إيلي عبدوصفحات الناس

الفضائية السورية: أوركيد وعظام

 

إيلي عبدو

لم تخرج الفضائية السورية في أدائها الإعلامي عن بقية الشاشات الرسمية التي إجتاحت بلدانها ثورات الربيع العربي. استخدمت كل ما لديها من قدرات للدفاع عن النظام ورئيسه. لكن الشاشة البعثية، ومع دخول الثورة عامها الثالث طوّرت عملها بالمعنى السلبي للكلمة، وبدل الإستمرار في سياسة الإنكار عبر تغطية الحدث بما يلاءم السياسة الرسمية صارت أقرب إلى صناعة هذا الإنكار. ذلك عبر إعتماد شبكة من البرامج اليومية تتجاهل كل ما يجري وتوحي أن البلاد على ما يرام.

مثلاً مذيعة في برنامج “صباح الخير” ضمن الفترة الصباحية، تسأل خبير الأزهار عن زهرة الأوركيد وأنواعها، أشكالها، أحجامها. ويجيبها الخبير باستفاضة أن الأوركيد هي زهرة الثلاث بتلات، إلا أن قلب الزهرة يتغير شكله من نوع لآخر، كما أن ألوانها تتنوع بين البراقة القوية والهادئة، فمنها الأبيض الناصع، الأحمر، الأصفر، الذهبي، الأخضر، البرتقالي الوردي، ودرجات البني، والبنفسجي الداكن.

 هذه حياة مفتعلة في بلد يغمره الدم.

 في فقرة أخرى يعرض تقرير قصير عن يوميات موظف أنهى خدمته الوظيفية. يسأله المذيع: كيف تمضي وقتك؟ هل تلتقي أصدقاءك؟ فيجيبه: ليس عندي أصدقاء، خلال سنوات وظيفتي كنت أمضي وقتي بين البيت والعمل. فيبتسم المذيع برضا، وكأنه عثر على نموذج المواطن الصالح الواجب تعميمه إعلامياً في هذه الظروف التي تهدد الوطن. بعدها، تعود الصورة إلى الاستديو ليبدأ الحوار حول موضوع العناد عند الأطفال ومظاهره وأنواعه، مع إختصاصية نفسية تقدم معلومات جاهزة وتعليمات مدرسية لأهالي الأطفال الذين يعانون من هذه المشكلة.

 هكذا ينهي التلفزيون السوري فترته الصباحية. لا شيء يحدث في البلاد. الناس تنتظر بفارغ الصبر التعرف على زهرة الأوركيد وكيفية التعامل مع العناد عند أطفالهم. أما الطائرات والقصف والتفجيرات فهي جزء من المؤامرة الخارجية التي تعمل “قواتنا الباسلة” على سحقها تدريجياً. إنه الانفصام بين الحدث وتغطيته. الحدث هو القتل اليومي ومناخ الحرب المستعر في البلاد وتغطيته عبارة عن حوارت حول الأزهار ومشاكل الأطفال والمراهقين. يتجاوز سياسة الإنكار التي بات يتبناها الإعلام الرسمي. بتنا في مرحلة صناعة الإنكار ليس بتجاهل ما يحدث إنما بالتأسيس على نقيضه من حياة طبيعية وهموم معيشية وإنسانية بسيطة.

 في فترة الظهر تنوع شاشة الفضائية السورية بين برامج الثقافة والدين والصحافة والمجتمع لكن بـ”نكهة بعثية”. نشاهد برنامج عن يوميات أهل الجولان بعنوان “نبض الجولان” وآخر عن الثقافة بعنوان “الركن الثقافي”.

 يستمر الحال على ذلك حتى الفترة المسائية التي تبدأ بالنشرة الاخبارية، مسبوقة بأغان وطنية تمجد الجيش السوري وسلوكه النضالي في حماية الوطن. من البديهي أن تعرض نشرة الأخبار إنجازات الجيش في “دحر الإرهابيين وتصفية عدد منهم” في مناطق متفرقة من سوريا. مستعرضة المواقف الدولية الداعمة للنظام لا سيما روسيا.

 يبقى البرنامج المنتظر من قبل مؤيدي النظام السوري هو “حوار اليوم” الذي يبث مباشرة بعد عرض مسلسل درامي. في “حوار اليوم” الضيف هو محلل سياسي أو عضو في مجلس الشعب أو سياسي لبناني مؤيد للنظام. في الأحوال كافة يتخذ الحوار منحى كوميدياً، إذ يقدم الضيوف تحليلات غرائبية لا تمت إلى الواقع بصلة، مثل تلك التي تقول أن الرئيس الأسد حسم المعركة، وقريباً سيعلن نهاية الأزمة. فيما محلل آخر يؤكد أن أميركا تسعى إلى استرضاء الرئيس السوري بعدما وجدت أن بديله إرهابيين.

لكن الكوميديا تصل في هذا البرنامج في بعض الأحيان إلى أقصى حالاتها، إذ نشاهد أحد المحللين وهو يخرج من كيس بقربه عظمة، وحين تسأله المذيعة: ما هذا؟ يجيبها: هذه عظام ثور وهي تعود إلى سلالة أمير قطر. هكذا فقد الإعلام السوري صوابه وصار يهلوس بألسنة أشخاص يطلق عليهم صفة محللين وكتاب سياسة.

 منذ فترة تبادل الناشطون شريط فيديو يظهر خطأ وقع على شاشة الفضائية السورية، خلال فترة الصباح، إذ مرت دبابة أو اثنتين خلف المنطقة التي يطل عليها استديو التلفزيون، فيما كانت المذيعة تتحدث عن انتهاء “المؤامرة” وعودة الأمان إلى البلاد.

رغم كل الجهود الإعلامية الرسمية لتضليل الحدث والتعمية عليه بروايات مضادة، فاض الواقع وتسلل إلى الشاشة البعثية على غفلة من أولئك الذين يقلّدون غوبلز بنسخة شديدة الرداءة.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى