صفحات سوريةمنير الخطيب

الكائنات الأيديولوجية ومضامينها المليشيوية/ منير الخطيب

 

 

الكائن، بعامة، يمكن أن يكون فرداً أو حزباً أو جماعة أو تياراً أو دولة… والكائن الأيديولوجي هو الذي استلبته الأيديولوجيا التي يحملها استلاباً مطلقاً، وحولته إلى عبد وتابع ذليل لمفاهيمها ومقولاتها وشعاراتها ورموزها وأساطيرها. بالتالي، هي تعطل ملكة التعقّل عند معتنقها، فلا تعود هناك ضرورة للتحليل والتركيب، طالما أنها تقدم أجوبة نهائية وقاطعة عن كل شيء.

الكائن الأيديولوجي كائن ضَمُرت أبعاده الإنسانية والأخلاقية والسياسية، بمقدار ما تنتمي الإنسانية والأخلاق والسياسة إلى الفضاء الموضوعي العام، وبالقدر الذي تنتمي فيه الأيديولوجيا إلى المجال الذاتي الخاص. هذا الكائن عدواني بالضرورة، لأن العالم، بالنسبة اليه، قسمان متخارجان، ومن ليس في معسكره فهو في الجهة المضادة، لذا فإن هزيمة الآخر عمل يفرضه الواجب العقائدي عنده. والكائن الأيديولوجي كائن هويّاتي، يعتبر الأيديولوجيا هويّته الحاكمة، ويمكن أن يتعايش في داخله أكثر من هويّة تبدو متعارضة شكلاً، لكنها تنطلق من ماهية (إبستمية) واحدة، كأن نرى، مثلاً، المذهبية والقومية تتعيّشان معاً في دواخل الكائن البعثي، ونرى تجاور المذهبية الثأرية الحاقدة و «طوبى الأمة الإسلامية» في عالم الكائن الداعشي أو «الحزب اللهي».

يقبع، حتماً، في قاع الكائن الأيديولوجي كائن ميليشيوي، والخط الفاصل بين الكائنين «أوهن من خيط العنكبوت». تتعدد الأسباب والدوافع التي تُخرج الكائن الميليشيوي من رحم الكائن الأيديولوجي، لكن بصرف النظر عن هذه الدوافع، يمكن القول: إن كل كائن أيديولوجي بالفعل هو كائن ميليشيوي بالقوة، وهناك ملايين الأمثلة التي تظهر سلاسة الانتقال بين الحيزين.

في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي شهدت استقرار النظام الإقليمي المركوب من قبل العسكريين في المنطقة العربية، استولى القوميون واليساريون والإسلاميون على الفضاء الأيديولوجي بشقية السلطوي والقائم في الظل، فكان السياق العام حينذاك محكوماً بنمو وانتعاش الكائنات الأيديولوجية سواء كانت «دولاً» أو أحزاباً أو أفراداً… وكانت تبيع أوهام الاستقرار القائم على تعشّق الاستبداد مع البنى المجتمعية المتحاجزة والمتأخرة.

لم يشهد مناخ الاستقرار الهش والملغوم في المنطقة، قبل سقوط نظام صدام حسين، تحولاً كلياً وشاملاً من المستوى الأيديولوجي إلى المستوى الميليشيوي، إذ اقتصر المستوى الأخير على الميليشيات التي شاركت في الحرب الأهلية اللبنانية، وعلى الفصائل الإسلامية المسلحة السرية التي ظهرت في أكثر من بلد عربي. لكن، بعد سقوط نظام صدام حسين صار الحضور الميليشيوي طاغياً، ويهدد وجود «المجتمعات والدول»، منبعثاً من رحم الأيديولوجيات القومية والإسلامية، التي لم يعد بمقدورها الاستمرار من طريق الاحتماء بالقضايا «المقدسة» وممارسة الهيمنة الناعمة. فكان زوال الحاجز الصدّامي من أمام الإندفاعة الإيرانية في المشرق عاملاً مهماً في تهتك وجهها العقائدي، وانكشاف وجهها الإمبراطوري الغازي المعتمد في شكل رئيس على الحوامل الميليشيوية، ضمن المناخ الأيديولوجي الذي سيطرت عليه شعارات «مقاومة الشيطان الأكبر» و «اجتثاث الورم السرطاني الإسرائيلي»، وتمكنت من هندسة أكبر مشروعين «مقاومين» مذهبيين ومليشيويين في المشرق العربي، وهما «المقاومة» العراقية ضد الوجود الأميركي التي تناسلت منها داعش، و «مقاومة حزب الله». وهذان التشكيلان كانا الأكثر فتكاً بالمشاريع الوطنية المشرقية.

حين تنقلب الكائنات الأيديولوجية كائنات ميليشيوية، وينعدم الفاصل الباهت ما بين السيستاني و «الحشد الشعبي»، وما بين القرضاوي و «جبهة النصرة»، و «الإخوان المسلمين» وجماعة «أكناف بيت المقدس»، ويتحول البعثي العراقي إلى داعشي بيسر وسلاسة، ويتماهى البعثي السوري مع الخمينية وأذنابها المذهبية، يصبح الحديث عن مؤامرة أميركية – إسرائيلية لتقسيم المشرق وإيجاد نظام «شرق أوسطي جديد» لغواً وهذياناً منحطّين، يعكسان عطباً تاريخياً قارّاً في الضمائر والأخلاق والعقول.

* كاتب سوري

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى