صفحات الرأي

الفرد المتمرد وحضن الجماعة الدافئ

 

حسام عيتاني

أمام الفرز والاستقطاب العميقين اللذين تشهدهما بلدان المشرق العربي، يبدو الالتحاق بالجماعة الطائفية والعرقية، “سفينة نجاة” وحيدة للأفراد وخصوصاً للناشطين في المجال العام.

سرعة التصنيف التي يتعرض لها صاحب أي قناعة سياسية كفيلة بردعه عن محاولات توضيح لا طائل منه لمبرراته المختلفة. تكاد تكون بداهة أن يؤيد السني التوجه العام لطائفته، حتى لو تعارض هذا التوجه مع الفتاوى التي تصدرها “المؤسسة” الدينية الرسمية، على ما هو الحال في سوريا. ومفهوم أن يوالي الشيعي المراجع السياسية الكبرى في طائفته. لا مجال للنقاش هنا ولا معنى للتساؤل عن الحيثيات التي أملت على هذه الجهة أو تلك اتخاذ مواقفها أو بناء تحالفاتها.

“الكتل” أو “الجماهير” لا تخطئ، على ما روجت ثقافة تحشيد وتعبئة هيمنت على المشهد العربي منذ عقود. أما كيف يجري التحكم بالجماهير ودفعها إلى تبني هذا الخيار دون غيره، وكيف تصاغ شعاراتها وكيف تسوَّق وتروج الممارسات السلمية والعنفية وكيف يجري اختراع هوية وربطها بضرورات تعود إلى تاريخ قديم، غالباً ما يكون اسطورياً أو مخترعاً، فهذه من المسائل التي تبقى في معزل عن فهم الجماهير التي لا يطلب منها غير أن تكون خزان غضب وعنف موجه إلى خارج الجماعة.

علم النفس بفروعه الاجتماعية وتلك المتخصصة بالتحكم بالجماعات وتطويع الفرد وتدجينه، نراها اليوم تعمل بأقصى طاقاتها. وسائل الاعلام، الرموز الدينية، الثقافة، كل ما يمكن ادراجه في “الخطاب” بمعناه العريض، يكاد صهيلها وزعيقها يسمع بالاذن المجردة: لا مجال غير الالتحاق بالجماعة، “الفرقة الناجية”، اليقين المطلق والطمأنينة الإيديولوجية التي توفرها الحشود للفرد الخائف المذعور من الآخر – المجهول – المتوحش – الدموي – الهمجي. الآخر الذي ارتكب ما لا يمكن تخيله من آثام وجرائم “ضدنا” منذ ما قبل التاريخ المكتوب، منذ تشكيل اللاوعي الجمعي في زمن كانت “النماذج الأولية” التي تحدث عنها كارل يونغ، تركض في براري النفس البشرية.

الجماعة تتخذ في أيامنا هذه شكل المذهب المقدس والمطلقات الايجابية وتنظر بعين الرأفة إلى الأفراد الخارجين عليها إلى أن يقرع ناقوس الخطر ويصدح النفير. رأفة مؤقتة ترتبط بحالات الاسترخاء والهدنة. فهؤلاء ليسوا إلا شراذم ضالة سرعان ما ترعوي وتعود إلى حضن الطائفة أو المذهب الدافئ، الغني، ويرتمون بين ذراعي الجماعة القوية. الأمثال أكثر من أن تحصى، خصوصاً أثناء الأزمات، والحرب الأهلية اللبنانية تعج بالأمثلة الصارخة لأشخاص انتقلوا من اقصى العلمانية الى صميم الولاء للزعامات الطائفية.

الحالات التي تشذ عن هذه القاعدة، سرعان ما يجد لها المتحدثون باسم الجماعة، صحافيوها وكتابها الحاليون الذين لا يدركهم الشك لحظة واحدة، والذين اخذوا مكان العرّاف والشاعر والمشعوذ، تفسيرات تليق “بعمق” علمهم واطلاعهم: المال. أس الشرور وعلتها. فمن لا يلتحق صاغراً بصفوف جماعته الأصلية، ومن يسائل دوافعها وغايات زعمائها وأساليبهم ويرى الجوانب الوجيهة في منطق الجماعات المنافسة، أو يصر على استقلاله الكامل ويقبل نبذ ذوي القربى له، شخص مشبوه في عُرف الأهل.

تبدو هنا نزعة الخلاص الفردي التي تعلي من شأنها ثقافة الاستهلاك والتسليع منظوراً اليها بعين القبيلة الخائفة. انقلاب القناعات والتجارب المصاحبة للعمر والتعرف على ثقافات مختلفة، أمور لا تقنع رجل الكهف المحتمي بنار الجماعة. وكل من يغامر بالخروج من الكهف الآمن، مأجور عميل خائن للقضايا الكبرى والمصيرية وللقيادة الحكيمة. هذا ما تردده ليل نهار ابواق الدعاية الغوبلزية بحللها الجديدة. يكفي تقليب صحف الاثارة السياسية والطائفية للعثور على الأمثلة. إذ كيف يواجه العبد المقيد بسلاسل الطائفة واليقين الفرد الحر المتمرد، المصرّ على رسم حياته ومستقبله بيديه؟

وللخارج عن الجماعة عقاب أليم، مستل من تقاليد قامت على التضامن القبلي الذي لا يحتمل الانشقاق وما يحمله من خطر على الوجود. اليوم، ورغم وجود تراث كامل يمتد من القرآن الكريم إلى الأمثال الشعبية مروراً بالفلسفة الاخلاقية، عن تقلب الفرد وحقه في شق عصا الطاعة التي يحملها زعيم الطائفة أو المذهب، إلا أن ذلك لا يكفي لاقناع الحملان الصامتة أن بقائها في أماكنها دليل موافقتها على أن تصبح طعاماً للذئاب.

موقع 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى