راتب شعبوصفحات مميزة

القوة الغاشمة أسيدُ الضمائر/ راتب شعبو

 

 

 

لا تفعل القوة الغاشمة بنا قتلاً وسجناً وتشريداً وإفقاراً فقط، بل تذيب كبرياءنا وتشوّه صورتنا أمام أنفسنا، فنغدو “موتى على الدروب تسير”. القوة الغاشمة تجعل ضحاياها قطيعاً من الأذلاء. أذلاء ليس فقط أمام سطوة صاحب السلطة وحضوره، بل أمام أنفسهم أيضاً. القوة الغاشمة “تدخلنا في التجربة”، تكشف ضعفنا بعدائية لا مثيل لها، وبوضوح لا تنفع معه أيّ آلية من آليات الذهن والذاكرة في حفظ توازن النفس وهنائها. القوة الغاشمة تتحدى فينا كلّ صفة أخلاقية تسند اعتزاز المرء بنفسه، تتحدى الشجاعة والشهامة وحس التضامن ونزعة التميز وقوة التمرد …الخ.

حين تنتصر نفس المرء لكرامتها في وجه القوة الغاشمة، يفقد المرء فرصة أن يتذوق طعم الكبرياء لأنه يفقد فرصته في الحياة. إذاً، ليس على ضحية القوة الغاشمة إلا أن يهجر توازنه النفسي الطبيعي وأن ينجح في أن يتوازن على خلل كي يبقى.

كيف يستعيد أبٌ توازنه النفسي بعد أن يشهد تعذيب ابنه أمامه من دون أن يجرؤ على فعل شيء خوفاً من أن يُعذَّب هو، أو يُقتَل؟ كيف يستعيد شاب توازنه النفسي وقد اضطر تحت التعذيب أو بفعل الخوف من التعذيب أن يعترف على أصدقائه وأن يتسبب لهم بمآس لا توصف؟ ما المركّب الذي يتشكل داخل نفس الأم التي تتصل بابنها فيأتيها صوت آخر يبشرها بالطريقة “الشرعية” التي سيقتل بها ابنها، وتظلّ عاجزة عن فعل شيء ويظلّ الناس من حولها على عادتهم في حياتهم؟ ما الخلل الذي حدث لإنسانيتنا وأتاح لنا أن نواصل حياة عادية، ونحن نعلم أن هناك مناطق كاملة محاصَرة بلا طعام ولا ماء؟ كيف نحمي كبرياءنا حين نترك أصدقاء وأقارب وأحبّة لنا رهن اعتقال أو خطف معرّضين خلاله للجوع والتعذيب والإهانات وربما القتل، حين نتركهم ونمضي إلى ملذات حياتنا اليومية؟ كيف يمكن أن تكون لشخص كبرياء في ظل سيطرة القوة الغاشمة؟

حين يصمت أحدنا على إذلال أحد، إنما يذلّ بذلك نفسه أمام نفسه. وحين يصمت على قتل بريء إنما يقتل في داخله كبرياءه الخاصة. نصمت لكي نعيش، لكي نبقى في عداد الأحياء، لكننا نعيش بذلك مكسوري النفس إلى الأبد. نجعل كرامتنا قرباناً لحياتنا فنعيش في ما يشبه الحياة. لكن الأسوأ أننا بخيارنا هذا إنما نمكّن القوة الغاشمة ونقلّل على أبنائنا فرصة العيش بكرامة.

القوة الغاشمة، أقصد بها القوة المنفلتة التي لا يضبطها قانون محدد، ولا تحكمها أعراف استقرّ عليها الناس الذين يشكّلون مجال عمل هذه القوة وموضوعها. إنها مثلاً قوة دولة تسيطر عليها طغمة، أو قوة تنظيم مسلّح يفرض ذاته. لا يخضع هذا النوع من القوة سوى إلى عنصرين هما: أولاً، تخضع لمزاج صاحبها أو آمرها، فهي قوة شديدة المركزية والولاء من جهة، لكنها من جهة ثانية تنفلش وتنبسط بلا حدود حتى تتغلغل في أدقّ مسامات الأفراد وتفاصيل حياتهم. ثانياً، تخضع لحدود نفوذها التي تقسرها عليها وتحددها لها قوى نافذة أخرى. فالقوة الغاشمة لا تركع إلا لقوة أشد.

يحدث لمقهوري القوة الغاشمة ما يحدث للسجناء في سجن تدمر العسكري. ففي الفترة الأولى لنا في ذلك السجن السيئ الذكر، كان يكفينا سماع صوت تعذيبٍ من باحة ما، كي نفقد الشهية على الأكل وعلى الكلام. كنت تجدنا في هذه الحالات واجمين نستشعر مدى بؤسنا ونستشعر آلام الضحية. مع الوقت اعتدنا على المزيد من البؤس والمزيد من التدجين ورخاوة الشعور وبلادة الحس تجاه الآخرين. صار صوت التعذيب يمرّ بجانب آذاننا ونحن نأكل من دون أن يترك ذلك أثراً يُذكَر. مع الوقت ينضب شعور المرء بكرامته ويُصاب بمرض يمكن تسميته “مرض المحافظة على الذات”، ويصبح في نظر ذلك الرقيب المقيم في داخل كلٍّ منا، والذي لا يمكن السيطرة عليه أو تدجينه أو التحايل عليه، شخصاً فاشلاً في الانتصار للقيم الإنسانية، شخصاً لا يحترم شخصه.

لا يقتصر فعل القوة الغاشمة على التأثير الخارجي، من حدٍّ للحريات وتقييد للسلوك، بل إن فعلها الخارجي هذا ينفذ بقوة إلى الداخل ويقتل في المرء كبرياءه حين يجعله متواطئاً مع هذه القوة ضدّ ضميره وقيمه وكرامته.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى