صفحات العالممحمد كتيلة

الفكاهة السوداء “فلسطين قبل الجولان” !!


محمد كتيلة

على غير عادتها تمر الأيام هنا، بلا مودة نمر بها ومن دون رحمة  تمر بنا ، وقد لا تمر، فننسى وتنسانا ونحن في قمة الإنتظار للجهة التي سيأتي منها الخلاص، لنلقي على وجوه الضحايا نظرة الوداع وكلمة أخيرة : شكراً، لم نكن نعرف أن نموت مثلكم لتحيا الكرامة، ولو كنا نعلم منذ زمن، لجنبنا الوطن فداحة هذه الخسارات، لأنكم كنتم ستكونوا معنا، لا كما نحن معكم الان !!

تمر الأيام وتنتهي كما تبدأ، قتلى في كل ثانية، وموت مؤسف يستشرف حياة طال انتظارها ، موت شديد القسوة، ورغم ذلك  تتعلم منه معنى أن تموت حراً في الهواء المبلل بالدم لا بالندى، ولو من بعيد،  فإياك إياك أن تترك لقاتليك على قارعة الطريق،غير برد السلاسل وعتمة السجون.

عقارب الساعة تشكو بطء الوقت وثقل الصدأ، عمياء تدور على حالها، في فراغ التكتكات الموحشة، محاصرة بين زمنين، زمن الحياة التي  أرجأنا عليها كل مواعيدنا، وربما لهذا السبب تأخرت، وأخرى توقفت على أبواب الصمت اللعين وأقفاله الحديدية الباردة.. .أما الآن فكل شئ تغير وما علينا إلا أن نبدأ، وما عسانا أن نفعل في المنفى إذ تحول الوطن إلى منفى والعمر كله منفى… هنا حياتنا إجبارية، معلقة على أذيال أيامنا وما يجري هناك… الأيام تأتي ولا تأتي، يرتج فيها صدى المدافع والرشاشات الثقيلة والخفيفة بلا توقف، ولا تكفي لحمل الضحايا في القلوب التي تجمدت من هول الفظائع في خضم المأساة … تطول الأيام هنا وما أصعبها أيامهم، وكيف تعلو وتنخفض وتطول وتقصر وتنتفض أعمارهم هناك، وكيف تنقبض أحلامنا وتصغر هنا ، من شدة القصف وتفوق مشاهد العنف على الوصف هناك… من الأيام، ما أن تهل تضمحل وتختفي بخجل، ولا يبقى منها غير الآسى والوجوم على الوجوه  الساخطة… وأحياناً لا ندرك الأيام، ولا نتبين أسباب شرودنا وشرودها، وغالباً ما تأتي بلا ملامح وفي غير موعدها، لا ألوان غير السواد على سطوحها،، ولا طعم غير الرماد وما يطفو عليها  من زنخ  وروائح البارود ومخلفات القذائف… أدخنة  وأبخرة طالعة من الأجساد المحترقة والبيوت المدمرة فوق رؤوس أصحابها العزل… تمر الأيام كوجوه المسافرين في القطارات السريعة، عصية على الفهم والعقل والتصور والخيال والمخيلة، إذ لم يبلغ الترويع والتركيع والتجويع والنهب والسلب والإغتصاب إلى هذا الحد من الفضيحة المستعصية عن التوقف، إلا بسبب دنوهيبة النظام بقضه وقضيضه من أطراف الحبال المنصوبة له بعناية  وإصرارعلى أقواس النصر، في ساحات الحرية  المشتعلة بالدم… وما الغرض من كل هذه الجرائم التي ينفر منها كل ضمير حي، إلا الإذلال المتعمد والمُعتمد، بعد أن أصبح نظام الزعران كله، من رأسه إلى أرذل مما فيه ومن منه ومن  يقف معه، عارياً تماماً، وعلى مرمى نظر كل البشر الأسوياء في جهات الأرض، ولمن يشاء ومن يرضى ولا يرضى، ولمن أعياهم الخوف والذل الذي بلغوا به أدنى المستويات من الجبن والسفالة والإنحطاط… الأيام تمر، عصبية المزاج ،وقاسية على القلب وصعبة المراس… تفر من بين الأصابع كالجمر.. نهرب منها ومن صور المجازر التي لا تنتهي، ونشتهي أن يمر يوم نتأمل فيه سقوط المطر لا البشر، يوم خفيف الظل، لا دم عليه، يلتم فيه شمل الضحايا في مقبرة الشهداء، نقدم فيه البكاء والورد وتعازينا للوطن …يوم كإستراحة أوكإجازة للقاتل، ليتذكر أن له بيت وعائلة كبيرة، وأطفال ينتظرون عودته بغنائم الحرب !

 الدم يغلي ويبكي ويُعصر ويُفجر، خليط من الأجساد تعذب وتسبى وتطحن وتثقب وترمى لأهاليها  فوق ركامات مصائبها وأوجاعهاوفجائعها… تسجن وتُنفى ولا تلبى نداءات الدم ولا صيحات الجسد من أحد… وهنا لا يوجد غير صدى الألم واحتراق المدى وحقائب السفر… لا خسائر في الأرواح ولا بالممتلكات، والبيوت هانئة بما لها من طاقة إحتياطيةعلى الحياة، ودافئة دافئة جداً، وبعيدة كل البعد عن هناك… الضغط مرتفع وفوق المعدل، والمعنويات على حالها، غريبة عجيبة ،نازلة طالعة، تنوس ما بين تشاؤم العقل المريض وتفاؤل خجول يحتاج لجرأة  للوقوف مع النفس، في النظر إلى الضحايا الذين أناروا عتمتنا بدم أجسادهم وأوصلونا إلى بداية الطريق المطل على الوطن، والساكن في الرؤى والآمال الصاعدة بكبرياء على أدراج الغد…

نحتاج أيامهم هنا، نتوق إلى الحروف التي تشكل معانيها وتصك  معالم البلاد الجريحة، وتفيض بالعزم والإرادة الحرة المستمرة، لتخفيف حالة التوتر وعدم التوازن، بين فواصل نشرة الأخبار، وموعد سقوطهم على الأرض وبالآلاف منذ نزولهم إلى الشوارع في منتصف  آذار… قتلى في الصباح، وجرحى يغيبون عن الوجود عند أقدام  الفجر… قتلى في أحضان  الليل وعند العتبات، في المنخفضات والمرتفعات، وقتلى في المعتقلات والمستشقيات ،يُبعثون للحياة ولايموتون إلا بعد التعذيب مرات ومرات ، ومنهم من يموتون جماعات وأسر وعائلات من النزف والقهر وانقطاع الكهرباء والماء والهواء، ومن نقص في الخبز والسكر والملح  والدواء…ومنهم من لا يموتون إلا بعد تدريبهم على الموت وغصباً عنهم وبصعوبة بالغة الفحش والقسوة وبطرق جهنمية  يندى لها الجبين،  تستحضر إلى الإذهان وبسرعة الضوء، كل ما حدث في المجازر الكبرى والمحفورة على جدران الذاكرة الإنسانية، بإزميل الهلاك والخراب، من كفر قاسم ودير ياسين، إلى تل الزعتر وحماة الأولى إلى قانا إلى جنين، وما لم يطلعنا عليه تاريخ الأعداء الدموي .. قتلى وقتلى، يبيتون في الأزقة ومنعطفات الشوارع المظلمة لأيام وأيام، ولا يفرج عنهم إلا بعد تعهدهم بما تبقى في أجسادهم من قطرات دم، بألا يظهروا مرة أخرى على وجه الحياة، وألا يكونوا وألا يعيشوا إلا بالإكراه والإذلال، كنكرات وكما البهائم ، أو كلا شئ يذكر ومطلقاً وأبداً وغصباً عنك وعن الذين من هم معك وضدك، ومن هم بإنتظارك ومن يبكون عليك ومن لا يترحمون عليك أيضاً.

رمادية أيامنا هنا وسوداء متفحمة هناك، والغيم كالح ومالح وغريب، ولا ندري كيف هي الحياة أو كيف تمر وإلى أين تمضي هناك، في بلاد الشام، وطن القلب وعاصمة الروح.

لا شئ يثير شهيتنا هنا، والوقت المعد للصبر لا يطاق..  نعيش على وقع ما يتردد من نتف الأخبار عن الوحوش والثيران الهائجة  في كل مكان على الخارطة، كالوباء المستعصي على الدواء والأمصال أو التلاشي والذوبان في حلة العدم .

هؤلاء وما أكثرهم هؤلاء، كنا نراهم في السابق من الزمن المغرق في مستنقعات الدم وكما هم الآن، والقتل لم يكن أقل مما هو عليه الآن، ولا العذابات كانت أخف ولا أرحم في مملكة الرعب والصمت.

هناك موعدنا الأخير، لنصعد مع الصاعدين من الضحايا إلى السماء،متخففين من الشقاء وبؤس المرحلة والرحلة… منذ أن كنا على حافة الأرض والهامش من الحياة، ونحن نتعلم ونشهد، كم أعداء الإنسانية يتشابهون  إلى هذا الحد المخيف والمرعب وأكثر من ذلك ومما نرى ولا نرى … أما الأن، في ساعة الفصل الأخيرة، المشرفة على الإنتهاء بعد الإنهاك والإعياء،  لم يعد بإمكان الشعب السوري العظيم، في خضم هذا الموت، أن يستحم بدمه مرتين، بعد أن ولى زمان االلعب بمصائر البشر واستخفاف عقولهم، ولا أن تنطلي عليه  جيمع المهازل، ومنها فكاهة الأب السوداء ” فلسطين قبل الجولان ” والتي صارت بفعل نباهة الإبن إلى ” تحريرالمدن السورية كلها قبل فلسطين وقبل الجولان” ومن شابه أباه لن يرحمه الشعب ولن تظلمه النهاية … ومن يريد أن يفهم فليفهم، فهذه ساعته وفرصته الأخيرة، ومن لا يريد، فتلك مصيبته وليذهب مع الشيطان.

بطيئة هي الأيام هنا، تسير على وتيرة المنفى وما تيسر من الحنين إلى هناك.. لا خسائر في الأرواح، إلا بما يلبي نداءات ملائكة الرحمة، وبإسترخاء يبعث على الضجر ..

نمشي ولا نعرف إلى أين وإلى متى..نتوقف بلا سبب، ومن ثم نتابع المشي على عكاكيز القلب وأنصال الروح وما تبقى من النفس، إلى آخر ما يفضي إليه نهار الإرهاق والتعب.. نمشي ولا نمشي، على نهار رصاصي، كحلي المشاعر والخواطر، وتبدل الأهواء والأجواء، ومن حال إلى حال، كأحوال الأهل والوطن هناك، ويا ليتنا لم نكن في المنفى هنا، بل معهم وبينهم وفي ساحات الرقص مع القتل والدم، لإنقاذ إنسانيتنا والوطن من الظلم والهلاك.

كاتب فلسطيني يقيم في كندا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى