صفحات الثقافة

الفيديولوجيا البعثية

 

روجيه عوطة

لا أحد يُقتل في سوريا، هذا ما تحاول السلطة البعثية أن تثبته على الدوام. الثورة مؤامرة، بالنسبة لها، والتظاهرة فعل إرهابي، والباقي من فعلها الردعي ضدهما. ورغم أنها تواجهما عسكرياً منذ عامين، غير أنها لا تتوقف عن التكرار الخطابي أن”الأزمة انتهت” ، وأن الصور المسربة من أحداثها لا تنتمي إليها، بل أنها مفبركة في استديوات أجنبية.

فما تواجهه السلطة بكل قوتها العنفية هو المزور، المغشوش، ولا داعي للذعر منه، لأنه، ببساطة، غير واقعي. من هنا، يسأل بعض المعلقين والصحافيين، وغالباً ما يطرحون استفهامهم كحجة  تفضح أكاذيب النظام السوري: كيف يحارب الدكتاتور عدواً شبحياً، غير موجود، أليس في نهجه هذا تضارب بين الخطاب الإعلامي والممارسة العسكرية؟

 من نافل القول أن السؤال منطقي في حال الانطلاق من أبسط المعادلات العسكرية، التي تحتم حضور العدو كي تُعلن الحرب عليه. غير أن البعث خارج كل المعادلات المنطقية، فالاديولوجية الانقلابية نفسها، التي يمارسها في الحقل السياسي، يطبقها على كل المستويات الإعلامية والإجتماعية وغيرها. وكما يجمع بين المقولات المتناقضة في الخطاب السياسي، يمزج بين الأخبار والمعلومات المتضاربة في الخطاب الإعلامي، الصوري على وجه الدقة.

فالبعث، الذي يكره أي صورة لا يلتقطها هو، وجد نفسه، خلال الثورة، أمام طوفان من الفيديوات والأفلام المعارضة له. وكي يلجمها ويسيطر عليها، قرر استخدام الإعلام البصري، الذي حمّله اديولوجيته. وقد أدى ذلك إلى ظهور الفيديولوجيا البعثية في الكثير من التقارير والأخبار المصوّرة التي امتلأت بالتناقضات والأكاذيب. لكنها، بدت، في الوقت نفسه، مناسبة جداً لاستراتيجية السلطة التي تسرد القصة ونقيضها في صورة واحدة.

انتحار المخفي

وللسرد البصري وظيفة أساسية، أي الإخفاء، الذي قد يجري أحياناً على سبيل الكشف. وذلك، مثلما فعل الوزير وليد المعلم في مؤتمره الصحافي الشهير، حيث عرض صوراً وفيديوات دموية وقاسية، قائلاً أن الجرائم التي تظهر فيها ارتكبتها العصابات الإرهابية المسلحة في سوريا. وقد تبين في ما بعد أن أغلبها مصور في لبنان. فحاول المعلم إخفاء مجزرة النظام بحق المتظاهرين، وجاءت محاولته كأنها سعي إلى الكشف  عن الحضور الإرهابي في الداخل السوري. تالياً، تساوى إخفاء الحقيقة مع رفع الستار عنها، وفي هذا التساوي الخطابي فعل بعثي، لا يعيقه منطق التناقض، بل يتخطاه بصرياً.

ويتضاعف الخداع البصري عندما يكون موضوعه غائباً. فمن المعلوم أن النظام لا يعترف بالثورة، المندلعة ضده واقعياً، ويتنكر لها، نافياً إياها ومبتكراً غيابها. لكنه، وبالفعل ذاته، يبذل كل قوته الجرمية كي يقضي على هذا الغائب. بمعنى آخر، لا يخفي النظام التحركات الثورية فحسب، بل أنه يبتكر غيابها أولاً، ويسدد لها الضربات الإرهابية ثانياً. فلا تقتصر وظيفة اديولوجيته، الإعلامية تحديداً، على اخفاء الواقعي من الأحداث، بل أنها تستر الوهمي منها، بحيث تنفي واقع الثورة بوهم المؤامرة، وتكتم هذا الوهم كي تنسف ذلك الواقع.

تتضح معادلة الإخفاء الناسف في أحد الفيديوات الذي بثته “قناة الدنيا” وقناة “الإخبارية السورية” بسرديتين متضاربتين. إذ يظهر داخله رجل ملتح، مقيد اليدين، والدم يلطخ رأسه، بعد أن أردته الرصاصات جثة متروكة على أرض الغرفة. علق تلفزيون “الدنيا” في تقريره المصوّر أن الضحية هو شيخ إسلامي، قتلته إحدى العصابات المسلحة، أما “الإخبارية” فأخبرت أنه إرهابي، كان يساعد أحد القناصين على تحديد أهدافه.

نتيجة التضارب الخبري بين التلفزيونين، لا يتمكن المشاهد من تحديد هوية الجثة، وإلى من تعود واقعياً. فالصورة واحدة، على خلاف السرد الذي يأتي ثنائياً ومتناقضاً، ما يؤدي إلى تأرجح الرجل الملتحي بين هويتين: الضحية والمجرم. غير أن الفيديو البعثي،  كما سردته القناتان، لا يحسم الجهة التي تنتمي إليها الجثة، بل أنه يزيد من تأرجحها حتى يظن المشاهد أنها انتحرت.

ففي حال كان الرجل الملتحي هو القاتل والقتيل في الوقت عينه، بحسب الفيديولوجيا الرسمية، فهذا  يدفع إلى الاعتقاد أن المقتول هو الذي رمى جسمه بالرصاص كي يموت، أو يتظاهر بالموت. لذا، يثير الفيديو الثنائي شكوك المشاهدين حيال “حقيقة” الرجل المقتول، فبدل أن يختاروا هوية من الهويتين المسرودتين إعلامياً، يقرروا، وهذا ما يريده البعث، نفي الجثة، والاعتقاد أنها غير موجودة. فتحقق الاديولوجيا البصرية وظيفتها الرئيسية، أي أنها تغيّب الجثة بالقتل، ثم تخفيها بوهم الهوية، قبل أن تقتلع صاحبها من الواقع.

قتل بلا قتلى

لا يؤمن النظام بوجود القتلى في مشاهده البصرية. إذ أن العمليات العسكرية التي يقودها لا تخلف قتلى وراءها، بل أنها تقضي على الإرهابيين. وهؤلاء لا يمتلكون أجسام خالصة، مكتملة، من الممكن أن تتحلل أو تذوب داخل الصورة الرسمية. فعندما يقفز أحد الجنود البعثيين على أجساد المعتقلين في أحد الفيديوات لا تؤدي قفزته إلى إهانتهم فحسب، بل أنها تنفي وجودهم من الأصل. ذلك، لأن حركة الهبوط والصعود تُظهر الجندي كما  لو أنه يتحقق من وجود الأجساد المرمية تحت جزمته العسكرية. فهو لا يعتقد أن ثمة معارضين لقائده، أو مناهضين لنظامه. وفي حال حضروا، فذلك من أجل التخلص منهم سريعاً، والتحقق من غيابهم الذي لا يترك آثاراً جسدية خلفه.

في فيديو آخر، يظهر أحد جنود البعث مطلقاً النار من مسدسه على جثة مطروحة على وجهها في الشارع. ورغم أنه متيقن من موتها، إلا أنه يتابع إطلاق عياراته النارية، ويزيد من ثقوب الجثة المدماة أمامه. إذ يحاول التحقق من حضورها الذي يتضارب مع اعتقاده بغيابها التام. وذلك، من خلال إطلاقه الرصاصات عليها، كأداة من أدوات التأكد من وجودها ونفيها على السواء. تالياً، لا تقتصر وظيفة العيار الناري في الفيديو على قتل المواطن، أو التنكيل بجسده فحسب، بل أنها وسيلة لفحص غياب الجثة، ومضاعفته في حال كانت نسبته منخفضة.

 تصوّر الإديولوجيا البصري المجزرة الأسدية كأنها عملية عسكرية ضد أشباح، لا أجساد لهم. فحين يُقتلون، وتظهر جثثهم فجأة ً في الصور الفيديوية، يستغرب المشاهدون وجودها. لذا، كي يخفف النظام من وطأة الاستغراب، ويساويه مع الخوف، يصوّر الجثث في خطابه الإعلامي مشوهة وممزقة. فيضبط أشلائها من خلال الكاميرا، بعد أن أخضعها بالأعيرة النارية، ثم ينفيها كي يتحقق من وجودها.

تكشف هذه الاستراتيجية عن مقولة بعثية جديدة في الخطاب البصري للنظام، أي التقريب بين فعلين شديديّ التناقض، كالنفي والتيقن، وتخطيهما بفعل ثالث، هو المحو على الأرجح. بمعنى آخر، يبدو النظام في فيديواته كأنه يقتل السوريين كي يتأكد من حضورهم الشبحي، ويتيقين من وجوده بإزالة كل آثارهم بعد قتلهم.

موت نظيف

نتيجة المحو الدائم للقتيل في المشهد البصري، وإزالة آثار الجريمة داخله، لا يتوسخ الموت أو يفقد قوته، بل أنه يظل طازجاً. إذ يعود القاتل إلى صورة الجريمة، وإرادته غير ناقصة البتة، بل يشعر بحرية التصرف أكثر، فيستخدم القتلى في صور وفيديوات جديدة.

تقدر الفيديولوجيا البعثية على تزوير أي صورة خاصة، واستعمالها ضد الذين التقطوها من جهة، وضد الذين يظهرون داخلها من جهة أخرى. هذا ما أكده التقرير المصوّر عن مجزرة داريا، الذي بثته قناة “الدنيا”. إذ قبضت الكاميرا على الموتى-الأحياء، وبدأت ميشلين عازار باستنطاقهم، كما لو أنها تحقق معهم في كيفية بقائهم على قيد الصورة. تنقلت عازار بين الجثث، ساحبة ً اللغة من كل واحدة منها، قبل أن تتركها خارج إطار المشهد، أي تعيدها إلى المذبحة من جديد.

نقل النظام السوري بفيديولوجيته البعثية  حربه ضد السوريين إلى عالم من الصور، حيث يتحكم بهم كما يريد، وبالطريقة التي يختارها. لا سيما أن الصورة جزء من إيديولوجيته، فبعد انقلاب البعث على السيرورة التاريخية والمكانية، ينفذ انقلابه الأخير على الصورة، التي باتت مقفرة وقاحلة، وأكثر وحشة ً من المقبرة.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى