صفحات العالم

الفرصة الذهبية التركية للخروج من الأزمة السورية

 


محمد زاهد غول

إن المتابع للموقف التركي من الأحداث الأليمة التي تقع في سوريا يندهش من شدة اهتمام الحكومة التركية، ويتصور أن الحكومة التركية والبرلمان التركي والرئاسة كأنها جميعها تعالج أمرًا تركيًّا داخليًّا على مستوى عالٍ من الخطورة والأهمية، لكن الدّهشة الأكبر هي في التجاوب السوري غير المتعاون مع الموقف التركي الدّاعم لسوريا، والداعم لشخص الرئيس السوري بشار الأسد نفسه وحكومته ومشاريعه الإصلاحية، رغبةً من تركيا في الحفاظ على سوريا ووحدتها وصمودها وقوتها، وأكثر ما يؤسف في الأمر أن السلطات السورية تغمض عينها عن حقيقة ما يجري، وتحاول تفصيل الواقع كما تتمنى، ولا تعترف بالواقع وتستبدله بصورة خيالية ترغب أن تكون عليها الأمور، وتطالب تركيا والعالم أن يراها بعيون النظام السوري فقط، كما ظهر ذلك جليًّا في خطابات الرئيس الأسد.

ولا شك أن الثورة السورية قد تأثرت بالثورات الشعبية العربية التي انطلقت في تونس ومصر وليبيا واليمن وغيرها، ولكن هذا التّأثر ليس تأثر المقلد للثورات السابقة، وإنما تأثر المتألم الذي عانى مما عانته تلك الشعوب من أنظمتها المستبدة وسطوتها الأمنية المخيفة، واستئثارها بالمال والثروة والسلطة والنفوذ، فالشعوب العربية في الهم سواء، وقد كانت فرصة للدول العربية التي لم تفاجأ بالأحداث مثل تونس ومصر أن ترتّب أوراقها الداخلية، وأن تستجيب لمطالب شعبها العدالة في الحرية والديموقراطية والدولة المدنية التي تساوي في الحقوق والواجبات بين كل المواطنين، وأن تتجنب مزالق الانحراف عن مطالب المظاهرات العادلة، وعدم استعمال العنف ولا إدخال الجيش في محاربة الشعب، طالما أن الشعوب قد عبّرت عن مطالبها سلميًّا، وخرجت إلى الشوارع علانية وبصدور عارية تطالب بالإصلاح والتغيير والحرية والديمقراطية، لقد كان هناك فرصةٌ تاريخيةٌ للسلطات السورية أن لا تدخل تجربة الصدام الأمني والعسكري ضد المتظاهرين من الشعب السوري، وأن لا تريق الدماء السورية على الأرض السورية، على الطريقة الليبية ولا اليمنية ولا غيرها، لأن هذه الطرق مسدودة المنفذ، ولا تؤدي بالبلاد والعباد إلا إلى الخسارة والانهيار.

لقد تابعت الحكومة التركية أحداث الثورات العربية في تونس ومصر وليبيا وتفاعلت معها على قدر المساواة من الاهتمام، لأنها تتعامل مع المطالب الشعبية المحقة، المطالب الشعبية الباحثة عن الحرية والديمقراطية والدولة المدنية والدستور العادل، وبالرغم ما قيل عن تلكؤ موقف الحكومة التركية من الثورة الليبية إلا أن الموقف التركي أخذ دوره الداعم لكل المطالب الشعبية التّواقة للحرية على قدم المساواة، ولم تكن الثورة السورية لتختلف عن تلك الثّورات، بل سعت الحكومة التركية وقبل اندلاع الأحداث بتوجيه النصح للسلطات السورية باستباق الأحداث واتخاذ إجراءات تقارب مع قوى المعارضة السياسية، وطيّ صفحة الماضي وبالأخص مع حركة الإخوان المسلمين، التي اصطدمت مع السلطات السورية قبل ثلاثة عقود في مدينة حماة ومدن سورية أخرى، وبالرغم من المجازر التي قامت بها الحكومة السورية تجاه المعارضة آنذاك، فإن المعارضة دعت إلى فتح حوار جديد مع النظام منذ تسلم بشار الأسد السلطة وقبله، ولكن النظام السوري ظلّ يرفض الحوار، بل إنه حمّل الأجيال التي لم تشهد تلك الأحداث من الأبناء والأحفاد وزر ما وقع مع آبائهم وأجدادهم، ومنع عودتهم إلى بلادهم إلا بعد المحاكمة والسجن والتعذيب.

لقد كانت مساعي الحكومة التركية صادقةً وغير مخادعة لأحد بضرورة الانفتاح الداخلي السوري، وإجراء مصالحة وطنية تطوي مشاكل الماضي، وفتح صفحة جديدة من المشاركة السياسية والعمل المشترك في الإصلاح على كافة مستوياته، لقد كانت الحكومة التركية مدركة لمجريات الأمور منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وتغيّر معادلات السياسة الدولية، ولذلك دخلت بنفسها مع الحكومة السورية بطيّ صفحة الماضي وفتح علاقات صداقة متينة وتعاون اقتصادي لم يشهد له التاريخ الحديث مثيلاً، وكانت الحكومة التركية في عهد حزب العدالة والتنمية صادقةً بكل خطوة تخطوها نحو جارتها سوريا، وكانت على أتم الاستعداد لجعل المواطنين الأتراك والسوريين يشعرون أنهم يعيشون في وطنٍ واحد، وكانت تنتظر من السلطات السورية أن لا تخشى الانفتاح السياسي ولا الازدهار الاقتصادي، فحرية المواطن وراحته المعيشية من أكبر أسباب استقرار الوطن وتقدمه.

لقد تلكأت الحكومة السورية في اتخاذ الخطوات الضرورية في الانفتاح الداخلي على الطريقة التركية، وتلكأت أكثر في سماع النصائح التركية قبل اندلاع الأحداث في سوريا، وبعد اندلاع الأحداث أرسلت الحكومة التركية الوفود تلو الوفود لإجراء المباحثات ومساعدة الحكومة السورية بإتباع خطوات هامة وضرورية لوقف التدهور والشروع في إصلاح تقوده الحكومة السورية وتساعد فيه الحكومة التركية بكل إمكانياتها الوطنية والدولية، وقد كان عند الحكومة السورية رصيدٌ من الثقة بمصداقية الحكومة التركية، فقد عمل رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان على إخراج سوريا من عزلتها الدولية الخانقة في العهد الأخير من رئاسة بوش الابن، وعمل على إنقاذ سوريا من حبائل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، وعمل على إجراء وساطة عادلة بين سوريا وإسرائيل قبل حرب غزة، وأصلح من علاقات سوريا مع الحكومة العراقية بعد أن اتهمت الحكومة العراقية سوريا بدعم تهريب الثوار والأسلحة إلى العراق بعد احتلاله من أميركا، وغيرها.

ومنذ عام 2005 والحكومة التركية تساعد سوريا وتتبنى قضاياها العادلة، ومنذ اندلاع الثورة السورية عرضت تركيا إرسال لجان تركية مختصة في تعديل قانون الانتخابات وقانون الإدارة المحلية وتعديل الدستور، وطالبت الحكومة السورية بإلغاء فعلي لقانون الطوارئ، وإلغاء محكمة أمن الدولة، وسن قوانين تنظم العمل السياسي وتسمح بحرية الأحزاب وتسمح بانتقال ديمقراطي مقبول يناسب سوريا، بشكلٍ يحافظ على النظام السوري وقيادته، ولا تدعو إلى إسقاط النظام ولا قيادته، فدعته إلى ديموقراطية أشبه بالديمقراطية الإيرانية في عهد محمد خاتمي، يسمح فيه للجماهير التعبير عن رغبتها في التغيير والإصلاح والمشاركة السياسية الحرة على مستوى مجالس البلديات المحلية ومجلس الشعب وتشكيل الوزارة وغيرها من قطاعات المؤسسة السياسية الديموقراطية.

إن الموقف التركي لا يخادع سوريا ولا يداهنها ولا يحابيها، وإنما كما عبر أكثر من مسؤول تركي، فإن تركيا تنظر إلى الأحداث في سوريا على أنها أحداث داخل تركيا نفسها، والقضايا العالقة في المشاكل التركية الداخلية تكاد تكون مشتركة مع المشاكل السورية الداخلية، وبالأخص المسألة الكردية، فالأكراد في سوريا يبلغ عددهم حوالى 230000 مواطن، وهذه مشكلة تعاني منها كلا الدولتين بأشكال مختلفة، ولا تستطيع إحداهما حلّ هذه القضية دون التعاون مع الأخرى، وحل المسألة الكردية لا تتوقف على منح الجنسية أو جوازات السفر إلى عدد منهم مهما بلغ عددهم، لأن المسألة أكبر من ذلك بكثير كما يدركه النظام السوري، فهي مسألة حقوق ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية وهوية قومية ولغة وتراث وعادات وتقاليد، وقد شرعت الحكومة التركية في ظل حكومة العدالة والتنمية على إيجاد الحلول المرضية والتوافقية بين الطرفين الكردي والتركي في ظل مواطنة كاملة لكل أفراد الشعب التركي، وهذا نفسه ينبغي أن يتم في الجانب السوري أيضا، فسوريا لا تستطيع حل المسألة الكردية بمعزل عن الحل التركي والعكس صحيح.

إن سوريا أمام فرصة تاريخية قدمتها تركيا لها للخروج من الأزمة بحلول توافق عليها كافة قوى الشعب السوري دون إملاء من النظام، وبما يحفظ النظام أيضاً، وإن إضاعة سوريا لهذه الفرصة ستكلف سوريا أثماناً باهظة، ليس أقلها خسران دولة صديقة وجارة أن تكون في جانبها في أشد اللحظات والأزمات، والباب لا يزال مفتوحاً أمام الحكومة السورية والسلطات الفعلية فيه أن تسير وفق الرؤية التركية وتوافق سوري داخلي، قبل أن تأتيها الحلول من القوى الكبرى والدولية، وعندها لن يجدي عفوٌ عامٌ يصدره الرئيس، أو لجان يشكلها، لأنه في تلك اللحظة سيبحث عمن يمنحه العفو، والعاقل من اتعظ بغيره.

[ كاتب تركي mohdzahidgolhotmail.com

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى