صفحات الثقافة

جهة خارج البوصلة !


خيري منصور

عندما قالت الشاعرة إديث سيتويل ان في الغابة متسعا للفراشة والنّمر، ذهبت الى ما هو أبعد من الاطار المكاني، فالحياة تتسع لكل الكائنات والاشياء ونقائضها.

وهذا سرّ جدليتها وسحر تجلياتها، وفي الثقافة شاع وهم لزمن طويل حول ما يستحق الكتابة وما لا يستحقها، وكأن الكتابة تستمد أهميتها وتفوقها من الموضوعات التي تعالجها، ونتج عن ذلك ركام من النصوص ذات القبعات الواسعة والرؤوس الصّغيرة، وهناك كتابات اساءت الى قضايا عادلة من حيث انها تتوهم انها تحاول انصافها والدفاع عنها، وقد لا تكون فلسطين في هذا السياق هي الامثولة، بل هي مجرد مثال مسبوق وملحوق. والتهرب الارادي من الكتابة عن قضايا او موضوعات تبدو هامشية بمعيار اجتماعي سائد، هو ما اعنيه بالجهة المهجورة، تلك الجهة التي حذفت من البوصلة، لصالح جهات يظن من ارتهنوا لسطوتها انها الأهم والأفعل، وهنا نتذكر للمثال فقط ما كتبه الشاعر ريلكة رغم كل هواجسه الميتافيزيقية عن الاشياء الصغيرة والتفاصيل المهملة، فهي الخيوط التي تصلنا بالأبدية وليست كما تبدو سطحية وعديمة الاهمية، وكان بعض الشعراء العرب قد تنبّهوا الى هذه التفاصيل لكنهم كالعادة قطّروها في حكمة او موعظة، مثل قول الشاعر :

( لا تحقرن صغيرا في مخاصمة إن البعوضة تدمي مقلة الاسد )

او قول آخر ان الغاب قد يتحول الى رماد من عود كبريت واحد، ولولا ما اتجهت اليه الاركيولوجيا او الحفريات المعرفية الحديثة لبقي الأهم والاكثر نفوذا ماكثا تحت السطح، تماما كما هو الحال في المناجم. وكان اول ما تنبهت اليه مبكرا في هذا السياق كتابات لسلامة موسى ووجهت بالاستنكار والتسفيه لانها تناولت موضوعات تم تصنيفها ضمن ثقافة المفاضلة في المرحلة الأدنى، ومنها ما كتبه مبكرا عن الرّقص الشرقي عندما قارن بينه وبين الرقص بمعناه الفني الدقيق، ووصف الراقصة الشرقية بالنرجسية وهي تدور حول جسدها كالنافورة ولا تكف عن تأمل هذا الجسد من مختلف زواياه واستداراته، وبعد عقود مما كتبه سلامة كتب الراحل ادوارد سعيد مقالة عن الراقصة والفنانة الراحلة تحية كاريوكا، وكان قد شاهدها اثناء اقامته او مروره بمصر في سنوات الصبا، لكن تناول سعيد للرقص من خلال كاريوكا كان تعبيرا عن فلسفة اخرى للغة الجسد وتعبيره عن الانفعالات، وهذا ما كتبه آخرون عن راقص الباليه الروسي فازلاف نجنسكي الذي كان يكتب فلسفته الوجودية بقدميه عندما يتحول جسده الى وتر مشدود، وحين رصد كولن ولسون ظاهرة اللامنتمي قرأ ما عبّر عنه نجنسكي بجسده بجوار قراءاته للفيلسوف نيتشة ولافكرافت والمؤرخ توينبي وآخرين.

اما الاكثر اثارة للانتباه في هذه المسألة فهو ما كتبه وولتر ارمبرست عن فريد شوقي كممثل عبّر عن ثقافة ذكورية في الخمسينات والستينات من القرن الماضي.

وهذا ما لم يتنبه اليه بل تعالى عنه المثقف العربي الذي بدد الكثير من الطاقة والوقت في البحث عن موضوعات وعناوين نموذجية للكتابة . ومن خلال كتابه عن فريد شوقي توصل الباحث الى مفاتيح ذهبية لاستقراء اوضاع اجتماعية وسايكولوجية سائدة في العالم العربي، العالم الذي يميل الى الاختزال بقوة تحوله الى فريسة لموضوعات كبرى وذات اشعاع فسفوري جاذب، والذي يكتفي بوصف فنان كهذا بانه بطل التيرسو او النجم الشعبي فقط.

* * * * * * *

ما كتبه سارتر عن الممثل كين، وعشرات المثقفين الانكليز عن لورانس اوليفييه يتجاوز مهنة النقد الفني المقترن بالسينما الى السايكولوجيا وحتى السياسة، وهذا ما تكرر ايضا في الكتابة الجادة عن جين فوندا خصوصا بعد فيلم تحول الى علامة فارقة هو ‘انهم يقتلون الجياد’، وعن مارلون براندو الذي اجتذب فيلماه الرؤية الان والعرّاب اقلام مثقفين بارزين، خصوصا بعد رفضه جائزة الاوسكار لاسباب سياسية واخلاقية، ولم تكن مسرحية ميللر بعد السقوط هي سيرة درامية لمارلين مونرو التي انتهت بعد نجومية ساطعة الى انتحار غامض.

يبدو ان اللاوعي الجمعي لنا كعرب يعاني من رواسب الاستخفاف بمهن معينة حتى لو زعم الوعي غير ذلك، ومن تناقلوا باستغراب ما كتبه ماركيز عن شاكيرا كانت ثقافتهم قد ادمنت نبذ مجالات معينة من هذا الملكوت، وقد يتضاعف استغرابهم لهذا عندما يقرأون ما كتبه مثقفون فرنسيون عن إديث بياف الصوت المقترن بأبهى عقود العصيان في اوروبا وربما في العالم كله.

* * * * * * * *

ما كتبه وولتر أرمبرست عن فريد شوقي كان بحاجة الى التكرار على نحو مغاير بعد ظهور فنان كأحمد زكي، طرح نموذجا مضادا للنموذج الذي ساد قبله في السينما المصرية، فهو ليس الوسيم المدلل وفتى الشاشة الجاذب لأحلام المراهقات بقدر ما هو مجرد واحد من الناس، وحين يتغير مفهوم النجم في السينما، ومفهوم الكاريزما في الزعامة السياسية فإن هناك انقلابا ما في الثقافة الشعبية والذائقة يستحق الحفر والمعاينة، لكن الثقافة المعلبة والمتعالية بل المعقمة كأطعمة المستشفى لا تجازف بالاقتراب من هذه الجهة المشكوك في جديتها، وحتى وقت قريب كان السائد والنمطي في ثقافة المقاومة ينأى بإصرار عن النوازع، ويحول المقاوم الى ما يشبه الروبوت وكأنه بلا غرائز او رغبات بل مجرد انسان مختزل الى أصبع يضغط على الزناد، رغم ان البشر يصبحون اكثر شغفا بالحياة وتوترا في لحظات الخطر، خصوصا عندما تصبح المقاومة دفاعا عن حق الانسان في الحياة، وليس فقط حقه في الموت ! واول ما ينبغي تدريب الذات عليه في حالات التمرد والعصيان على السائد الاعمى، هو التعبير عما يدور داخل الرأس وليس ما هو مكرس ومكرر ومقبول في المجتمع، لكن افعالا لها دلالات التمرد تختزل ايضا من الفكري والمعرفي الى الاجتماعي خصوصا في مجتمعات امتثالية يتحكم في انماط تفكيرها وسلوكها فقه القطعنة واسنان المشط، هذا بالرغم من ان الروح الصلعاء اذا استعرنا ما قاله يوجين يونسكو عن اللغة الصلعاء لا يهمها المشط ما اذا كان سليما او أدْرَد.

* * * * * * * * *

ان مصطلحا متداولا الان على نطاق فضائي واعلامي واسع هو المسكوت عنه أفرغ تماما من محتواه، وبعد قليل سيساء استخدام مصطلحات من العائلة ذاتها، مثل اللامفكر به او المحلوم به، لأن من ينحتون هذه المصطلحات يكابدون دلالاتها بل يجترحون هذه الدلالات، ثم يهرع القطيع الخامل لالتقاطها واجترارها بمعزل عن سياقاتها الفكرية.

ثمة اذن جهة خارج البوصلة، قد تكون الجهة الخامسة التي تهب منها عواصف الحرية والتمرد، يتجنبها من ادمنوا السير على الطرقات المطروقة والمزدحمة بآثار الحوافر !

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى