صفحات الناسضحى حسن

القتال الجميل/ ضحى حسن

 

 

السلاح يستقر على الكتف، البني غارق في بؤبؤ العين، الصحراء على الجسد المدفون بالأسود، ومثله مُغطّى بأخضر البدلة العسكريّة، جسد أنثى.. جسد أنثى آخر. ملامح الوجه بارزة كالشمس، والوجه الآخر يتوارى خلف القماش، تروي الأساطير “خرجت أثينا من رأس زيوس بكامل لباسها وأسلحتها، وهي تصرخ صرخات الحرب، وعرفت بأنها إلهة الحرب وحامية المدن”.

سلّطت وسائل الإعلام العالمية والعربية في الآونة الأخيرة الضوء على المقاتلات الكرديات اللاتي يقاتلن تنظيم الدولة الإسلامية، “كرديات يزرعن الرعب في نفوس الدواعش”. المقاتلات الكرديات في سوريا “حسناوات” في مواجهة “داعش”، و”داعش” تتقهقر أمام المقاتلين والمقاتلات الأكراد في كوباني. “جميلةٌ صورة المقاتلة الكرديّة”، تورد صحيفة التليغراف: “داعش تخشى النساء المقاتلات في الجيش الكردي”.

لكن للمسؤولة الإعلامية السابقة في أحد ألوية الجيش الحر بالغوطة الشرقية، سارة فاضل، رأي آخر: “ليه لما حملنا سلاح لندافع عن حالنا ضد النظام السوري، هاجمنا العالم بحجة اللاعنف والسلمية؟ على عكس المقاتلات الكرديات وتسليح الأكراد، الذي اعتُبر فرض واجب وفعل بطولة؟ كنا عم نموت ونتحارب من الناس حتى الي كانوا مع الثورة”.

لزوم العلة

لم يكن خفياً مشاركة النساء في جبهات القتال المختلفة داخل سوريا خلال العامين الماضيين، إذ نُشرَ العديد من المقاطع المصورة، والصور والتقارير الصحافية والمقالات عن مقاتلات في كل من الجيش السوري الحر، وكتائب التنظيمات الإسلامية، والفصائل الكردية المسلحة والنظام.

في حمص شكّلت عشر نساءٍ أوَّل كتيبة نسائية تنضم للجيش الحر، باسم “كتيبة بنات الوليد” قبل أكثر من عامين. كما شكّل جيش النظام السوري أول وحدة نسائية، أطلق عليها اسم “لبؤات الدفاع الوطني”، وتم تدريب 500 امرأة وفتاة، تتراوح أعمارهن بين 18 و50 عاماً قرب مدينة حمص. وفي الرقة تأسست أول كتيبة نسائية في تنظيم الدولة الإسلامية، أطلق عليها أهل الرقة اسم “كتيبة الخنساء”.

لكل هذه التشكيلات النسائية، الصيغة البصرية نفسها، أي أنَّهن مقاتلات يحملن السلاح داخل الأرضي السورية، وفي حال نظرنا إليهن بالوصف هذا، فإننا نستطيع إخراج “المقاتلات الكرديات” من متن السياق الإعلامي الرومانسي المطروح. ما يسمح بمقارنتهن مع المقاتلات الأخريات؛ فالواقع على الأرض لا يقبل بصياغة قاعدة عامة، حيث يبدو أن الأجندات السياسية تحرض على الاستثناء عن تلك القاعدة. إذ أن الكثيرين يضعون العلة في الشخص المحارب للنظام السوري، وبأنه وحده يتحمل مسؤولية تسليح الثورة السورية، أما في حالة صراع المقاتلات الكردياّت ضد “داعش”، فإنَّ التسلح أمر بطولي وفعل تحرر. إنها الإزدواجية بعينها.

وتبعاً لذلك، يصبح مبدأ العلة المرافق لتسليح المقاتلات الأكراد، ودخول قوات البشمركة للأراض السورية، مختلف عن تسلح المقاتلات أو المقاتلين في الجيش الحر. والذي لا يقتصر في تعليل رافضي التسلح له، على تغير متطلبات الظرف الحالي، بل يختلف أيضاً في أسلوب طرحه وقوله.

وعلى الرغم من أن المقاتلات الكرديات، كنّ موجودات في ساحات القتال ضد جيش النظام السوري، إلا أن ذلك لم يكن كافياً ليستأثرن على اهتمام الرأي العام ووسائل الإعلام. وكأن الفتاة ذات الملامح الحادة، والبشرة الحنطية، حاملة السلاح التي تخوض اليوم معارك شرسة ضد تنظيم الدولة الإسلامية، خرجت من الغيب.

في الغوطة الشرقية بريف دمشق تظهر 19 فتاة مسلحة في الكادر التدريبي، 18 منهن يرتدين الثياب السوداء، ملثمات ومحجبات. فيما تجلس فتاة بلباس مدني، محجبة تغطي وجهها، وهي تلقي أمام الكاميرا إعلان تشكيل كتيبة “حرائر الغوطة الشرقية في سبيل الحرية”. الفتيات لسن ضمن تنظيم الدولة الإسلامية.

ألقت أم سعيد، 34 عاماً، أثناء إعلانها عن تشكيل الكتيبة، خطاباً يحمل بشكل واضح أهداف تسلحهم “الدفاع عن النفس والمدنيين ومحاربة النظام السوري”، لكنه لم يخلُ من النَفَس الإسلامي، وإن لم يكن غريباً عن الكلمات المحكية في الحياة السورية التقليدية الإسلامية. إلا أن الوضع الراهن وتصاعد الخطاب الإسلامي المتطرف، وما يرافقه من ممارسات، قد يكون كافياً ليحيد النظر عنهن كمقاتلات يجابهن الموت يومياً في معاركهن ضد جيش النظام.

وقد أسست أم سعيد، كتيبة حرائر الغوطة الشرقية، مطلع شهر آذار/مارس 2013، وكانت قد عملت قبل العام 2011 كموظفة في قسم المحاسبة بإحدى دوائر الدولة. حازت أم سعيد على بطولة الجمهورية بالدراجات، والحزام الأسود في الكاراتيه. ونشطت في مجال الإغاثة مع بداية الثورة، وشاركت في معظم التظاهرات السلمية ضد النظام، والتي اعتقلت على أثرها من قبل قوات الأمن.

“ترتكز مهمات الكتيبة على إقامة دورات متعلقة بالإسعاف والطبابة، إلى جانب التدريب على استخدام السلاح وذلك بشكل دوري”، قالت أم سعيد. “لو فينا نطلع على الجبهات مارح نرفض هاد الشي، بس الرجال بالغوطة ما قبلو، قالولي شو ما ضل رجال لحتى تطلعو انتو. قلتلم انتو إلي وصلتونا لهون، لأنكم ما أعلنتو الشام بحالة حرب”. تضيف أم سعيد: “أنا ماني إسلامية، ما بلبس مانطو، وبدخن على الطريق، وأسست كتيبتين للشباب، وكتيبة الحرائر بتتمركز على أحد حواجز الجيش الحر مع الرجال، لكن للأسف، اليوم لا بقبلني النظام ولا الإسلاميين”.

ولأن الوقائع اليوم تحمل تفاصيل كثيرة، متناقضة، متماثلة ومتغيرة في الوقت ذاته، قد يجعل من إضافة تفصيل أو إلغائه أمراً كافياً لقلب الانطباعات وردود الفعل حولها. أي أنه من الممكن أن يكون خروج الكتيبة ذاتها “حرائر الغوطة” مثلاً، بالشكل نفسه، مع تغيير بسيط في ما يتعلق بمحاربة النظام والإستعاضة عنه بقتال تنظيم الدولة، كافياً لإبرازها إعلامياً بالشكل نفسه الذي حدث مع المقاتلات الكرديات، وحصد التوافق الجماعي على حملها السلاح.

ما لا ريب فيه، أن التمايز المبني على العرق والدين والسياسة والظرف الاجتماعي، مدعوماً بأجندات إعلامية سياسية معينة، أمر محوري في حشد الرأي العام. وذلك يشبه إلى حد ما كان سائداً في القرن التاسع عشر، زمان صعود التيارات العنصرية العرقية، أي العرق الأعلى والعرق الأدنى. وعلى هذا النحو يمكننا أن نفهم كيف أن هيئات التحكيم الاجتماعية تصدر أحكاماً كان يمكن أن تدينها سابقاً.

صور المقاتلات في الجيش الحر على سبيل المثال، ربما لا تحتوي على عناصر الاستقطاب الاجتماعي والسياسي والإعلامي، على عكس صور المقاتلات الكرديات. تعلق إحدى المقاتلات في حلب، أم محمد: “مع سيطرة الكتائب المسلحة الإسلامية على المناطق المحررة، اضطررت لوضع الحجاب. قبلها كنت أغطي وجهي وراسي، لحتى ما ننكشف من النظام. وكتير مقاتلات وناشطات صار معن نفس الشي، ومع هيك في مقاتلات بالجيش الحر بمناطق كتير، مانون محجبات ولا بغطوا وجهن”.

يقدم لنا أصحاب النفوذ ووسائل الإعلام، نماذج وخطابات وصور ضمن سياقهم الخاص؛ أجزاء من الحقائق والظروف، وكأن كل المعطيات مكتملة التفاصيل؛ ثابتة ونهائية، لينزلق المتلقي فيها. فيُقبل مناصرو اللاعنف على التسلح في ظرفه الحالي، وتُشرع كل أشكال القتال، مادامت ضد العدو المتوافق عليه. نتاج متموضع على سلبية مقصودة أو غير مقصودة، من قبل المتلقي، أو على الأقل موجّه في ظروف محددة: إنه ضرب من التكرار الذي لا ينتهي

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى