صفحات الرأي

القطيعة التاريخية وصناعة الحرية


سمير الزين

افتتح العالم العربي العام 2011 بالثورات التي لم يخيم شبحها على المنطقة قبل وقوعها، بل بدت كأنها تولد كاملة «كما ولدت اثينا من رأس زيوس»، ثورات بلا بروفات، بلا مقدمات، بلا أيديولوجيا مسبقة ترسم ملامحها، بلا توسل لنماذج أخرى من الثورات. ثورات بأساليب وأسباب محلية، سرعان ما تحولت إلى وصفة عامة أساسية، أخذت في كل مكان وصلت إليه سمات محلية.

مثلت هذه الثورات تحولاً حاسماً في روح العصر وتاريخ المنطقة، تحولاً بدا حلماً بعيد المنال قبل أشهر قليلة. لقد مضى التاريخ في الدول العربية في خطوط متعرجة، وصولاً إلى انفجار روح التغيير في المنطقة. لم تولد هذه الثورات كقوة سياسية تتحدى أنظمة الطغيان، بل ولدت كقوة شاملة للمجتمع تجتاح الطغيان. ولدت كتسونامي أخذ يقتلع أنظمة بدت لعقود عصية على الاقتلاع. إن تحولاً زلزالياً يحدث في المنطقة، ولن يقتصر هذا على اقتلاع سلطات ومفاهيم سياسية فحسب، بل سيقتلع مفاهيم ثقافية وقيم أخلاقية كرستها سلطات الطغيان، بدون ذلك تكون القشور هي التي تحطمت فقط.

لأسباب قوية تسارع التاريخ في البلدان العربية تحت أقدام الطغاة دون أن ينتبهوا لذلك، وظهرت «الاستمرارية المزيفة» للطغاة في صناعة التاريخ، الذي انعطف ليُصنع في مكان آخر، مكانه الطبيعي، يصنعه البشر الذين ألغاهم الطغيان، البشر الذين راكموا «الممارسات الخرساء» المعارضة التي أعادتهم إلى مكان صناعة الفعل الاجتماعي والسياسي والتاريخي، والذين بدوا كأنهم عادوا من العدم، ليحتلوا الميادين والحقل السياسي العام ويستعيدوا حقهم في صناعة واقعهم السياسي/ التاريخي.

عندما خرج مواطنو البلدان العربية من الخرس إلى الكلام، قالوا أبلغ الكلام، وصنعوا أعظم الأفعال، قاموا بالثورة الأكثر نقاء بالمعنى الاصطلاحي لصناعة حياة جديدة. اجتاحت ثورات الشباب تونس ومصر اللتين ألهمتا كل مكان في العالم العربي، وما يتجاوز العالم العربي، لتخلق واقعاً جديداً يعيد ترتيب المنطقة ومحيطها. ان ما يجري ليس ثورة على الاستبداد العربي الذي طال عمره أكثر مما ينبغي، ليس ثورة على مستوى السياسة فحسب، بل ثورة على مستوى القيم، هكذا تكون الثورات، فالسلوك الاجتماعي الذي كرسه ميدان التحرير في مصر يقطع مع السلوك الاجتماعي الذي كان سائداً قبل ميدان التحرير، لكن السؤال، يبقى سؤال الديمومة، لأن كل شيء قابل للانتكاس.

ثمة مجتمع عربي جديد يولد من حلم الحرية، الحلم الذي دفع الملايين إلى الشوارع في تحد لطغيان وتغول السلطات العربية. لقد دفع حلم التغيير ملايين الشباب إلى الشوارع وأصاب الحلم باقي المجتمع بالعدوى، فنزل الجميع إلى الشارع ليحولوا الحلم إلى واقع في مواجهات إبداعية للخروج من الانسداد التاريخي الذي صنعه الاستبداد في المنطقة.

قبل أشهر قليلة فقط، ظهر حلم التغيير وبناء مجتمع جديد كأنه مات إلى الأبد، لقد عمل الطغيان على تأبيد نفسه من خلال التمهيد لتوريث السلطات، بعد أن حكم لعقود طويلة. الطغيان الذي خلق واقعاً، تم تحويل السياسة فيه إلى تفاهة وأفقد الكلمات والمصطلحات معناها.

في ظل هذا الواقع الذي ظهر راكداً، نمت قوى التغيير الجديدة، القوى التي استعادت الحلم ونفذته بأدوات مختلفة، لكنها أدوات فعالة، أعادت المعاني إلى الحقل السياسي، إلى الميدان العام، حولت «الممارسات الخرساء» المعارضة إلى قدرة هائلة على التعبير وتفكيك كل أدوات وترسانة القمع التي وظفها الطغيان لقمع المجتمعات على مدى عقود، لم تتلعثم الاحتجاجات، امتلكت بلاغتها من امتلاكها المطالب المحقة التي تم انتهاكها لعقود طويلة.

أعادت الثورات الجديدة في العالم العربي نقاش الغايات ووضعته على سلم أولوياتها، لا يكفي معرفة ما يجب هدمه فحسب، بل يجب معرفة ما يجب بناءه كبديل أيضاً. ما بات واضحاً، أن القضية ببساطة، ليست وجود حرية شكلية، بل مضمون هذه الحرية. هل تكتسي المضمون الذي يصنع واقعاً جديداً، يستحق لقبه، أم تتحول القضية إلى ممارسة شكلية، تترك الأعماق خوفاً من فتح الصناديق المظلمة.

ان ما يجري في العالم العربي يشبه ما سماه هربرت ماركيوز «الرفض العظيم»، الرفض العظيم هو الاحتجاج ضد القهر والطغيان غير الضروري لحياة البشر. لا يكفي الرفض، لأنه تحتاج صناعة المجتمع الجديد بالمقابل، النضال من أجل ضرورة قصوى من الحرية، «أن تحيا دون قلق»، لا شك بأن هذا هو الحلم الذي خرج الملايين من أجل تحويله إلى واقع في العالم العربي.

تأسيس المجتمع الجديد هو على الدوام تأسيس لشبكة علاقات وحقل سياسي على أسس وقواعد جديدة. إنه تأسيس لدلالات اجتماعية وثقافية وسياسية وحتى اقتصادية مختلفة، إنه إعادة الروح إلى المجتمع الذي سُرقت روحه خلال عقود الطغيان. يمكننا، بل ينبغي علينا إنتاج عالم جديد من الدلالات. لأن المجتمع يؤسّس في كل انقطاع تاريخي عالمه الجديد، وهذا العالم الجديد يجب أن يؤسس على شبكة علاقات جديدة وعلاقات قوة جديدة ليس الاستبداد جزءاً منها، على المجتمع الجديد أن يخلق ثقافة ترذل ثقافة الاستبداد والتبعية التي حاولت السلطات تكريسها لديمومة تسلطها إلى الأبد. إن المجتمع الجديد الذي يؤسس عالم الدلالات خاصته، هو ذلك المجتمع الذي يصنع القطيعة الراديكالية، التي بموجبها ينبثق السياسي، الاجتماعي، التاريخي من داخل الشبكة الاجتماعية وعلاقات القوة الجديدة، التي عنوانها الحرية، وما يترتب عليها من حقل سياسي اجتماعي جديد، وهو ما يخلق في نهاية المطاف الإنسان العربي الجديد، الذي يصنع نفسه عبر التعميد الذي تنتجه دلالات القطيعة التاريخية، التي يحتاجها الواقع العربي اليوم أكثر من أي شيء آخر، ولأن «الأسوأ ممكن دائماً» كما يقول دوبريه، فإن صناعة الواقع الجديد، معركة طويلة الأمد، لا تختصرها لحظة الإطاحة بالطغيان، بل تحتاج إلى حماية الحرية التي تولد في لحظة المواجهة، ولكن التي يمكن الانقضاض عليها بعد زخم لحظة التحدي وتراخي إرادة من صنعوا حرية بلدانهم. لذلك لا يمكن مغادرة الميدان العام بعد احتلاله، على الجميع أن يبقى هناك، ليصنعوا حريتهم بصناعة واقعهم الجديد ويحصنوها، لتكن منجزاً نهائياً غير قابل للانتكاس.

 

([) كاتب فلسطيني

السفير

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى