صفحات الثقافة

الفرار من الحرية/ خيري منصور

 

 

حين أصدر أريك فروم كتابه الشهير «الخوف من الحرية» افتضحت ظاهرة كانت طيّ الكتمان والمسكوت عنه في الثقافة الغربية، وهي أن بعض الناس ممن يتظـــاهرون بالحنين إلى الحرية، سرعان ما يهربون منها عندما تصبح ممكنة، لأنها تضع الإنسان أمام نفسه وقدراته ومسؤولياته، ومن السهل عليه أن يبحث عن ذريعة، أو مشجب ليعلق عليه تهربه.

وهناك قصة روسية عن شاب كان يعيش بالقرب من أمه العجوز المريضة ويقول لمن حوله إنه موهوب وقادر على تأليف روايات تتفوق على ديستويفسكي وتولستوي، لكن مرض أمه وحرصه على أن يكون بجوارها يمنعه من تحقيق أحلامه، وحين توفيت أمه مرّ وقت طويل لم يكتب فيه سطرا واحدا، وأخيرا قرر الانتحار، لأن السبب الذي كان يتذرع به لتأجيل عبقريته لم يعد موجودا.

أما الفيلسوف سارتر فيروي في يومياته أن أحد طلابه في قسم الفلسفة جاء يستشيره بشأن قضية بالغة الأهمية، وهي أنه مطلوب للجندية في الحرب، ولأنه وحيد أمه فإنه لا يستطيع تركها بمفردها، فماذا يختار؟ أجابه سارتر: إذهب إلى بيتك ونم في فراشك كما تفعل كل ليلة، فإذا نهضت وارتديت ثيابك وذهبت إلى دائرة التجنيد فأنت تحب فرنسا أكثر من أمك، وإذا بقيت في المنزل فانت تحب أمك اكثر من وطنك.

لم يكن سارتر يتهرب من نصيحة ذلك الطالب، بل أراد له أن يتحمل مسؤولية اختياره، وبالفعل استيقظ الطالب في اليوم التالي وارتدى ثيابه على عجل ومضى ليأخذ دوره في الدفاع عن وطنه.

والهروب من الحرية قد يمارسه أكثر الناس ثرثرة عن الحرية، لكن ما أن يتاح لهم أن يكونوا أحرارا حتى يلوذوا بالفرار، لأن الحرية باهظة التكلفة حين تتحول من فكرة مجردة إلى مواقف وخيارات ومسؤولية. وحين أصدر أريك فروم كتابه الآخر بعنوان «أن تملك أو أن تكون» وهو تحوير مقصود للمقولة الشكسبيرية المعروفة «أن تكون أو لا تكون» افتضحت ظاهرة أخرى تنامت وتعاظمت في المجتمع الرأسمالي في ذروة توحشه، وهي أن الملكية تعادل الكينونة، والفقر مرادف للعدم، وأهم ما في هذه الكشوفات والحفريات التي تتداخل فيها المقاربات الأنثروبولوجية مع المقاربات السايكولوجية هو توعية الإنسان بما انتهى إليه في عصراستبدت فيه الفوضى والعدمية بمنظومة القيم، فهل الذين لا يصابون بالتخمة من فرط الامتلاك هم الذين تطاردهم فوبيا الفقر؟ وهل الأكثر ثرثرة عن الحرية وغيابها هم الأسرع في الفرار من أعبائها عندما تصبح ممكنة؟

الأرجح أن عمر الاستبداد المديد الذي يوشك أن يكون توأما للتاريخ، أفرز بمرور الزمن ماسوشية من طراز آخر، بحيث يستمرئ العبد عبوديته، ويختلط عليه الأمر بين الأسورة والقيد، فالانحراف عندما يتخطى نسبته التقليدية يتحول إلى طبيعة مضادة، تماما كما يتحول المكتسب في علم الأحياء إلى فطري وربما لهذا السبب كانت المرأة الداجنة المتأقلمة مع اختزالها إلى مجرد أنثى هي العدو الراديكالي لنساء يملكن وعيا مفارقا للسائد، وقد تكون إحدى دلالات مسرحية هنريك إبسن «بيت الدمية» بشيء من التأويل تكريسا لهذا المعنى.

إن الفرار من الحرية هو المعادل الموضوعي لتأجيل سن الرشد ليس بالمعنى العضوي فقط، بل بمعنى الوعي واستحقاق الاستقلال، والمجتمعات الباترياركية مثال على ذلك، فهي تعامل الشعوب كأبناء قاصرين ينوب عنهم الأب في كل شيء مقابل حمايتهم أو رعايتهم، لهذا فهم رعايا وليسوا مواطنين، وقطعانا آدمية وليسوا شعوبا بالمعنى التاريخي الدقيق، يقول اريك فروم في كتابه عن الملكية والكينونة، إن هاجس الامتلاك لدى الإنسان بلغ حدا مروعا بحيث يدعي امتلاك المرض، فيقول عندي صداع أو ضغط أو فشل كلوي، وهذه الامراض تصبح بفضل فائض التملك عنديات وممتلكات لا يحق للآخرين الاقتراب من تخومها. وحين استخدم الفلاسفة الوجوديون مصطلح التشييء، أي تحويل الكائن إلى مجرد شيء كان ذلك بمثابة نذير وتحذير من مرحلة يتراجع فيها الآدمي ويفقد جوهره وبالتالي يتحول إلى رقم أصم في استمارة أو تعداد ديموغرافي، وهذا ما أشار إليه الروائي ميلان كونديرا، في مقالة بالغة الأهمية عن كثافة الدولة وشفافية الفرد، فالفرد في عصر الكاميرات التي تنتهك الإنسان، بدءا من السوبر ماركت حتى الشوارع والساحات ومداخل المؤسسات، أصبح عاريا تماما حتى من جلده، ومقابل ذلك فإن الدولة تعلو أسوارها وتتضاعف كثافتها وتستخدم مصطلحات من طراز ضرورات الأمن القومي أو إباحة المحظورات لتبرير كثافتها وعدم شفافيتها. وما قاله برنارد شو ذات يوم بسخريته اللاذعة عن الذين يفرطون في الحديث عن الشرف والصدق، يصح إلى حدّ كبير على من يفرطون في الحديث عن غياب الحرية أو الديمقراطية، ففي الحالتين ثمة تعويض لفظي واستبدال للشيء الأصيل بما يشبهه، وهذا ما يفسر تهرب بعض الناس من الحرية لأنها تكشف منسوب وعيهم لذواتهم وللآخرين، وتختبر بلوغهم سن الرشد الذي يفصل الفرد عن القطيع، وقد وصفت سيمون دو بوفوار من يستشعر حريته وبالتالي سعيه نحو الاستقلال بمن يعاني من آلام لا ينفع معها أي تخدير، فالحرية باهظة التكلفة، سواء كانت اجتماعية أو سياسية، وغيابها يتيح لمن لا يقوون على حمولتها البحث عن ذرائع ومشاجب تعفيهم من تحمل كل ما يترتب على اختياراتهم ومواقفهم.

٭ كاتب أردني

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى