعه جميع التعبيرات السياسية المعارضة له، اليسارية والقومية، ومعروف أن نسبة كبيرة من هذه المعارضة كانت تضم نسبة لا بأس بها من الشبان والشابات والمثقفين من العلويين، سيتوزع المئات منهم بين المعتقلات والمنافي.

2

سورية ما بعد الثمانينيات مختلفة تماماً. لقد غدت سورية الأسد. ومن الجدير ذكره، أن العلويين الذين استفاقت مخاوفهم في أحداث الثمانينيات، لم تستفق معها مطالب الانفصال أو أي وضعية خاصة لهم، وهي مطالب ارتبطت سابقاً بهذه المخاوف كما رأينا، على الرغم أنه آنذاك، كانت لا تزال هناك نخب اجتماعية وأهلية معتبرة، وهي ما سيجري العمل على إنهائه فيما بعد. ربما ساعد على هذا الأمر –عدم انتعاش الانفصالية– أمور عدة، منها قوة النظام، وأيضاً فشل الأخوان المسلمين في حشد السنّة السوريين وراءهم وتحويلهم إلى طائفة تتبنى مشروع الجماعة.

ما فشل به الأخوان، نجح به النظام إلى حد كبير على صعيد العلويين. رحلة العلويين من سورية ستكون من خلال سوريتهم المشروطة ببقاء نظام منفصل عن سورية، حيث سعى إلى أن يكون الاستحواذ المطلق عليها، شكل علاقته الأبرز معها. الأمر متشابك إلى حدّ ما، ففي الوقت الذي نتكلم فيه عن رحيل نفسي للعلويين عن سورية عبر هذا الشرط، إلا أنهم سيغدون أكثر سوريةً، وأكثر تماهياً مع «الهوية السورية» بعد مرحلة الثمانينيات. لقد حقق النظام لهم الطمأنينة، ومعه غدَوا أكثر إقداماً واندفاعاً وتعاملاً مع الأفراد والجماعات من خارج بيئتهم، ومن موقعهم كعلويين. إزاء التماهي مع «الوطنية» التي سيشيعها النظام، لن يشعر علويون بأي تبعثر هوياتي أو تشتت بسبب الانتماء المزدوج المعلن والمعاشة أبعاده من قبل الكثير منهم، فلقد وجدت «العلوية» مستقرها وحدودها أخيراً في سورية، فالعلوي هو علوي أولاً، وهو سوري أولاً أيضاً، ثمة استقرار هوياتي وتماهٍ مع الجغرافية السورية جميعها. وفي السياق العلوي السوري، في مرحلة الطمأنينة التي ذكرناها، تتغنى الذاكرة الأهلية بالرموز التي هي كانت بوابة العبور إلى هذه السورية، كالشيخ صالح العلي، الذي يحضر إلى جانب حافظ الأسد في هذا الشأن، بينما تغيب تماماً الدولة العلوية أيام الفرنسيين، ولا تحضر لا بشخوصها ولا بتاريخها ولا يعرف عنها أغلبهم. العلوي التركي ليس حاضراً في حساباتهم، ولا يشعرون اتجاهه بأي انشداد، فإذا ما تم ذكر أن ما وراء الحدود يوجد ملايين العلويين، قد يقابل هذا الأمر بابتسامة ارتياح، لكن الأمر ينتهي هنا، فهؤلاء أتراك ونحن سوريون. مع أنهم يلعنون الأتراك الذين سلبوا لواء اسكندرون، الذي يسكنه علويون لا بأس بعددهم. هم يذكرون فلسطين وإسرائيل، ولا يخطر ببالهم إلا ما ندر اللواء والأتراك. بل إن هؤلاء الأخيرين غدوا أحباباً أيام السمن والعسل مع النظام. يحضر النظام وفق هذا وكأنه الأسطورة المؤسسة للعلويين، لقد أخرجهم من سياق الجماعة المحدودة والقلقة، ومنحهم شعوراً بالامتلاء والطمأنينة.

إزاء هذه الحالة، ومع مرور الأيام، سينعكس هذا حتى على حالة التجانس بين العلويين أنفسهم، لقد بدأت هذه الحالة بالتراجع، أمام الانخراط الذي أقدم عليه العلويين بالمجتمع، وربما تكون حالات الزواج من خارج الطائفة مؤشراً مهماً على هذا الأمر، وقد يكون العلويون هم الأكثر إقداماً على هذا الأمر من غيرهم. وليس هناك أية مطالب تخصهم كعلويين، لقد كانوا يدرسون في المدارس مادة التربية الإسلامية (السنية)، ويتزوجون وفق في المحاكم وفق القوانين الشرعية المعتمدة عند الدولة. لم يكن الانتقال إلى هذه الوضعية السيكولوجية والاجتماعية الجديدة للعلويين، انتقالاً ذاتياً، رغم أنهم يملكون الاستعداد له. فمن ناحية أخرى، تعرض العلويون لنوع من الإبادة الثقافية، لقد تم النيل من مجمل ثقافتهم وتراثهم الأهلي بقصد تحشيدهم في الوضعية السلطوية الجديدة، هذا الفعل السلطوي لم يكن خاصاً بالعلويين وحدهم، لقد فعل النظام فعله هذا مع جميع السوريين. ولكنه على صعيد العلويين كان له وقعه الخاص، إذ أخذ يتكرس في وعي سوريين كثر بأن ثمة علاقة وطيدة بين النظام والعلويين، وباستعارة من كارل ماركس حول هيمنة ثقافة الطبقة المسيطرة، بدا وكأن «ثقافة» العلويين هي تلك الثقافة المهيمنة. انتشرت أغانيهم الشعبية، وصعد مغنّوها ليصبحوا نجوماً، بالإضافة إلى ذلك غدت لهجة ما تخصهم تشير إلى القوة والسلطة، يوازي هذه الأمور تواجد الكثير منهم في مراكز القوة كالأمن والجيش. وبكلمة، لقد تم الذهاب إلى أن المرجعية الثقافية السلطوية في تطابق تقريباً مع تلك الخاصة بالعلويين.

وبالرغم من المظاهر التي يمكن أن توحي بذلك، إلا أن البحث هنا لا يعتقد بدقة مثل هذا التوصيف، وأكثر من هذا، نجازف ونقول: أن «ثقافة» العلويين لم تكن مهيمنة حتى على أصحابها، بل إنهم كانوا مجالاً للثقافة السلطوية أكثر من غيرهم. ونشير فوق ذلك، إلى أن هذا الكلام عن الهيمنة لا يعني أن الجهة المقابلة (المجتمع السوري) كانت مشلولة وملحقة بإطلاق، بل إن هذه الهيمنة السلطوية عزّزت أكثر من بناء آليات دفاعية محلية، ثقافية واجتماعية، عند مختلف المكونات، غايتها الحفاظ على «خصوصيتها» ومقاومة أي استلاب. لقد كان حضور السلطة المادي أكثر قوة واختراقاً لحياة الناس من حضور الثقافة التي ارتبطت بها. لم يحظ المجتمع السوري بفسحة حرة أو هامش من التواصل السياسي أو الثقافي يتيح لمكوناته شكلاً من أشكال التثاقف الذي يؤسس لاختراقات وتوافقات إيجابية عند جميع الأطراف تساهم في إيجاد هوية عامة يلتقي عندها السوريين، مما يساهم بإدخال بعض التعديلات على الجوانب الجامدة في الثقافة الأصلية، الدينية والاجتماعية، لكل طرف. وربما من المفارقات هو ذلك التفاعل الذي أظهرته الثقافات الاجتماعية المحلية مع المنظومات السياسية والثقافية التي أتت من الغرب عن طريق الاستعمار أو التبشير وغيرهما، سواء رفضاً أو قبولاً، ولكن كان لها أثر كبير في تغييرات ستصيب المحلي الأصلي لصالح التعايش والتأقلم مع الزمن الحديث. مثل هذا التفاعل مفقود بين المكونات الأصلية. حتى في مدينة أكثر اختلاطاً كمدينة دمشق تتميز بتجمعات سكانية موزعة بحسب الانتماء الجغرافي أو الديني أو الطائفي، لم تستطع عموماً أن توجد مجالاً عاماً يمكن أن يلتقي عنده الجميع. من هاجر إلى دمشق حمل معه ثقافته الأصلية وبقي عليها. هذا يوحي أنه ضمن دمشق ثمة جزر مستقلة تقريباً تتجاور مع غيرها ولكنها تعيش استقلاليتها الثقافية شبه المطلقة. لقد كان الزمان السلطوي زماناً مطلقاً، تسبح البلاد والعباد في فضائه، وفق إيقاع مضبوط مسبقاً.

وفي سياق الكلام عن الهيمنة، ووضعية العلويين المفترضة فيها، نرغب في ذكر بعض ما يخلخل هذه الصورة إلى حد ما، على الصعيد الاجتماعي والثقافي. لا يشعر علويين بالتململ، وبالحاجة إلى إخفاء جزء من هويتهم الاجتماعية والثقافية إلا إزاء السنّي، فهذا الأخير منمّط في صورة تجعل منه كائناً متديناً ومستودعاً لأحكام أخلاقية تملك القدرة على ترحيل بعض السلوكيات خارج دائرة الأخلاق. ربما يجد هذا التنميط مصدره في ذلك التقرير الحاضر في لاوعي المذاهب الإسلامية غير السنيّة، كما هو حاضر في وعي ولاوعي الكثير من السنييّن، من أن السنيّة هي الحامل الأساسي للإسلام، والمعبّر عنه. وفق هذا، غالباً ما يكون علويون في موقع الدفاع أو المداورة أو التبرير أو الإنكار اتجاه بعض السلوكيات المستنكرة، أو التي يُعتقد أنها كذلك، من قبل هذا «السنّي»، مع أنها في الواقع ممارسات أصيلة في الحياة الاجتماعية عند العلويين. بل قد يستعير البعض سلوكيات ليست منهم في شيء، لكي يصبح مقبولاً، وخصوصاً إذا كان في بيئة غير علوية وأغلبيتها سنيّة. مثل ذلك ما يمكن أن نلاحظه من قيام فتيات علويات تم تعيينهن كمدرسات في ريف المنطقة الشرقية أو ريف حلب وإدلب، حيث أن بعضهن يبادرن إلى ارتداء الحجاب، ومن لا تفعل منهن تحافظ على مسافة مع أهل تلك المنطقة لقناعتها بأنها من طينة مخالفة وأن عليها، لكي تكون مقبولة، أن تغيّر ما تعتبره أساسياً في حياتها. لا يوجد مثل هذا الإحساس مع أبناء الأقليات الأخرى، فثمة مشتركات اجتماعية وثقافية معهم، وخصوصاً تلك التي يفترض أنها مُدانة سنيّاً. وأمام هذه الحال، يلجأ علويون، وآخرين من الأقليات، إلى تطوير آليات دفاعية أخلاقية تجعل من «الأخلاقية السنيّة» تعلقاً بالقشور، والكلام على أن الإنسان يقاس بجوهره لا بمظهره وغير ذلك، أو ربط مثل هذه الأخلاقيات بعادات التخلف، بحيث يغدو ابن الأقليات مفطوراً على التقدمية، التي لا يستطيع أن يصل إليها السنّي إلا ببذل الجهد، عن طريق الثقافة. ويحصل أن يكون ما يبدو أنه نزوع عند البعض من أبناء الأقليات إلى التمترس وراء قيم الحداثة والعلمانية، ما هو إلا غطاء لطائفية مقيمة، سرعان ما تظهر عندي أي امتحان.

ولكن، على الرغم من هذا الشعور بالتمايز إلى هذه الدرجة أو تلك، إلا أنه لا وجود لأسطورة النقاء والانسجام والاكتفاء العلويين. وفي أقل الأحوال هي أسطورة غير أصيلة فيهم، تستعاد أو ترتفع أسهمها في حالات الحرب والخطر وعند متطرفين منهم، ليصبح منطوقها بأننا لا يمكن لنا أن نعيش مع من يريد إبادتنا أو النيل منا، نستطيع أن نستمر بدونهم، ولطالما كنا كذلك في أزمنة سابقة. يحضر استمرار النظام وكأنه تغليب للنسيان، نسيان ماض حافل بالألم، وحين يتم تهديده تنتعش الذاكرة. بمعنى، حتى نبقى سوريين يجب أن ننسى، تذكرنا يعني أن نسعى للعيش منعزلين. نحن سوريون مع النسيان، وإلا فإننا سرعان ما نحيي موتانا وقصصهم. إلا أن المفارقة على هذا الصعيد، أن مثل هذا القلق لم يظهر عند الهزة التي حصلت سابقاً للنظام على إثر احتلال العراق واغتيال الحريري، بل إنهم كانوا مع سوريين كثر متوحدين في مواقفهم إزاء ما يحصل في المنطقة من تغيرات. عندما ثار سوريون، أصبح الأمر مختلفاً. بل إن العلويين قبل الثورة كانت تجمعهم وحدة حال مع معظم السوريين، فيما يبدونه من امتعاض واستياء ونقد اتجاه السياسات الاقتصادية للدولة. إن العلويين الذين أعطاهم النظام شعوراً  بالاستقرار والأمان، لم يكن لهم امتيازات اقتصادية، فما يزال الفقر سمة حاضرة في معظم قراهم. باب التوظيف مفتوح لهم ولغيرهم، وربما يتاح لبعض العلويين تحصيل وظيفة عبر علاقات قرابية مع متنفذين بالسلطة، ولكن هذا الأمر مرتبط بالفساد وهو مفتوح لغيرهم أيضاً، وربما التسهيل الوحيد لهم كان على صعيد الجيش والأجهزة الأمنية، وهذا الأمر هو أحد السنن المتبعة والمرغوبة من قبل النظام. إلا أن نقد النظام نتيجة هذه الأوضاع المعيشية، لا يعني بالضرورة الرغبة بتبديله، فقد أعطاهم ما هو أهم، الأمان والاستقرار والتماهي بالهوية السورية، بل إن زواله لن يعني إلا أوضاعاً معيشية أكثر سوءاً، بالإضافة لما ينطوي عليه ذلك من تهديد وجودهم ذاته. عدا عن النفسية المستجدة التي تكلمنا عنها، ثمة جانب حياتي خبره العلويون وغدا جزءاً من تفكيرهم في تخطيط حياتهم. العلويين قوم لا تجارة عندهم ولا زراعة، الطريق الوحيد المفتوح أمامهم هو الدولة لتدبير أمور حياتهم. من ابتعد عنها منهم لم يكن نصيبه إلا التهميش والبطالة ومغادرة البلاد بحثاً عن العيش في ظروف بائسة كما يحصل عند الذهاب للعمل في لبنان مثلاً. وهو ما جعل الولاء للدولة = النظام عندهم مضاعفاً، فهذا الأخير يشترط الولاء، وهم بادلوه الولاء لأنه يشكل في أحد جوانبه مصدر العيش لهم. كثير من العلويين يتركون قراهم ومدنهم ويذهبون لآخر سورية مقابل هذا الراتب الذي لا يملكون غيره. أو يسكنون في عشوائيات تساهَل النظام في خصوصها كرشوة، حيث يشعر العلوي الذي يستطيع أن يؤمن مكاناً في إحدى هذه العشوائيات، أن بيته في رأس القلعة.

3

بهذه الأبجديات السيكولوجية والحياتية استقبل علويون الثورة السورية. وبالتالي سيكون أمر اصطفاف قطاعات منهم مع النظام، سيكون أمراً شبه محسوم. إلا أن الأمر لن يتوقف هنا، فثمة وقائع ستحدث خلال الشهر الأول من الثورة، ستكون بمثابة الحافز على المضي في هذا الخيار، بالإضافة إلى ما ستشيعه بين أوساطهم من أنهم المستهدفون بالدرجة الأولى. إذاً لقد استيقظت المخاوف القديمة من جديد. وساهم أن وقوع هذه الحوادث في مناطق، العلويين والسنيين هم غالبية سكانها. الحادثة الأولى ستكون مقتل الموظف في نادي الضباط بحمص، عادل الفندي وهو علوي، وسيحدث ذلك بعد اقل من 10 أيام من عمر الثورة 26/3/2011. الحادثة الثانية ستكون الحادثة المريعة التي حصلت للعميد عبدو التلاوي وولديه وابن أخيه، حيث تم قتلهم جميعاً وتشويه جثثهم، حصل ذلك في 17/4/ 201159، سيترتب على هذه الحادثة الأخيرة ردات فعل من قبل علويين في حمص، ستودي بحياة ستة من أهالي حمص السنّة. ثمة روايات يرويها معارضون عن أن محسوبين على النظام هم وراء مقتل التلاوي والأطفال الذين معه، قد يكون هذا صحيحاً، فالعزف على الأوتار الطائفية كان موجوداً في وسائل إعلام النظام وكذلك ناطقين باسمه، لكن هذه الواقعة ستلعب دوراً تجييشياً في أوساط العلويين في حمص، وستكون من الوقائع المؤسسة للاصطفاف الطائفي الحالي هناك. بعد حادثة التلاوي بأيام قليلة، ستقع حادثة أخرى في بانياس، وهي مقتل نضال جنّود، وهو علوي من قرى بانياس، على أيدي شبان من أهل المدينة مناهضين للنظام. ستستغل آلة النظام الإعلامية مقتل كلاً من التلاوي وجنّود إلى الحدود القصوى، وسيكون لهذا أيضاً أثره الكبير بين العلويين60. هذه الأحداث، بالإضافة إلى الميل الموجود سابقاً نحو النظام، جددت الانتماء إلى الجماعة، وبشكل لم يحدث مثله في الثمانينات المنصرمة. لم يتحجر العلويون اتجاه المعارضين من أبنائهم الذين اعتُقلوا (وهم بالمئات) على أيام حافظ الأسد. بل وعندما خرج هؤلاء من السجون لم يجدوا مجتمعاً نابذاً لهم، وإن كان بغالبيته ليس مؤيداً لموقفهم المعارض. هذا إذا لم نتكلم عن حالات تعاطف إزاءهم. ليس الأمر على هذا النحو الآن، فسرعان ما يرمى بالخيانة، أو بأوصاف أخرى، علويون اصطفوا مع الثورة والتزموا بخياراتها التي خرجت تنادي بها. ثمة تصلب بالنفوس أصاب الكثير من العلويين وخصوصاً مع عودة الكثير من أبنائهم في نعوش مغلقة. إن الإحساس العام عند العلويين بأنهم مستهدفون في وجودهم، لا بد أن يكون له أثر كبير في تعزيز التضامن بينهم، فهذه الثورة هي ثورة ضد نظام يحميهم بل وفتح لهم باب التعايش مع الجميع، وبقاؤه يعني تثبيت الأشرار عند حدود لن تلبث أن تنتهك بمجرد زواله. يحصل هذا رغم كل الموت الذي لحق بأبنائهم بعد سنتين من قيام الثورة، لسان الحال يقول: من يموت من أبنائنا الآن، يفعل ذلك دفاعاً عنا. وبالتالي يتم تصعيد واقعة الموت هذه إلى مستوى الشهادة التي سيتم تقديسها وجعلها واجباً. خيار المواجهة لا بديل عنه، وقد فرضه الآخرون علينا ونحن لطالما تعايشنا معهم وجاورناهم وتزوجنا منهم وزوجناهم، هذا لسان حالهم. يغدو فعل «الشهادة» هنا، الطريق الوحيد الذي لا بد من سلوكه للحيلولة دون العودة إلى الماضي. ويتراكب كل هذا مع بعضه البعض ليعمل عمل الأيديولوجية التي تعزز الذاتية، وخصوصاً أمام هذا الطارئ الجلل الذين وجدوا أنفسهم في مواجهته.

حتى الآن لم يبرز أو يظهر رجال دين علويون ليلعبوا دوراً مؤثراً على صعيد ما، ولم يبرز منهم من يكفّر أهل الثورة أو السنّة الذين هم أكثرية الثورة، وأيضاً من يدعو إلى الاصطفاف خلف النظام. لا يوجد ناطقون دينيون باسم العلويين، النظام هو من يتولى هذه المهمة. فهم يشعرون أنهم مَدينون له. فهم من دونه جماعة معرضة إلى الزوال ومعه هم سوريون. هذا ربما يفسر «النزعة السورية» شديدة الحضور في ما يطرحونه على مواقعهم الالكترونية أو عبر مثقفيهم، وتعصمهم حتى الآن من الانخراط بخطاب طائفي صريح ضد السنّة بالأساس، لصالح «وطنية سورية» مفصّلة بمفردات النظام. ليست هذه النزعة بريئة من اعتبارات علوية خاصة، فهي باقية رهن بالطمأنينة التي يمكن أن تقدمها لهم، وإلا فإن الحديث عن التقسيم، أو الانفصال، سيغدو ممكناً.

انطلاقاً من هذه «النزعة السورية»، ابتعد العلويون كما قلنا عن الخطاب الطائفي ضد السنة، فالبوصلة هي النظام وليس الدين، وبالتالي، هم ضد كل من يقف ضد النظام «الوطني»، وفي هذا يتساوى السنّي والعلوي والجميع. ولهذا نراهم يبكون على مقتل البوطي، ويطربون لسماع المفتي حسون، ويُحيّون صمود مدينة حارم ويحزنون لسقوطها، ويستقبلون بينهم عشرات الآلاف من النازحين من المدن الأخرى، وأغلبهم سنيّون. وإذا كان من تصريح ضد سنيّة ما، فهو ضد السنيّة بطبعتها الوهابية الجهادية، والتي لا تخفي بدورها عدائها للعلويين، وبأنها تستهدف النظام باعتباره كافراً نصيرياً.

ترحيلهم من سورية

1

الإقدام الذي تحدثنا عنه، وغدا ميزة للعلويين أيام استقرار النظام بعد الثمانينيات المنصرمة، لم يواجَه بإحجام من باقي السوريين. بالنسبة للسنّيّين، ذكرنا كيف فشل الأخوان المسلمين بالهيمنة عليهم وتوحيدهم على أساس الغايات السياسية التي سعت إليها جماعة الأخوان، مما ساهم في عزل هؤلاء الأخيرين وتسهيل ضربهم من قبل النظام، في الوقت الذي نجح النظام آنذاك في إشاعة روحية عامة عند معظم العلويين، استطاعت تحشيدهم خلفه، كما أسلفنا. طوال سنين استقرار النظام وقوته بدا وكأن السوريين يسيرون جميعهم خلفه. ثمة «وطنية» عمل النظام على تلبيسها لذاته، واحتكارها، وتحصينها بالقوة والإعلام والتعليم. قوام هذه الوطنية بسيط جداً، ومفرداتها معدودة، فثمة سورية التي لولاها لانفرط عقد العرب والعروبة، وضاعت قضيتها المركزية: فلسطين. ولذلك فإن المؤامرات عليها دائمة، من الأمريكان والصهاينة وبعض العرب الذين باعوا عروبتهم. في مرحلة قوة النظام، بدا أن «وطنيته» قد تمكّنت من السوريين، وأن هؤلاء سلّموا قيادَهم لها ولسدنتها. ولعل المنعطفات التي ستمرّ بها البلاد، وبعضها كان من الممكن أن يودي بالنظام، تدعم هذا الرأي. منها مثلاً، رحيل حافظ الأسد واستلام ابنه بشار الأسد منصب الرئاسة، حصل هذا الأمر بكل هدوء ولم يلقَ أي مقاومة مجتمعية، إذا لم نقلْ أن ما بدا هو العكس. حتى المعارضة التي ستستأنف عملها، داخل سورية خصوصاً، بعد رحيل الأب، كانت ذات مضمون ديمقراطي وطني، ونخبوية لم تستطع لأسباب عديدة، أن تتغلغل في الأوساط الشعبية.

ومع الضغوط المتلاحقة على النظام، والتي سيتركز معظمها في السنين السبع الأولى لولاية بشار الأسد، حيث أحداث 11 أيلول في الولايات المتحدة واحتلال العراق واغتيال الحريري ومن ثم حرب تموز في لبنان، بدا أيضاً أن الداخل السوري متماسك في دعمه للنظام ومواقفه. وربما كان هذا الأمر أحد الأسباب التي دفعت جماعة الأخوان المسلمين السورية، عدو النظام اللدود، إلى تعليق معارضتها له، مبرِّرة هذه الخطوة بأنه نظام داعم للمقاومة في وجه الاحتلال الإسرائيلي. وهو ذات الأمر الذي جعل بشار الأسد واثقاً من أن سورية لن تشهد ما شهدته تونس ومصر، كما صرّح بهذا قبل قيام الثورة السورية، وبعد الإطاحة بمبارك. ولم تبتعد معظم النخب السورية عن هذا المناخ، فمعظمها كان متشكّكاً بإمكانية دخول سورية في الربيع العربي، وبعضها بقي متشكّكاً باستمرار الثورة في فترتها الأولى. وهو ما طال نخباً عربية رصينة أيضاً، على سبيل المثل، بول سالم مدير «مركز كارنيغي للشرق الأوسط»، في تحليل له قبل قيام الثورة السورية، يقرر أن «رياح التغيير لا يبدو أنها ستهب على لبنان وسورية»، ومن أسباب هذا بخصوص سورية هو أن «الموقف السوري من إسرائيل مختلف عن موقف الرئيس المصري السابق حسني مبارك، ما يعزز وضع قيادتها شعبياً، كما أن الرئيس بشار الأسد ما يزال شاباً في منتصف تجربته الإصلاحية التي بدأت منذ 11 عاماً، حتى لو كان النظام قديماً، ولكنه غير شبيه بنظامي زين العابدين بن علي ومبارك، لذا من المستبعد حدوث أي طارئ في سورية»61. هذه المحطات التي مرّ بها النظام، والتي شكل بعضها تهديداً له، لم تترافق على الصعيد الشعبي بأي  تمايز ذو خلفية طائفية في الموقف منها. ولم يشعر العلويون بما يشعر به الآن الكثيرون منهم، من أن استهداف النظام هو المقدمة للنيل منهم، فغالبية السوريين يقفون تقريباً ذات الموقف من هذا «الاستهداف» الخارجي للنظام.

الطائفية كانت تحت هذا السطح الظاهر، علاقاتها والكلام فيها يجري بالخفاء، بينما الكلام في العلن كان عن التعايش المعجزة بين جميع المكونات السورية، والأمن والأمان الذين ينعمون بهما وتفتقدهما حتى الدول الأكثر تقدماً في العالم. أول سجال طائفي طُرح على الفضاء العام، وتابعه السوريون، سيكون بعد احتلال العراق، من خلال قنوات تلفزيونية فضائية ستتخذ طابعاً شيعياً أو سنياً صرفاً، وبعضها، كقنوات صفا ووصال والمستقلة، سيقوم بإجراء محاورات مباشرة بين رجال دين من السنة والشيعة هاجس كل طرف منها أن يثبت أنه يمثل الإسلام الصحيح بينما الآخر مبتدع فيه ومنحرف عنه62. لم يترتّب على هذا السجال ما يُعتدّ به بين السوريين، وإن كان قد وجد بعض الأصداء لدى بعضهم، فالعلويون الذين تابعوه تعاطفوا مع الطرف الشيعي فيه، وليس أكثر من ذلك، فهم ليسوا معنيين بشكل مباشر بهذا السجال. وكذلك سنّيّي سورية الذين تابعوه، كانوا مع الطرف السنّي في هذا السجال، وخصوصاً أن هناك حساسية ما اتجاه شيعة العراق الذين ساهموا مع الأمريكان بالإطاحة بنظام صدام حسين. لم يكن الأمر كذلك مع شيعة لبنان، فهؤلاء هم أهل «المقاومة»، على عكس العراقيين الذين ساعدوا الغريب في احتلال بلادهم. أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان 2006، معظم السوريين وقفوا مع حزب الله اللبناني الذي كان المستهدف الأول من وراء هذا العدوان، على رغم من الخلخلة التي ستصيب صورة حزب الله فيما بعد، نتيجة التطورات التي سيأخذها الوضع اللبناني، وانغماس حزب الله في وحل السياسة اللبنانية، وخصوصاً بعد اجتياح بيروت 2008 واستخدام سلاحه في الداخل اللبناني، والذي فتح الباب أمام تعزيز ذاتية سنية لبنانية تهدف للوقوف في وجه القوة المتنامية لحزب الله الشيعي، وأخذ يعطي للصراع مضامين وعناوين أكثر طائفية. إلا أن الخصومة السياسية التي كان يشعر بها السوريين نحو خصوم حزب الله والنظام، حافظت على مكانة لا بأس بها للحزب عند السوريين. لقد أضحى للطائفية في السنوات الأخيرة حضورها القوي في المنطقة، تحتل مساحات واسعة في وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية، وتعبّر عن نفسها اجتماعياً وسياسياً بصراحة في كل من لبنان والعراق، لكنها ستبقى مكبوتة تحت السطح في سورية حتى قبل الثورة. أمام ما يحصل في كل من العراق ولبنان سيقف السوري متأثراً، ولكن متسائلاً: لماذا يفعلون ببعضهم كل هذا؟ الرغبة بدوام الحال والاستقرار كانت هي الطاغية، أمام مشاهد القتل والفوضى في البلدين المجاورين.

لم يكن الهاجس الطائفي غائباً مع قيام الثورة السورية. قام المتظاهرون عبر الشعارات التي كانوا يرفعونها أو يهتفون بها بمحاولة تعريف مختلف شرائح السوريين بغاياتهم وأهدافهم، فأخذوا يهتفون بأن «الشعب السوري واحد»، وبعد ما يقارب الشهر على انطلاقة الثورة السورية، في 22 نيسان 2011، وكان يوم الجمعة، أطلق المتظاهرون اسم «الجمعة العظيمة» كرسالة الهدف منها استمالة المسيحيين إلى الثورة. وبعد ذلك بحوالي الشهرين، في 17 حزيران 2011، سيكون هناك «جمعة صالح العلي»، أيضاً في رسالة للعلويين تهدف إلى تطمينهم واستمالتهم للثورة وأن مصلحتهم هي ذاتها مصلحة باقي السوريين في إزالة هذا النظام. ومن الجدير بالذكر أن هذه الجمعة وجدت انقساماً في أوساط الثورة، فبعضهم لم يتبنّ تسميتها باسم صالح العلي وأطلق عليها اسم «جمعة الشرفاء»، وثمة أسماء أخرى أطلقت على هذه الجمعة من جهات أخرى في الثورة. ويبدو أنه ساد بعض الهرج في أوساط من الثورة بسبب هذه التسمية، مما اقتضى من القائمين على صفحة «الثورة السورية ضد بشار الأسد» نشر التوضيح التالي:

    أيها الثوار الكرام منذ نشر إعلان اسم الجمعة (صالح العلي) ظهرت حملة عنيفة ضد الأخ فداء السيد, نودّ إعلامكم أن فداء السيد ليس إلا ناطق إعلامي باسم صفحة الثورة السورية. ولا يجري نشر الاسم إلا بعد تنسيق ومشاورات حثيثة في الداخل السورية وبعض النشطاء في الخارج والتي ارتأت في تسمية هذه الجمعة سبباً وجيهاً في دحض مزاعم النظام الفاسد أننا طائفيون, لذلك اقتضى التنويه63.

ومع ذلك فقد تم التزام هذه التسمية في معظم التظاهرات التي خرجت آنذاك. إن هذه التسمية (صالح العلي) التي جاءت بعد ثلاثة أشهر من بدء الثورة،  بالإضافة إلى السجال الذي دار حولها في أوساط الثورة، يعكس أن ثمة «مسألة علوية» بدأت تطفو على السطح، وتشكل أحد السياقات التي ينبغي على الثورة التعامل معها، لا سيما أنها ستغدو أحد المسائل الحاضرة في تناول الصراع مع النظام. في الأشهر المتقدمة من الثورة، ومع تزايد عنف النظام اتجاه مجتمع الثورة وكوادرها؛ وانتقال الثورة إلى طورها المسلح؛ وتصاعد الصدامات الطائفية في بعض المناطق، لا سيما في حمص؛ وتأييد معظم العلويين للنظام وانخراط كثير منهم في العمل المسلح إلى جانب النظام؛ وانتشار فيديوهات لعناصر محسوبة على النظام، يوحي الكثير منها أنهم علويون، وهي ترتكب بعض الجرائم أو تشارك في أعمال القمع للثورة…، كل هذا سيدفع باتجاه تصدر «المسالة العلوية» كواحدة من أهم عناوين الصراع في سورية. لاحقاً، سيبرز المكون الإسلامي في الثورة، وينزاح بعضه نحو تبنّي النسخة الجهادية، التي ستسعى ليس فقط إلى «تسنين» الثورة، بل إلى بناء ذاتية سنية لا تعي نفسها إلا عبر التناقض مع الكافرين، وهم في السياق السوري، العلويين أولاً. النظام سيغدو مع هؤلاء «نظاماً نصيرياً»، والعلويون من القوم الكافرين، قتالهم واجب.

2

ترحيل العلويين من سورية يمكن أن نقف عليه على مستويين:

الأول يظهر في ذلك التصلب النفسي اتجاه العلويين، والذي بدأ يعبر عن نفسه في أوساط لا بأس من الثورة. ثمة آليات تُتبع هنا تهدف إلى تنميط هؤلاء الغرباء (=العلويين)، بصفات ثابتة، سلبية وشريرة. إنهم الدخلاء الذين لوّثوا نقاء هذه البلاد، ولولا طيبتنا والخير الذي فينا لما تمكّنوا من ذلك، لذلك لا بد من استعادة هذا النقاء عبر إبادة هؤلاء الغرباء، أو القطيعة معهم في أحسن الأحوال. إنهم غرباء أولاً لأنهم ليسوا سوريين، فكيف يكونون كذلك وهم يصطفّون مع من يقتل السوريين؟ وحتى يكتمل إخراج العلويين من «السورية» يسعى البعض إلى النيل من بعض رموزهم والتشكيك بها، وهي التي  كانت حتى ما قبل الثورة محطّ إجماع سوري، كالشيخ صالح العلي وثورته ضد الفرنسيين، والذي يعتبره العلويون رمزاً ودليلاً على سوريتهم الأصيلة64.

ثمة نقلة ثانية يسير بها البعض، تركّز على إخراج العلويين من الإسلام، فهم مجموعة مرتدّة كما أجمع على ذلك لفيف من علماء الأمة والسلف الصالح، ولا تاريخ لهم إلا تاريخ المؤامرة على الإسلام والطعن بالمسلمين. تسمية «العلويين» غير أصيلة، سماهم بها الفرنسيون لقاء الخدمات التي قدموها لهؤلاء. وما هذه المرحلة التي نعيشها إلا إحدى حلقات المؤامرة المستمرة لهذه الطائفة الباطنية! ثمة من يذهب أنه حتى حافظ الأسد لم يكن إلا أداة دفعته هذه الطائفة ودعمته ليصل إلى ما وصل إليه لتحقيق أهدافها الخبيثة، فهو «يدين بالولاء لطائفته في الدرجة الأولى، ومن قيادة هذه الطائفة يستمد تعليماته وأوامره، وما الحزب عنده إلا ستار للتسلط النصيري» و«حافظ الأسد ليس حاكماً فردياً كالشيشكلي أو حسني الزعيم، وإنما هو كيان طائفي منظم وله داخل هذه الطائفة حجم محدود لا يستطيع أن يتجاوزه»65. وحتى تكتمل دائرة أبلسة العلويين، لا بد من تعريتهم من أي أخلاق ممكنة، فهم أناس إباحيون، لا غيرة عندهم ولا شرف، وهذا أمر موجود في أساس دينهم ومعمول به في دنياهم، كانوا سابقاً يبيعون بناتهم، أو يقدمونهم للضيوف كإحدى الضيافات66، ولا غيرة لهم على زوجاتهم وأعراضهم ولا يخجلون من انتشار الرذيلة في صفوفهم67. وللتعاليم الدينية العلوية نصيب أيضاً، فكونها باطنية، فإن هذا يفسح المجال لتخيّلات حولهم، تتراوح بين إضفاء صفات الغموض والغرائبية عليهم، وتصل أحياناً بعض هذه التخيلات في تلفيقاتها إلى حدود المَهزلة، حيث تبنى بناءً على بعض معتقدات العلويين قصص وحكايات تسعى إلى إظهار سخفهم وشذوذهم68.

يلجأ علويون إلى ذات الآلية وهم يتناولون خصوم النظام، الجهاديين خصوصاً، الذين يظهرون ككائنات تتميز بتفكير وسلوك شيطاني مقزّز لا يمت للإنسانية أو العقل أو الأخلاق بصلة. ثمة سرديات تنتشر في أوساط العلويين عن حوادث خطف واغتصاب وقتل وتمثيل في جثث أبنائهم، قام بها أولئك الأشرار، يستندون إليها في تدعيم تصورهم هذا. هذه الآلية في «اختراع» العدو على هذه الشاكلة التي تجرّده من أي امتياز إنساني، وتحمّله جميع النقائص والسلبيات، تبدو وكأنها ضرورية لتبرير القضاء على هذا العدو، بل وإبادته حتى، وبغض النظر عن الوسيلة في كثير من الأحيان. أثناء اختراع هذا العدو، لا يهم إن كانت الصورة التي تُرسم له مطابقة له بنسبة معينة أو غير ذلك، فالحقيقة ليست من الأولويات هنا، فهذه تُستبعد لصالح استحضار هذه الصورة الملفّقة ورفعها لتغدو هي أم الحقائق، حتى ولو كانت في العديد من تفاصيلها تُناقض معطيات واقعية، أساسية وصلبة موجودة عند هذا الآخر−العدو.

نرغب في ذكر مثال من الماضي. لقد كانت الحروب الصليبية في الشرق بداية لاحتكاك كبير بين الغرب والشرق، ومقدمة لأن يغدو كل منهما موضوعاً للآخر. كان لا بد لأيديولوجيي الصليبية المحاربة من أن ينتجوا تصوراً حول طبيعة الأعداء المسلمين الذين تقع الأماكن المقدسة المسيحية تحت سيطرتهم. وكان مما أنتج في هذا السياق ملحمة رولاند، التي يُظهر فيها المسلمين كعبدة لأصنام ثلاثة هي: أبوللين، وتيرفاجانت، وماحوميت (محمد). في تلك «الرواية الصليبية» يلجأ المسلمون الكفرة إلى آلهتم يستنصرونهم قبل معركة رونسسفاليس في جبال البرانس، قائلين: «على هؤلاء الذين يريدون الخلاص أن يجتمعوا معاً. ها هو تيرفاجانت Tarvagant الرحيم، فلنعبده. وكذلك ماخميت (محمد) Machmet العزيز، وأبوللو Apollo المجيد. ولنعبد أيضاً المخلّصين الآخرين من الآلهة الخالدة»69. وعندما يسمع الإمبراطور كارل الأكبر هذا الدعاء، يخاطب من معه قائلاً: «أنظروا إلى هذا الشعب الملعون! إنه شعب ملحد، لا علاقة له بالله. سوف يُمحى اسمهم من فوق الأرض الزاخرة بالحياة، لأنهم يعبدون الأصنام. لا يمكن أن يكون لهم أي خلاص، لقد حكم عليهم. فلنبدأ إذن في تنفيذ الحكم.. بسم الله»70. كما أن التصورات الإسلامية حول الجنة وما فيها من حور عين، وكذلك إباحة الإسلام لتعدد الزوجات وكثرة زوجات النبي، حفزت في تصوير الإسلام على أنه «الوليد الشهواني للشيطان» والرسول على أنه «وحش جنسي آثم». وعلى هذا الأساس، سيكتب في نهاية القرن الحادي عشر إيمبريخو، رئيس كاتدرائية مدينة ماينتس في ألمانيا، أن المسلمين يحتفلون «بجميع أشكال الزواج التي تحرّمها الشريعة الإلهية. ولأنهم جرّدوك، أيتها الطبيعة، من حقوقك غصباً – تسعى المرأة إلى ممارسة السحاق مع نظيرتها، ويمارس الرجل اللواط مع مثيله. بل وخلافاً للتقاليد يُجامع الشقيق شقيقته، ولا تمانع الأخت المتزوجة أن يباضعها أخوها الشيطان. الأبناء يهتكون عرض أمهم، والبنت تغتصب أباها، وكل ما هو محبب على هذا المنوال، كانت الشريعة الجديدة (الإسلام) تحلله»71. بالتأكيد ليس كل ما أنتج عن الشرق في تلك الفترة على هذا النحو، وما أتينا به هو كمثال عن هذه الآلية الأيديولوجية وكيف تقوم بتصنيع عدوها.

ظهرت مؤخراً فتاوى وآراء تدعو إلى تطهير سورية من العلويين، ومعظم هذه الدعوات صادرة عن جهاديين، مقاتلين أو رجال دين، وبعضها يصدر عن مواقع جهادية معتبرة ومعتمدة من قبل الجهاديين في سورية. شبكة أنصار المجاهدين، وهي المعتمدة من قبل جبهة النصرة كما أشارت في بيانها الإعلامي رقم (5) بعنوان «شكر واعتذار»، ورد فيه: «الحسابات الرسمية لجبهة النصرة هي معرفاتها على الشبكات الجهادية الموثوقة التالية: ’شبكة شموخ الإسلام‘ و’شبكة أنصار المجاهدين‘ حصرياً»72. تبنّت هذه الشبكة منشوراً للشيخ أبي عبيدة عبدالله العدم، بعنوان «لا تشاور أحداً في قتل العلويين»، يذهب فيه الشيخ إلى أنه «ليس لهذه الطائفة المحاربة الممتنعة بالشوكة والقوة عند أهل الإسلام الحق سوى السيف والسيف وحده، فلا تُشاورْ، أخي المسلم السُّني، أحداً في قتل العلويين وسلب أموالهم، بل قتلهم هو حق وواجب عليك للدفع عن أهل السنة المستضعفين في الأرض، فاقتلوهم حيث ثقفتموهم واقعدوا لهم كل مرصد ولا تأخذكم بهم رأفة ولا رحمة فإن دماءهم وأموالهم مباحة»، وأن «دماءهم قربة نتقرب بها إلى الله»73. وعلى نحو أخفّ من الشيخ العدم، يذهب الشيخ علي بن نايف الشحود، عضو الهيئة العامة للعلماء المسلمين في سورية، وذلك في إجابة له على سؤال: ما حكم قتل العلويين بشكل عام، وما حكم قتل أطفالهم ونسائهم بشكل خاص؟ يجيب الشحود: «إذا قام النصيرية (العلوية) أو من يساعدهم بخطف النساء والأطفال، فيجوز لنا خطف نسائهم وأطفالهم، لكن لا يجوز الزنا بنسائهم لأن الزنا حرام لا يُباح بحال. لكن لا نقتل المخطوفين هؤلاء إذا لم يكونوا مشتركين بالقتال، إلا إذا كانوا نساء وأطفال شبيح قَتَلَ نساء وأطفالاً لنا فيجوز أن نقتلهم بذلك قصاصاً (…) يجوز لنا أن نقتل ولد القاتل مثلاً قصاصاً، وليس غيره. (…) لا يجوز الثقة بهم ولا بوعودهم وليس بيننا وبينهم إلا السيف. (…) كل من يقتل من المسلمين فهو شهيد وفي الجنة إن شاء الله، وكل من يقتل منهم فهو في النار وبئس المهاد»74. وحول سؤال عن «حكم تزويج النصيرية والفرق الباطنية والزواج منهم» يقرر «المكتب العلمي لهيئة الشام الإسلامية» بأن «الطائفة النصيرية طائفة خارجة عن الإسلام باتفاق أهل العلم، ومثلها في ذلك بقية الطوائف الغالية الباطنية»، و«قد انعقد الإجماع على أن زواج الكافر بالمسلمة باطل (…) الأصل في عقد زواج المسلمة من غير المسلم أن يُحكم عليه بالبطلان، دون أن يترتب عليه شيء من آثار الزواج الصحيح». واستناداً إلى نص قرآني يحرّم أيضاً «زواج المسلم من النصيرية ونحوها، والنكاح باطل»، وإن «تاب الطرف غير المسلم وصحَّ إسلامه، ورغب أن يستمر في زواجه، فلا بد من عقد جديد (…) أما مَن تبين له حرمة الزواج من هؤلاء فتزوّج، أو كان متزوجاً من قبل فاستمرّ على زواجه بعد أن تبين له الحكم، فهو واقعٌ في الزنا منتهكٌ لحرمات الله، مستحقٌ للوعيد الشديد والعقاب الأليم»، لذلك يوصي المكتب العلمي بالرجوع «للمحاكم الشرعية في المناطق المختلفة للتثبت من حكم هؤلاء الأزواج أو الزوجات، وإصدار حكم شرعي قضائي فيها، وتوثيق ذلك، فإن لم يكن فيها محاكم شرعية فلتنظر فيها لجان من طلبة العلم ووجهاء المنطقة والمسؤولون عن حفظها وإدارتها للنظر في هذه المسائل»75.

الترحيل للعلويين لا يقتصر فقط على الجهاديين أو على مزاج شعبي أوصلته وقائع الصراع في سورية والعنف الممارس من قبل النظام إلى مواصيل القطيعة النفسية مع العلويين؛ وإنما وجد هذا الترحيل سبيله إلى بعض النخب المحسوبة على أجواء الحداثة والتغيير الديمقراطي أيضاً. هذه النخب المقصودة وجدت نفسها منساقة إلى الاستعانة بمصفوفة تجعل من الطائفية عاملاً مفسّراً لما يجري في سورية، ولا تخفي تبرّمها من اصطفاف علويين خلف النظام وتحميلهم وزر استمراره ومقاومته حتى الآن.

ثمة ترحيل من نوع آخر يميّز ناشطين علويين في صفوف الثورة، يُعاش على شكل تمزّق داخلي يجد أساسه في ذلك التشتت بين موقفهم المؤيد للثورة والتغيير من ناحية، وألمهم من المكان الذي أخذ العلويون يوضعون فيه مؤخراً، خارج قلوبِ أوساط لا بأس بها من السوريين، مما يستنفر الخوف في قلوب الناشطين على مستقبل أهاليهم ومستقبل البلاد. هذا بالإضافة إلى الحساسية المزدوجة التي يعانون منها، من جهة من قبل بيئتهم الاجتماعية الأصلية، ومن أخرى من بعض أهل الثورة. وجد بعض هؤلاء الناشطين أنفسهم في مواقع اعتقدوا أنهم أنجزوا قطيعتهم معها، فقام بعضهم بتدبيج البيانات والتوقيع عليها، كعلويين، بغية تخفيف الاحتقان عبر القول أنه ثمة علويين منحازين إلى قضية الشعب السوري وحريته؛ ووجد آخرون أنفسهم في موقع السجال الذي يريد أن يثبت أن النظام هو على هذا النحو ليس لأنه «علوي» بل إنه ليس كذلك، وإن التعاطي الصحيح معه يكون عبر وصفه بالاستبداد، وبهذا فهو لا يختلف عن أنظمة عربية أخرى تقمع شعوبها ولا تعترف بتطلعاتها. وثمة ناشطين علويين ذهبوا إلى أن الثورة سورية و«سنية»، لأن معظم أهلها ومن يقع عليهم الحيف والعنف، من السنّة، بينما ينأى معظم أبناء الطوائف الأخرى عنها في أحسن الأحوال، ويقف عديد منهم في موقع المحارب لها. نجد ضمن هذا الصنف الأخير من يذهب إلى المغالاة في إبراز «سنيّة» الثورة، ولا بأس لديهم بأن يذهب كل العلويين إلى الجحيم. ربما نقع هنا على نوازع سيكولوجية واجتماعية ومادية تقف وراء الموقف الأخير، تتراوح بين استبطان قدر من «الذمية» اتجاه تصاعد «السنيّة» في الثورة، يظهر من خلال ادعاء تطهرية مثالية هي مقلوب ذلك الانسحاب الذي شهدناه لبعض الناشطين والسياسيين العلويين إلى مواقع مشككة بالثورة أو معادية لها، انطلاقاً من أن هذه الثورة ليست ثورة، بل إنها تحرك «طائفي» و«سنّي» أو غير ذلك؛ أو بسبب موقع ما يعود على صاحبه ببعض المكانة.

ثمة تقسيم نفسي أخذ يتمكن من السوريين، في الوقت الذي يكافح أغلبهم ضد التقسيم السياسي الذي بدأ الحديث عن احتمال وقوعه، وربما يكون هذا التقسيم مقدّمة لذلك السياسي.

تديّن العلويين

ربما كانت فتوى مفتي فلسطين الشيخ أمين الحسيني، عام 1936، هي المرة الأولى التي يتم بها اعتراف من خارج العلويين بأنهم مسلمون. يعلن الحسيني أن «العلويين مسلمون، ويجب على عامة المسلمين أن يتعاونوا معهم على البر والتقوى». سابقاً كان كلٌ من الشيعة والسنة لا يعترف بهذا. وبهذا يكون الاعتراف الأول بإسلام العلويين جاء من طرف سنّي. ربما جاءت فتوى الحسيني في سياق التفاعل مع ما يحصل في المنطقة، وسعي نخب سياسية سورية آنذاك إلى تحقيق الاستقلال والوحدة السورية عبر مفاوضات 1936. وسبق أن ذكرنا جانباً من هذا، ومن الانقسام الذي حصل بين العلويين أنفسهم: بين انفصاليين يردّدون حجج الفرنسيين بأنهم غير مسلمين وبالتالي يريدون كياناً علوياً أسوة بالكيان المسيحي في لبنان؛ وبين توحيديين ردّوا بأنهم مسلمون وبأن الدول لا تقام على قاعدة الدين. فتوى الحسيني ربما كانت انتصاراً لهؤلاء الأخيرين.

مع قيام الوحدة بين سورية ومصر، بدأت بعض النخب بالعمل على واقعة التعدد الديني والمذهبي، والذي كان بارزاً في الإقليم الشمالي- سورية، وكانت الدعوة إلى «التقريب بين المذاهب» هي إحدى الطرق التي تم اللجوء إليها. برز في هذا السياق آنذاك شيخ الأزهر محمود شلتوت صاحب الفتوى الشهيرة بجواز التعبّد على مذهب الشيعة الإمامية كسائر مذاهب أهل السنة. سيقوم الشيخ شلتوت بتقديم كتاب الدكتور مصطفى الشكعة «إسلام بلا مذاهب» والذي يندرج في سياق عملية التقريب بين المذاهب. وحول هذا يقول الشلتوت في مقدمته، بأن «الغاية النبيلة التي يهدف إليها الإسلام، وهو أن يكون معتنقوه أمة واحدة قد تختلف في أفهامها ولكنها لا تختلف في أسسها وغاياتها»76. ثم يُثني على كِتاب الشكعة وأسلوبه وموضوعيته، وعلى المواضيع التي تطرق إليها في كتابه، وخصوصاً فرق الغلاة، «ولا سيما أنه تعرض للفرق التي ارتبط −ولا يزال يرتبط− تاريخها بجمهوريتنا العربية المتحدة»77. يرفض الشكعة تسمية العلويين بالنصيريين، ويقرر بأن «العلوية −وليس النصيرية− مذهب إسلامي صريح، إنها مدرسة متفرّعة من المذهب الإمامي الكبير»78. وأمام ما سيقف عليه على أنه انزياحات عند العلوية عن العقيدة الصحيحة، والتي تتمثل بالغلو والباطن وغيرهما، فإنه سيرجع سبب ذلك إلى ما «لحق بها على مسرى التاريخ الكثير من الظلم حيناً والإهمال حيناً آخر، بحيث انتهى بها الأمر إلى ما وصل إليه كردة فعل لطبيعة الأشياء، وكنتيجة منطقية لمقدمة غير سوية»79. ويذهب إلى أنه، على الرغم من هذا، فإن العلويين ينقسمون إلى فريقين، فريق الغُلاة وفريق يمثل العلوية الصحيحة التي يجدها عند كل من الشيخ أحمد حيدر والشيخ عبد الرحمن الخير وغيرهما. وأهل العلوية الصحيحة، بنظر الشكعة، هم تماماً الشيعة الإمامية مع بعض الاختلافات، مثل أن العلويين لا يُبيحون –كالشيعة− زواج المتعة، واختلافات أخرى ينتقد بعضها بلطف، كتمسّكهم بالسرية واعتقادهم بالتقمّص.

في عام 1973 سيُصدر الإمام موسى الصدر فتوى بأن العلويين هم مسلمون شيعة، ويُروى أن هذه الفتوى جاءت بطلب من حافظ الأسد الذي لاقى تشكيكاً من قبل إسلاميين بوصفه ينحدر من أصل علوي، بعد أن وصل إلى قمة السلطة، فالمادة الثالثة تشير صراحة إلى أن دين رئيس الجمهورية هو الإسلام، والعلويون غير معترف بهم كمسلمين عند خصوم الأسد من الإسلاميين. ولا أدري إن كان ثمة فتوى لأحد المرجعيات الشيعية سابقة لفتوى الإمام الصدر، شبيهة بفتوى هذا الأخير، لم أقع أثناء بحثي على مثل ذلك. بل ثمة فتاوى قديمة لمرجعيات شيعية تذهب إلى العكس، وتخرج العلويين من ملة الإسلام.

العلويون مسلمون، ما يؤمنون به هو أحد القراءات والتأويلات الكثيرة التي حفل بها تاريخ الإسلام، يعتقدون بالقرآن ككتاب لهم، والشخصيات التي يبجّلونها أو يُبغضونها هي من الشخصيات الحاضرة في التاريخ الإسلامي، ولا ينفي هذا بعض الاستعارات الحاصلة من الفارسية أو اليونانية أو الهندية. وككل مجموعة دينية أخرى، يعتقدون أنهم يمثلون الإسلام الصحيح، وأن غيرهم بعيدون عن روح الإسلام وفهمه. من الناحية الدينية، العلويون ليسوا أهل رسالة، فهم دينياً لا يملكون أي رسالة يسعَون إلى تبليغها للآخرين، وهم بعيدون عن أي منافسة مع المذاهب الرسالية لاحتلال موقعٍ ما ضمن المتن الإسلامي، حالهم في هذا كحال باقي «الأقليات» الإسلامية. بل إنهم كانوا على الدوام محطّ غزو تبشيري، فعلى أيام العثمانيين جرت محاولات لتسنينهم، وأيضاً نجحت البعثات التبشيرية الغربية في تنصير عدد منهم، والآن ثمة محاولات للتشييع أو لإدخال بعض التفاصيل الشيعية إلى تديّنهم. لا يشكل تمثيل الإسلام ومنازعة الآخرين حول هذا الأمر هاجساً لديهم، ربما يعود هذا إلى الباطنية التي تميز التديّن العلويّ.

التدين العلوي تدين بسيط، ورجال الدين فيه لا يضطلعون إلا بحضور هامشي يكاد يقتصر على المناسبات الدينية والتواجد في بعض الأماكن ذات الرمزية الدينية عندهم، بل إنه حتى قصد هذه الأخيرة يأخذ مضموناً اجتماعياً أكثر من أن يكون دينياً. لا يوجد نشاط اجتهادي ديني، ولا يعيش العلويون تناقضاً بين العلاقات التي توفّرها الحياة ودينهم. ربما لا يملك العلويون تلك الدينامية الدينية التي تمتلكها المذاهب والأديان الكبرى والتي تفرض عليها جهداً يروم التلاؤم أو التصدي للوقائع الجديدة، مثلاً التناقض بين النص والعلم أو الواقع، أو العمل على تبْيِئة بعض المفاهيم السياسية. حتى أنه لا وجود عندهم لأي تفكير سياسي في تراثهم، يبدو أنه لا يوجد في التدين العلوي اهتمام بالواقع أصلاً حتى يشعر بالتناقض معه وضرورة مواكبته. وتشكّل الأدبيات الشيعية مرجعاً لهم في قراءة التاريخ وتبنّي الأحكام الخاصة به، لكن الأمر يتوقف عند هذا الحدّ دون أن يتأثروا بنمط الحياة التي تطلبها المنظومة الشيعية.

إن العقلنة هي في حدّ ذاتها ليست سمة ذاتية لهذا المذهب أو ذاك، إنها بالدرجة الأولى وليدة ظروف تاريخية ساهمت في دفع العقلنة والتبرير بما يتيح لها التكيف مع وقائع العالم المتغيرة، وهي غالباً، وربما بدرجة أساسية، ستكون سمة أديان ومذاهب كبرى ومذاهب استطاعت أن تجد لها مساحة فاعلة في التاريخ، وارتبطت بها دول ومصالح ومؤسّسات. في السياق الإسلامي ينطبق هذا الكلام على الإسلام السني، الذي استأثر عموماً بصياغة العلامات الأساسية للمتن الإسلامي. يأتي الشيعة بالدرجة الثانية، بينما تُستبعد الإسلامات الباطنية من هذا. حصلت بعض المحاولات من قبل البعض، سعوا من خلالها إلى فتح العقيدة العلوية على فضاء الإشكاليات التي أخذت تفرضها وقائع الحياة السريعة في هذا الزمن. من هؤلاء كان الشيخ أحمد حيدر في كتابه «ما بعد القمر»80 الذي يذهب فيه إلى تسفيه الرأي القائل بالتناقض بين العلم والدين، بل إن العبادة لا تصبح فضيلة «إلا بالعلم، وإن ركعة من عالِم خير من ألف ركعة من زاهد، فمن زعم أن العلم يتنافى مع الدين فقد رضي من العلم مبلغ الرعاع وحصة الأعمى من الشعاع»81. على الرغم مما يوحي به هذا الكلام من أن ثمة عند العلويين انشغالاً حول هذه الإشكالية، التناقض بين العلم والدين، إلا أنني أعتقد أن الشيخ أحمد حيدر يتكلم عن قضية بعينها، أو نقاش محصور في حياته، لم يُكتب له أن يترسخ أو يتطور في تفكير العلويين. وما يقوّي زعمنا هذا، أن «القمر» الذي حظي بمكانة ضمن الاعتقاد العلوي، كان هو مناسبة كتاب الشيخ أحمد حيدر، لا سيما بعد الاكتشافات العلمية حوله وصعود الإنسان إليه. بطريقة احتفالية لا تخلو من بعض المبالغة، يقدم محمد أحمد حيدر لكتاب أبيه بالقول: «بعد أن اكتشفت مادّيّة القمر، وتبدّد عنه غشاء الروحانية، أباح هذا التديّن المفروض بغير علم ومعرفة، وبدون شرع وكتاب، أباح للعقل أن ينطلق من عقاله، وأن ينشط من قيوده الوهمية (…) لقد حدَّ الاعتقاد بروحانية القمر من نشاط العقل وضرب دونه ودون الحقائق سداً من الأوهام، وباكتشاف مادية القمر أتيح للعقل أن ينشط من عقاله… أتيح لهذا العقل المعتقل أن يكسر القيود ويحطّم الحواجز بينه وبين عالمه المطلق»82. لا تأثير ذو أهمية أصاب التدين العلوي أو جوهر الاعتقاد بسبب التقدم العلمي، بل تأثير هذا الأخير كان أوضح في سياق تهميش الدين عند عديد من العلويين، حيث تراوح الموقف من الدين عند هؤلاء بين عدم الاهتمام أو عدم الإيمان، وبين من لا يتجاوز عنده حالة اجتماعية دون التعمق به.

هذا لا ينفي بالطبع أن هناك متدينين مؤمنين وملتزمين، بل إن هناك ميلاً بدأ بالظهور في السنوات العشرين الأخيرة نحو الانغماس أكثر، بما يؤكد الانتماء للعلوية عبر بوابة الدين عند عدد لا بأس به من الشباب، والاستعانة بما يلزم لأجل ذلك من سلوك تطهّري، والتأكيد على الالتزام بشعائر دينية كان التعامل معها ليناً على عهد الآباء. كما بدأت ظاهرة المساجد تكثر في القرى العلوية.

في هذه السنوات، سيتجاوز الانتماء الطقوس الدينية والتعبيرات الاجتماعية الملازمة لها، والتي تعكس التديّن العلوي البسيط، ليؤدي دوراً سياسياً غير واع، يتصل بتعزيز الهوية والانتماء إلى الجماعة، حيث أخذ هذا الجانب يطغى على غيره. وفي موازاة عمليات تعزيز الهوية هذه، لم يتشكل أي إطار مؤسسي ديني أو اجتماعي كمرجعية للعلويين، وربما كان لغياب مثل هذه المرجعية دور في تسهيل، ومن ثم تعزيز، اختراق السلطة للاجتماع العلوي وتنصيب نفسها المرجع الأول والأساسي لهم. ومما قد نجده عند غيرهم من «الطوائف» الأخرى، لا يمتلك العلويون هامشاً أهلياً ينظّم أو يُدير بعض الجوانب الاجتماعية المحلية، أو يسعى إلى نوع من الضبط الاجتماعي الأهلي (مرجعيات دينية، جمعيات خيرية ومؤسسات أهلية)، كما لا يوجد رجال دين معمّمون، مختصّون بالعلوم الدينية وإنتاج ما يتّصل بها من حوليات. بل أصلاً مثل هذا الإنتاج ليس موجوداً، ولا يوجد تفرّغ لمثل هذه الأمور، وغالباً ما يكون رجل الدين يعمل في عمل آخر لكسب عيشه. وفي السنوات الأخيرة، لم يُذكر أنْ برز رجل دين علوي، بل إن كثيراً ممّن احتل الساحة مؤخراً، وأصبحوا «مشايخ»، هم من عناصر الجيش أو الأمن المتقاعدين، ضباطاً أو صفّ ضباط، بما يؤمّن لهم بعض المكانة الاجتماعية83. أما من ناحية وجود خطاب ديني علوي فهو غير موجود، ربما بسبب الخصوصية الدينية التي يحيطون أنفسهم بها. أما سياسياً فقد تم تماهي الكثير من «الخطاب» الصادر عن علويين مع خطاب السلطة، كما سبق وذكرنا. إن اختراق هذه الأخيرة سيكون أمضى من أن يقف عند المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فثمة اختراق تجلى أيضاً على المستوى الديني، وإن على نطاق أضيق، ونضرب مثالاً حول ذلك هو تلك الأسطرة لشخصية الرئيس الراحل حافظ الأسد، من قبل علويين، فهو عند بعضهم وصل إلى مرتبة العالِم بالدين وأولياء الله الصالحين، وأن مجيئه وتسلّمه الحكم في سورية إنما هو مذكور في بعض الكتب، وعند رحيله ادّعى بعضهم أنهم شاهدوا صورته في القمر84. لن يحظى ابنه بشار الأسد بذلك، ولكن اختراق السلطة لا زال حاضراً على مختلف الأصعدة، وربما يُشير إلى عدم بروز رجال دين علويين، في الوقت الذي برز من طوائف أخرى، يبدون رأيهم سلباً أو إيجاباً بما يحدث في البلاد، لا يخلو من بعض المؤشرات. بل حتى المقاتلون أو الموالون من العلويين لا يشكّل التديّن العلوي مرجعية لهم في مواقفهم، كما يدعي البعض، ففي الوقت الذي نجد رايات إسلامية وتنظيراً إسلامياً سنياً من قبل بعض الجهات التي تقارع النظام، واصفة إياه بالنظام النُصيري ومتوعدة العلويين جميعهم من وراء ذلك، لا نجد رداً علنياً مضاداً من ذات الطينة موجّهاً ضد المسلمين السنّة، بل معظم ما صدر حول هذا يلتزم تماماً بما يَصدر عن النظام. ما قلناه منذ حين، لا ينفيه محاولة علويين إضفاء طابع القداسة على حربهم التي يخوضونها، بحيث تغدو إحدى الجولات بين الحق والباطل، ولكننا نجد هذا الكلام يخلط بين مفردات القداسة والخيانة والسوريّة والعروبة وغير ذلك. إن الكربلائية العلوية، التي يتم استحضارها في هذه الأثناء، مختلفة عن الكربلائية الشيعية المتمركزة حول مقتل الحسين بن علي؛ الكربلائية العلوية المعاشة هذه الأيام هي في الأساس دنيوية، تستحضر بعض المحطّات القاسية التي عاشها العلويون عبر تاريخهم، وخصوصاً القريب. ليس معنى هذا الكلام تحرير العلويين من الطائفية، بل القول أن هذه العناصر هي المحدِّد الأساسي للطائفيّين منهم، وهي طائفية قابلة للاختراق من قبل آخرين بمجرّد أن يكون موقفهم إيجابياً من النظام.

الهوامش:

    أبو حامد الغزالي، فضائح الباطنية، حققه وقدم له عبد الرحمن بدوي، مؤسسة دار الكتب الثقافية، الكويت، ص 156 [↩]

    المصدر السابق، 156 [↩]

    المصدر السابق، 156 ـ 157 [↩]

    أحمد بن تيمية، مجموع الفتاوى، المجلد الخامس والثلاثون، طبعة المدينة المنورة: 2004، ص 149 [↩]

    المصدر السابق، 150 وما بعدها [↩]

    المصدر السابق ص152 [↩]

    المصدر السابق ص147 [↩]

    المصدر السابق ص157 [↩]

    المصدر السابق ص205 [↩]

    المصدر السابق ص162 [↩]

    http://www.almeshkat.net/books/open.php?cat=21&book=7966 [↩]

    مجموعة المحررات السياسية والمفاوضات الدولية عن سوريا ولبنان، تعريب فيليب وفريد الخازن، المجلد الثاني، مطبعة صبر، 1911، ص4 [↩]

    المرجع السابق، ص 108 [↩]

    المرجع السابق ص205 [↩]

    المرجع السابق ص205 [↩]

    المرجع السابق ص204 [↩]

    يوسف الحكيم، بيروت ولبنان في عهد آل عثمان، دار النهار للنشر، بيروت، 1991، ص 68 [↩]

    ليون كاهون، رحلة إلى جبال العلويين عام 1878، ترجمة مها أحمد، تقديم سهيل زكار، دار التكوين، دمشق:2004، ص16ـ17 [↩]

    المصدر السابق، ص 15 ـ 16 [↩]

    يوسف الحكيم، مصدر سابق، 101 [↩]

    عبد العزيز محمد عوض، الإدارة العثمانية في ولاية سورية 1864 ـ 1914، دار المعارف بمصر، ص352 [↩]

    محمد كرد علي، خطط الشام، الجز السادس، مكتبة النوري، دمشق، الطبعة الثانية، ص 261 [↩]

    محمد كرد علي، المصدر السابق، ص115 ـ 116 [↩]

    يوسف الحكيم، مصدر سابق، ص69 ـ 70 [↩]

    محمد كرد علي، المصدر السابق، ص108 [↩]

    يوسف الحكيم، مصدر سابق، ص81 [↩]

    محمد كرد علي، ج3، مصدر سابق، ص114 [↩]

    يوسف الحكيم، مصدر سابق، ص69 [↩]

    صبحي العمري، سلسلة أوراق الثورة العربية (3)، ميسلون… نهاية عهد، دار رياض الريس، لندن، ط1: 1991، ص51 ـ 52 [↩]

    عبد العزيز محمد عوض، مرجع سابق، ص352 [↩]

    المرجع السابق، ص297 [↩]

    محمد هواش، عن العلويين ودولتهم المستقلة، الشركة الجديدة للمطابع المتحدة، الدار البيضاء، ط1: 1997، ص183 [↩]

    المرجع السابق، ص212 [↩]

    المرجع السابق، ص212. وللاطلاع على أسماء الموقعين وتعريفاتهم، يراجع ص213ـ214 [↩]

    المرجع السابق، ص216 [↩]

    حازم صاغية، أول العروبة ( تخلي الأكثرية وتولي الأقلية)، دار الجديد، بيروت، ط1: 1993، ص118ـ119 [↩]

    القومية والوحدة، القسم الأول ج2، سلسلة قضايا وحوارات النهضة العربية، تحرير وتقديم محمد كامل الخطيب، منشورات وزارة الثقافة، سورية، دمشق، 1994، ص637 [↩]

    محمد هواش، مرجع سابق، ص149ـ150 [↩]

    محمد هواش، مرجع سابق، ص129 [↩]

    المرجع السابق، ص144 [↩]

    المرجع السابق، ص159 [↩]

    المرجع السابق، ص249ـ250ـ251ـ252ـ253 [↩]

    المرجع السابق، ص253ـ254ـ255ـ256. وللاطلاع على أسماء الموقعين وتعريفاتهم يراجع ص256ـ257ـ258ـ259ـ260 [↩]

    فيليب خوري، سورية والانتداب الفرنسي… سياسة القومية العربية 1920ـ1945، ترجمة: مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط1: 1997، ص578 [↩]

    المرجع السابق، ص576 [↩]

    المرجع السابق، ص581 [↩]

    للوقوف على بعض التفاصيل بخصوص سليمان المرشد وطريقة أسره، وكذلك قصة شاهين، يراجع محمد هواش، مرجع سابق، من ص344 وحتى 350 [↩]

    نضع هذا التعبير بين قوسين، لأنه لن يغدو دقيقاً ومعبراً بدقة عن جميع المراحل التي مر بها العلويون. إذ سنجد أن الشمول الذي يوحي به هذا التعبير سيتقلص إلى حد كبير أيام استقرار النظام، وهو الآن ضد سنة محدد وليس السنة. سيمر البحث بكل حال على هذا الأمر. [↩]

    محمد كرد علي، خطط الشام، جزء، مصدر سابق، ص108 [↩]

    محمد هواش، مرجع سابق، ص370 [↩]

    المرجع السابق، ص373 [↩]

    المرجع السابق، ص287 [↩]

    بوعلي ياسين وجمال باروت ومحمد نجاتي طيارة، الأحزاب والحركات القومية العربية، تنسيق فيصل دراج، محمد جمال باروت، المركز العربي للدراسات الاستراتيجية، ج1، ص90 [↩]

    المرجع السابق، ص92ـ93 [↩]

    المرجع السابق،ص80 [↩]

    مذكرات أكرم الحوراني، مرجع الكتروني، ص1067ـ1068ـ1069 [↩]

    نيكولاس فان دام، الصراع على السلطة في سوريا، الطبعة الالكترونية الأولى، 2006، ص129 [↩]

    المرجع السابق، ص130 [↩]

    بحسب المعلومات التي حصلت عليها، فإن دماء الفندي وعائلة التلاوي كانت أولى الدماء التي سالت في حمص. [↩]

    الفيديو الخاص بنضال جنّود على قناة الدنيا http://youtu.be/wFHcKm5f41A [↩]

    http://www.dp-news.com/pages/detail.aspx?articleid=76582 [↩]

    من رجال الدين الذين سيبرزون في هذه الحوارات، الشيخ عدنان العرعور، حيث سيتم اعتماده في معظمها، وسيظهر كأحد الصقور أثناء مقارعة خصومه من الشيعة وتكفيرهم. لاحقاً، سيبرز هذا الشيخ في الثورة السورية، وسيستحضر علويون الصورة التي ظهر عليها في حواراته مع الشيعة، وهو ما سيكون له بعض الأثر في تدعيم حجتهم حول اصطفافهم مع النظام. [↩]

    موجود على الرابطين: http://forum.sh3bwah.maktoob.com/t347547-133.html, http://www.elaph.com/Web/news/2011/6/662240.html?entry=homepagemainmiddle [↩]

    يوجد العديد من الأمثلة التي يمكن إيرادها في هذا الشأن، وكمثال نضع الرابط التالي: https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=579250225438212&id=489384054424830 [↩]

    أبو عبدالله الذهبي، ظاهرة حافظ الأسد، كتيب الكتروني موجود على الرابط http://www.saaid.net/book/open.php?cat=83&book=420 [↩]

    يستند من يتهم العلويين بهذا، تقديم نسائهم إلى الضيوف، إلى كتاب «الباكورة السليمانية» لمؤلفه سليمان الأذني، الذي يقول أنه كان علوياً ثم غيّر اعتقاده. بالإضافة إلى أن رواية الأذني كاذبة، إلا أنها تحوي العديد من التناقضات. فهو بعد أن يقسم العلويين إلى شمالية وكلازية، ويعدد بعض ما عند هؤلاء وهؤلاء من طقوس غريبة واختلافات بينهم، يذكر أن الكلازية فقط تختص بما يسمى « فرض لازم وحق واجب» ويشرحه بأنه « إذا حضر إمام منهم إلى إمام آخر نظيره فالثاني ملزم بأن يقدم حرمته للأول» وهو كما يبدو فرض عند الخاصة من العلويين، أما « العامة فلا تعلم ذلك» ص58 ـ 59. ثم يروي فيما بعد « سافرت إلى مدينة أنطاكية إلى قرية اسمها وادي الجرب فصادفت شيخاً من الخاصة وأضافني عنده، ولما أقبل الليل فرشوا لي فراشاً في موضع غرفة خالية فلما كانت نحو الساعة الثانية وإذا بطارق يطرق الباب ففتحته وإذا بامرأة دخلت إلي وغلقت الباب واضطجعت بجانبي، وأنا متحير منها ما أعلم ماذا كان غرضها ثم بعد قليل جعلت تحادثني وقالت أما تقبل الفرض اللازم والحق الواجب؟ حينئذ جالت في عقلي كلمة الإمام المرشد وعرفت أن الفرض اللازم والحق الواجب هو تقديم نسائهم لبعضهم» ص 93ـ 94. الغريب في هذه القصة أن تأتي امرأة من المفترض أنها لا تعلم من أمور الدين إلا ظاهره، فتذكر سليمان الأذني بما هو فرض لازم عليه وحق واجب، وهو من الخاصة الذين تقدم لهم النساء، بعد أن تحير وارتبك من دخول هذه المرأة إليه، ولا يعلم ما هو غرضها! (الكتاب نسخة الكترونية). [↩]

    مثل هذا الكلام على بعض الصفحات في مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها، والتي تختص في تناول العلويين. وكأحد الأمثلة نحيل إلى أبو عبدالله الذهبي، مرجع سابق. [↩]

    مثال على ذلك ما يورده الشيخ أبو بصير الطرطوسي (عبد المنعم مصطفى حليمة) على موقعه على أنه «قصة حقيقية» رواها علوي بعد أن هداه الله إلى «الإسلام»، وتبين هذه القصة بحسب تقديم الطرطوسي» كم هذه الطائفة منغلقة على نفسها، تعيش فيم بينها قمة الكفر والإلحاد، والفسوق، والجهل، والتخلف، والإرهاب، والظلم، والباطنية والتقية… كما تعيش ثقافة إذلال الكبير للصغير، والقوي للضعيف». هذه القصة مبينة على التقمص الذي يؤمن به العلويون، وبالطبع تنتشر في بعض الأوساط العلوية المتدينة قصص أسطورية مستقاة من الإيمان بالتقمص، ولكنها بالتأكيد ليست منسجمة مع هذه الرواية التي يتبناها الطرطوسي، إذا لم نقل أنها مخالفة تماماً للاعتقاد العلوي حول التقمص. وبالنسبة للطرطوسي، يشاع أنه هو المسؤول عن كتائب أحرار الشام الإسلامية التي تقاتل في سورية، أو عرابها. للاطلاع على هذه القصة يراجع الرابط:  http://www.altartosi.com/others/oth013.html [↩]

    صورة الإسلام في التراث الغربي (دراسات ألمانية)، ترجمة ثابت عيد، تقديم محمد عمارة، الناشر: نهضة مصر، القاهرة، 1999، ص25 [↩]

    المرجع السابق، ص26 [↩]

    المرجع السابق، ص 51ـ 52 [↩]

    https://as-ansar.com/vb/showthread.php?s=2bc89a778c7de29ed2c4185273209603&t=81381 [↩]

    http://www.as-ansar.com/vb/showthread.php?t=67833 [↩]

    http://goo.gl/FygjX [↩]

    http://islamicsham.org/fatawa/788 [↩]

    مصطفى الشكعة، إسلام بلا مذاهب، الدار المصرية للكتاب، القاهرة، ص26 [↩]

    المرجع السابق، ص28 [↩]

    المرجع السابق، ص322 [↩]

    المرجع السابق،  ص322 [↩]

    ضاع مني المرجع الأصلي منذ مدة. ويلفت إلى أن «الإدارة السياسية للجيش العربي السوري» قامت عام 1984 بطباعة كتاب ما بعد القمر للشيخ أحمد حيدر. [↩]

    المرجع السابق، ص350 [↩]

    المرجع السابق، ص353 [↩]

    يروى أن من بين هؤلاء من أفتى بأن سلب ونهب البيوت إنما هو حلال زلال! [↩]

    ذات الأمر حصل بعد إعدام صدام حسين، حيث ادعى أنصار له أنهم شاهدوا صورته على القمر. [↩]

موقع الجمهورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى