صفحات الثقافة

الفنان فادي يازجي ينحت المأساة السورية على الطين/ فاروق يوسف

 

 

وحشية فنه لا تنفي علاقة ذلك الفن بالمحيط، بل تكرسها باعتبارها أثراً من سلوك اجتماعي لن يُمحى بيسر. الفنان السوري فادي يازجي كان حريصاً دائماً على إعادة الفن إلى الحاضنة الاجتماعية، لذلك كانت أسئلته الوجودية تحضر من الجهة التي لا يمكن النظر إليها سوى أن يكون مصدر قلق روحي. أما أن يكون المرء سورياً في هذه اللحظة العصيبة من الزمن السوري، فإن ذلك الموقف صار يضفي على رسوم ومنحوتات يازجي هالة التنبوء التي سبقت عصرها. فتلك الأعمال التي بدت كأنها خارجة من فوهة بركان متخيل، صارت اليوم بمثابة مرجع بصري لما انتهى إليه الواقع. هل صنع يازجي زمنه الخاص الذي استطاع من خلاله أن يتلصص على المستقبل؟

في سلسلة الواحه الجدارية التي نفذها عام 2014 بمادة الطين يضعنا يازجي (1966) في قلب المعادلة التي يمتزج من خلالها ما هو فني بما هو اجتماعي في صور لا تهرب من الحكاية المأسوية السورية إلا بالقدر الذي يهب تلك الحكاية طابعها الإنساني المطلق الذي يشكل نسيج حياة، كان الفنان قد تخيلها رسماً ونحتاً في أوقات سابقة، غير أنها اليوم صارت تفجعه بصورها الواقعية. فبدلاً من كائنات افتراضية استعارها الفنان من جحيمه الشخصي حل أهله، أصدقاؤه، رفاق طفولته، زملاء مدرسته ليكونوا نازحين، مشردين، مسافرين من غير حقائب وناكثي وعود جميلة. واقع وحشي صار يهدد كوابيسه بالفناء. في رسومه كنت أشم رائحة الدم، أما في منحوتاته فقد كان هناك شيء من الندم يأسرني فأكون سواي.

يهب فادي كائناته المتحررة مضطرة من واقعها أجنحة تعينها على التحليق عالياً. عوائل كاملة تحلق من أجل أن تنسى. ينبش يازجي في الضمير الاجتماعي ليصل إلى الجرس. جرس الكنيسة المغلقة على صلواتها. لا أعتقد أننا سنصل على ظهر حمار إلى المرفأ الآمن.

يوازي الفنان بين حياة عاشها مطمئناً وهو يبشر بالموت الجماعي وبين موت عاشه افتراضياً وهو يدعو إلى الحياة الحقة. مفرداته بيتية. وهو لا يكف عن تأمل حياة لم يعشها أحد. إنه يخترع تلك الحياة الميسرة من طريق الفن، كما لو أن الفن لا يزال يمثل فعل الحلم الذي يقف في انتظارنا. في انتظار الملايين السورية التي غادرت بيوتها. «سأقرع الجرس من أجل أن تعودوا» جملة لم يقلها يازجي.

يبدو الحزن في ألواح فادي يازجي ماكراً. لا شيء منه ينبئ بالبكاء. سورية ليست هنا. أشعار القديسين لم تكتمل بعد. سيضع المرء رأسه على أقرب حجر لينام في انتظار المعجزة. مثلما كان دائماً، فإن فادي لا يضع على وجهه قناع الثوري الذي يكذب منسجماً مع أفكاره المثالية. يكفيه أن هناك عوائل صارت تقلد رسومه في الذهاب إلى ضياعها. وهو ضياع لتلك الرسوم التي فقدت قوتها الإيحائية حين تغلب الواقع عليها. سورية ليست هنا، بل هي هناك دائماً. ولكن أين يقع ذلك الـ (هناك)؟ لن يكون في إمكان الفن قياس المسافة. لن يرتجل فادي شيئاً من ماضيه ليعلق على حاضر صار يتشبه بكوابيسه القديمة. في حيرته بين ما هو اجتماعي وما هو فني لا يقف فادي مسلوب الإرادة. سورية التي غادرته لم تبقِ لديه سوى بعض اللقى الطينية.

فهل مهّد يازجي برؤاه الكابوسية لما صار على أعماله أن تعترف بواقعيته الفجة؟ هذا فنان تحاصره كائناته بمنطق مأساتها الغيبي. تخضع حواسه لحدسها فتستثير فيه نزعة التأهب لملاقاة جمال متشنج، هو في حقيقته بقايا من بلاد خفية وشعب كان مشروع تشرد دائم. يخلق فادي من الطين حكايته، وهي حكاية يمتزج من خلالها بلد يميته جماله بشعب تهلكه حسرته على ذلك الجمال الذاهب إلى غيابه. لا يفكر الفنان بما هو أكثر صلاحية للاستعمال وهو الذي يعيش منفياً في مشغله بالحي اليهودي في دمشق التي صارت عبارة عن حديقة خلفية للآخرين. لن يجرؤ أحد على سؤال يازجي عن مصير كائناته وقد صارت ضحية سوء فهم سيرافقها حتى الموت.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى