صفحات سورية

القهر بالنكهة السورية

إسلام أبو شكير

في أحد مطاعم دمشق منذ أربع سنوات كان أمامي على الطاولة زجاجة ماء من نوع جديد.. نظرت إلى اللصاقة، فعرفت أنه ماء مستورد من السعودية.. طلبت من العامل أن يغيره لي بماء بقين أو دريكيش.. لم أتخيل نفسي قادراً على تجرع ماء سعودي وأنا في سوريا، على مرمى حجر من بردى، والفيجة، وغير بعيد عن الفرات والعاصي..

عندما وصلت الإمارات قبل ثماني سنوات استغربت أن أحداً لا يشرب الماء من الحنفيات. لكنني تفهمت الأمر فيما بعد، لما عرفته عن الظروف البيئية الصعبة في الإمارات.. رغم أنني ما زلت أرثي للإماراتيين الذين لم يعرفوا لذة ماء الحنفية..

في سوريا الآن أصبح الماء بلا نكهة.. لذلك يستوردون لنا ماء بالنكهة السعودية.. تماماً كما استوردوا لنا سمنة (الأصيل) ذات النكهة الإماراتية.. وكما استوردوا لنا القمح بالنكهات الروسية والأمريكية، واللحم بالنكهة الأسترالية والتركية..

كل ما في سوريا أصبح فاقداً لنكهته. لا شيء يشبه نفسه. لم يعد ثمة حرام على الإطلاق. حتى (اللفايات) استكثروا عليهن رزقاً غير كريم، فاستوردوا عوضاً عنهن (مدبرات منازل) من سيريلانكا.

ليس لسورية سوريا من معنى لديهم إلا في اللحظة التي يهمس فيها أحد السوريين بكلمة (حرية). هنا يصبح (القهر) خصوصية سورية لا ينبغي التفريط بها. هنا فقط تصبح سوريا مهددة في هويتها. هنا فقط يكثر الحديث عن نكهات سعودية وأمريكية وغواتيمالية وصومالية ومريخية مشبوهة تريد أن تفسد على القهر السوري مذاقه المر.

(الحرية) في المنطق السوري الرسمي حق لجميع البشر (الأفغان، والفلسطينيون، والعراقيون، والتوانسة، والمصاروة، وعناصر حزب الله..) باستثناء السوريين. نحن لسنا كهؤلاء كما يردد المهرجون الذين يدفع بهم الجنرالات عبر وسائل الإعلام المحلية والعالمية. نحن سوريون، نشرب الماء السعودي، ونطهو اللحمة الأسترالية بالسمنة الإماراتية، ونشعل سجائرنا الأمريكية بأعواد الثقاب الصينية، ونرتدي القمصان التركية.. لا بأس.. لكن الحرية خط أحمر (زاده احمراراً دم آلاف الشهداء مؤخراً) لا يجوز تخطيه. نحن لسنا كسوانا (يقولون)، ولنا قضايانا الخاصة (يؤكدون). يقترحون علينا جملة من هذه القضايا: تفضلوا. بإمكانكم أن تناضلوا ضد رئيس بلدية لا يعجبكم. بإمكانكم أن تناضلوا ضد شرطي مرور يتسول منكم إكرامية مقابل عفو يصدره عن مخالفة ارتكبتموها. بإمكانكم أن تتظاهروا ضد أوباما، أو عبد الحليم خدام. أو الحريري. ميشال عون حليفنا الآن، وسامحوه بدماء آلاف الجنود الذين قتلوا في الهجوم الذي قدناه ضده في قصر بعبدا. بإمكانكم أن تناضلوا ضد ناجي العطري. عادل سفر نريد أن نعطيه فرصة..

لم يبقوا لنا من سوريتنا سوى الألم الذي ذاقه المسيح على أرض سورية.. أما قيامة المسيح فجعلوها هرطقة عقابها الحصار والدهم بالدبابات..

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى