صفحات الحوار

الكاتب والباحث البرتغالي ومدير معهد كامويس في باريس جْوَاوْ بينْهَارَانْدا: البرتغالية تعجّ بالمئات بل الآلاف من الكلمات العربية

 

 

باريس- محمد المزديوي

في هذا الحوار مع الكاتب والباحث البرتغالي ومدير معهد كامويس في باريس جْوَاوْ بينْهَارَانْدا، حديث عن الثقافة البرتغالية وامتدادتها، والصعوبات التي تواجهها في عالم اليوم وارتباطها أيضاً، بعدد محدود من الأسماء مثل الشاعر الشهير فرناندو بيسوا.

ونتوقف معه، على درجة الحضور العربي في هذه الثقافة، خصوصاً في  العصر الوسيط، حين كانت الأندلس منارة للمعرفة والعلم.

تترأس معهد كامويس Camoes في فرنسا، ونريد أن نعرف ما هي وظيفة المعهد، وما هي طبيعة انشغالاتكم؟

أعمل مديراً لهذا المعهد الذي يوجد مركزه الرئيس في لشبونة، وهو معهد، يشبه في بعض مظاهره معهد غوته وغيره، وتموّله وزارة الشؤون الخارجية البرتغالية، ويأخذ على عاتقه عبء تدريس اللغة البرتغالية في فرنسا، خاصة في الجامعات التي تتضمن مراكز بحث تتعلق باللغة البرتغالية. ويُنسّق المعهد مع بيت البرتغال في الحيّ الجامعي الدولي. كما أنه يعمل على نشر الثقافة والأدب البرتغاليين. من حيث التعريف بالكتاب البرتغاليين وعقد لقاءات لهم مع الجمهور الفرنسي، وأيضا التنسيق مع مؤسسات أخرى، من بينها مؤسسة كالوست كولبنكيان، للتعريف بواقع الفن التشكيلي البرتغالي. كما أن معهد كامويس يهتم بأشكال التعبير الأخرى، كالغناء والموسيقى والمسرح. ولا يدّخر جهدا في الانفتاح على الشتات البرتغالي أو الفرنسيين المنحدرين من أصول برتغالية والاستفادة من طاقاتهم.

كيف تفسّر أن الكثيرين من غير البرتغاليين لا يعرفون عن آداب وفنون البرتغال سوى فيرناندو بيسوا؟

ليس من السهل الإجابة، ولكن اللغة حين نترجمها تصبح أكثر شمولية…وبيسوّا كان يمتلك لغة كونيّة وأعتقد أنه حين تناول المشاكل المعاصرة للعالَم الحديث وتشظّي الكائن البشري، تحدثّ عنها بطريقة عبقريّة، وهو ما جعل منه عبقريّ الأدب. وفيما يخص الفنون الأخرى، يجب استحضار السينما البرتغالية، خاصة مع المخرج مانويل دي أوليفيرا، ولكنه لم يترك، من بعده، تلامذة (مريدين)، لأننا في البرتغال ليست لدينا هذه الطريقة في العمل، والجميع فرديون، والمبدعون أنانيون بشكل مُفرط، وبالتالي فمن الصعوبة العثور على مدرسة.. وحتى حين نتحدث عن أنصار التحديث في البرتغال، يكتُبُ بيسوا: “نشترك معا في إصدار مجلة “أورفي”، ولكننا لا نُشكّل أي مدرسة، وبالتي فكل واحد منّا يعمل بصورة فردية دون انتباه لما يفعله الآخَرون”. وفي نفس الوقت يقول الرسام البرتغالي الكبير الراحل أماديّو دي سوزا كاردوزو، ربّما، من دون أن يطّلع على قولة فيرناندو بيسوّا: “أنا لا أنتمي إلى أي مدرسة، فأنا فنّان انطباعيّ ومستقبليّ futuriste وتكعيبيّ.. أنا كلّ هذا في نفس الوقت، ولا أشكّلُ أيّ مدرسة مع أيّ كان…” وهذه طريقةٌ مهمّة جدا في فهم الثقافة البرتغاليّة، ولكنها أيضاً تعبّر عن صعوبة الثقافة البرتغالية في الوصول إلى تأكيد ذاتها، لأنه من الصعوبة الوصول إلى خلاصات واستنتاجات.. ولكن إلى جانب بيسوّا، يمكن العثور على آخَرين، مثل جوزي ساراماغو أو أنطونيو لوبو أنتونيس، أو الشباب، لأن ثمة أسماء معروفة ومهمة في الأدب، كما هو الحال في إسبانيا وفرنسا، وأيضا في مجال السينما، التي تتميّز بوضعية متميزة، من دون أيّ ادّعاء، ولا نُزوع تجاري، الزمن الداخلي فيها مُوسّع جدا كما لو أننا نوجَدُ في عالَم آخَر، ما قبل-صناعيّ. لدينا مخرجون سينمائيون مختلفون، كميغيل غوميز، الذي أخرج فيلم “ألف ليلة وليلة” مثل حكاية، كي يتطرَّقَ للمجتمع البرتغالي في زمن الأزمة ومن خلال كل تعقيداتها، وهناك أفلام هجائية وهزلية، أو أفلام نقدية ومُرّة وعميقة وقاسية كما هو الشأن مع المخرج بيدرو كوستا. المخرج أوليفيرا كان إنسانا من القرن التاسع، إذ يمكن أن ترى في أفلامه مَشْهدا لعجلةِ عربةٍ خلال خمس دقائق، وهو ليس زمن الحداثة، كما أنه كان إنسانا مُحافظا. بيدرو كوستا يسير في اتجاه معاكس، حيث البحث عن ما هو هامشيّ، لأنه يعمل، بشكل خاص، مع المجموعات السوداء، التي قدمت إلى البرتغال قبل الثورة، من أجل المساهمة في أعمال البناء. ففي الوقت الذي كان فيه البرتغاليون يتدفقون على فرنسا ودول أخرى، كان السود، المنحدرون من المستعمرات يصلون إلى البرتغال. أبطال أفلامه من هذه الجماعات. وهو ما يوحي، أيضا، بأنه يتناول زمناً غيرَ زمننا، كذلك فعل ميغيل غوميز في أحد أفلامه المحرّمة حين تحدّث عن الماضي الكولونيالي البرتغالي في الموزمبيق. أي الحديث عن الماضي.

ويوجد خطّ آخر شمولي وكونيّ، هو الفن الغنائي الموسيقي، ثمّة الفادو Fado، كتعبير غنائي تعرّض لبعض الاستهجان وسوء الاستقبال قبل الثورة، وكان يُنظَر إليه، من الناحية السياسة، باعتباره مناصرا للدكتاتورية.. ولكن الأمر فيه بعضُ الظلم، لأن سالازار ونظامه استخدما هذا الفن. ولكنه استخدامٌ يشبه الاستخدام الذي نفعله، الآن، مع كرة القدم، التي تصلُحُ مع كل الأنظمة السياسية والدينية. ولكن موسيقى الفادو كانت تتضمن حقيقة جوهريّة بدأنا نتفهمها، الآن، وهي أنه يصعب علينا العثور على واحدة مثل مغنية الفادو أماليا رودريغيز، ذات الصوت الفريد. ما أريد أن أقوله هو أن الفادو وكل التحولات وأشكال التحديث التي عرفها إلى أن وصل إلى وُورْد ميوزيك، ساهَم كثيرا في التعريف بالثقافة البرتغالية، لدى جمهور عريض.

ويوجد أيضا اتجاه آخر يتمثل في الهندسة المعمارية. وإذا كان المعرض الذي كُرّس للرسام أماديّو دي سوزا كاردوزو (ولد سنة 1887 ومات بالإنفلونزا الإسبانية 25 أكتوبر/تشرين الأول 1918)، في متحف غراند بالي، والذي نظمته مؤسسة كالوست كولبنكيان، قد انتهى قبل أيام قليلة، فإن “مدينة الهندسة المعمارية والتراث”، وبمناسبة الذكرى الخمسين لمؤسسة كالوست كولبنكيان (1965- 2015)، تقترح، في إطار تعريفها بالمعماريين البرتغاليين (من البرتغال وخارجه)، “نظرة عن نصف قرن من التفكير والإنتاج المعماري البرتغالي”، من تقديم الأكاديمي إدواردو لورينسو. وهي مناسبة للتعرّف على لورينسو، باعتباره، واحدا من أكبر مفكري البرتغال، وقد أقام خلال أربعين سنة في فرنسا، ودرّس في جامعة رانس، وكتب عن البرتغال، من “زمن الاكتشافات إلى الآن”، وعن زمن الإمبراطورية وخاصة الإمبراطورية الخامسة في البرتغال، كما كتب كثيرًا عن فيرناندو بيسوّا وله كتابٌ مهم، يُعتبر مرجعاً، عن “متاهة الصوداد”. ويمكن للجمهور مشاهدة فيلم وثائقي قصير يُقدم هذا المعرض، يقول فيه: “لدينا نزوعٌ نحو الكونيّة، لكن ليس مثل الإنجليز وباقي الشعوب الغربية، ولكنه مع ذلك فهو نزوعٌ نحو الكونيّة”. ومن بين هؤلاء المهندسين المعماريين يمكن أن نعثر على رائد، ولو أنه كما قلت لك من قبل، لا توجد فكرة المدارس لدى البرتغاليين، وهو إدواردو سُوتُّو دي مورا، وهو حاصل على جائزة بريتزكر Pritzker سنة 2011، المعادلة لجائزة نوبل، وثاني البرتغاليين الفائزين بالجائزة إلى جانب ألفارو سيزا Alvaro Siza، الذي ينهمك منذ عشرة سنين على تشييد كنيسة في البرتغال لكن تواجهه مشاكل رهيبة مع رجال الدين حول تصوّر البناية ومواد البناء. والطريف أن البرتغال هو البلد الوحيد في العالم الذي حصل فيه اثنان على الجائزة ويقيمان في نفس المدينة، بل وفي نفس المبنى.

إلى جانب العملاقين يوجد معماريون شباب لامعون وأصلاء، نذكر منهم الأخَوَين البرتغاليين فرانسيسكو كْزافْيي ومانويل روكا ماتيوس، اللذين نجحا بالفوز في مسابقة وضع تصميم وتشييد المركز الإسلامي والجامع الكبير في مدينة بوردو الفرنسية (سيكون أكبر مركز ديني في المنطقة ككل، وسيكلّف 24 مليون يورو، على مساحة 12 ألف متر مربع، وسيكون بالإمكان استقبال أكثر من 4000 شخص)، بعد أن نجحا في تشييد تصميم فندق باذخ في دبلن. ويتميز تصميم بوردو بكونه حداثيّاً ولكنه يُراعي الخصوصية الإسلامية، وخاصة أجواء وطقوس الجزيرة العربية.

المهم هو أن المعمار الهندسي البرتغالي اليوم يثير فضول وإعجاب الكثيرين في العالم، خاصة “مدرسة بورتو”. أبتسم، الآن، إذْ قلت لك من قبل بأنه لا توجد مدارس في البرتغال. ويوجد في هذا المعمار كثير من التواضع إذ توجد في شمال البرتغال كثيرٌ من المشاعر المتوسطية، بسبب الحيطان البيضاء والتي لا تتضمن نوافذ، وهو ما يحيل إلى المدن العربية، كما يمكن لك أن تراها في لشبونة وفي الجنوب (انعكاس عقلية المكان على المعمار)، وكما ينعكس أيضا على الأفلام.

وفي ما يخص الفنون التشكيلية، فأنا مختص بهذا الجنس الفني، فقد نظمنا هذا المعرض (20 مارس/آذار – 18 يوليو/تموز)عن الفنان أماديّو دي سوزا كاردوزو، وأكاد أقول إن قَدَر هذا الفنان الكبير هو قَدَرُ البرتغال. كان، على نقيض زملائه البرتغاليين، فنّانا ثريا، من عائلة محافظة وكاثوليكية وملكيّة (وقد كنا تحت الجمهورية!) ولم يُعرَف عن أفرادها امتلاك علم ومعرفة، قَدم إلى باريس وفعل كل ما أراد. كانت لديه الحرية التي لم تكن للآخرين، وكان بالغ الذكاء. وظل كاثوليكيا وملكيّا، وكل الاتجاه الحداثيّ في الفن والأدب البرتغاليين ظل ملتبسا حول الموقف من الجمهورية (لم يكن يحبّ الجمهورية، لأن الجمهورية البرتغالية الأولى كانت كارثة على الشعب البرتغالي). وإذن فمعظم الثوريين في الفن كانوا محافظين أو لا مبالين من الناحية السياسيّة.

حتى الشاعر الكبير فيرناندو بيسوا لم يكن ثوريًا ولا جمهوريًا! أليس كذلك؟

فيرناندو بيسوّا كان بالغ الالتباس في الأمر، فقد كتب قصيدة رثاء بعنوان “إلى الرئيس الملك” بُعيْدَ مقتل الرئيس البرتغالي سيدون بايس، وهو رئيس قبل-فاشيّ (1918)، وصل للسلطة بواسطة انقلاب عسكري وقتل أيضاً، بعد سنة من حكمه، حكم البرتغال من على ظهر فرسه والحشود تتبعه وتصفق لخطاباته. ولكنه بعد استيلاء سالازار على السلطة احتقره بيسوّا، وعاب عليه ريفيَّتَهُ وتعلقه الشديد بالكنيسة، ولم يحبّ فيه نوعية الديكتاتور “غير الاستيتيقي”، وكتب بيسوّا عنه شيئا لا يمكن لأحد غيره أن يكتبه: “أنا ملكيٌّ، ولكنَّ أفضلَ النُّظُمَ السياسية للبرتغال هي الجمهورية”، أي أنه يقول الشيء ونقيضه. وقد ظلّ الرسام أماديّو، رغم إقامته الفرنسية، في باريس وفي بروتاني، شديد التعلق ببلدته البرتغالية (حين أكون في البرتغال أحنّ إلى باريس وبروتاني، وحين أكون في باريس أشعر بالحنين إلى بلدتي في البرتغال). وما يميز أماديو، هو تعدّد الوجوه التي يعبر عنها فنّه، الذي كان ملتقى كل التيارات الفنية في القرن العشرين، وقد كان صديقا لعظماء عصره من موديغليانو وبرانكوزي والزوجيّ روبرت وسونيا دولوناي وغيرهم. وظلّ رافضا لكلّ تصنيف، بل استمرّ يدافع عن فن خاص به، يتموقع ما بين الحداثة والتقليد، ما بين باريس والبرتغال. ولكن قَدر هذا المُوازي والندّ لفرناندو بيسوّا استثنائيٌّ، إذ رغم أهميته وأهمية فنّه، لم يطلع الجمهور العالمي على فنه، بشكل يليق به، إلا مؤخرا، خاصة في المعرض الباريسي، الذي زاره أكثر من 73 ألف زائر، رغم الظروف الصعبة التي مرت بها باريس، من حيث الاعتداءات الإرهابية والفيضانات ثم الاحتفال بعيد 14 يوليو/تموز وما استتبعه. الرقم، بالطبع، ليس كبيرا حين نقارنه بفنانين آخرين كبيكاسو وفيلاسكيز، ولكن بالنسبة لفنان كان مجهولا، فثمة نوع من الرضى، خاصة أنه من الناحية التجارية يصعب بيع لوحاته، التي تحتفظ مؤسسة كالوست كولبنكيان بثُلُثَيْها، كما أن متحف الفن الحديث بشيكاغو يمتلك بعضا منها، وبالتالي سيكون غائبا عن سوق الفنّ العالمي الرأسمالي، وهو ما سيقلل من الحديث عنه.

على أي حال، وبسبب أقدار هذا الفنّ، فلن يكون أماديو هو حامل لواء الفن البرتغالي ولا الذي سيساهم في التعريف به وتسويقه في العالم. وهو العكس من الأدب. إن علينا أن نعيد كتابة تاريخ الفن التشكيلي البرتغالي ولكن الباحثين كسالى.

يستفزني سؤالٌ عن دور الشتات البرتغالي في التعريف بالثقافة البرتغالية، خاصة أن الهجرات البرتغالية كثيرة. في بدايات القرن العشرين، ثم بعد وصول الدكتاتور سالازار للسلطة…

كانت توجد عندنا في البرتغال مِنحٌ للدراسة والإقامة استفاد منها طلبة وفنانون برتغاليون في نهاية القرن التاسع عشر حتى العشرينيات من القرن العشرين. أماديو لم يستفد منها لأنه كان ثرياً، بينما الآخرون من الذين استفادوا منها كانوا فنانين طبيعيين وانطباعيين متأخرين جدا ولم يفقهوا الثورات الفنية، ما عدا أماديو وبعض زملائه، الذين ظلوا بالبرتغال. وما بين سنوات العشرينيات والستينيات من القرن العشرين كان النظام منغلقا على نفسه، وكان يسمح لبعض الفنانين بالمشاركة في المَعارض العالمية، وكانوا مصابين بانفصام الشخصية، فكانوا يستفيدون مما يرونه ولكنهم كانوا يقدمون للنظام نوعا آخَر من الفن. فكان نفس الفنان يمتلك وجْهَيْن. وبعد ظهور مؤسسة كالوست كولبنكيان قُدّمتْ مِنحٌ للفنانين. في سنوات 1959 و1960، بدأت حرب البرتغال في إفريقيا كما بدأت الهجرة البرتغالية إلى أوروبا خاصة فرنسا وألمانيا، وفي هذا الوقت ظهرت الهجرة الفنية، ليس لسبب اقتصادي، وإنما أيديولوجي وهروب من النظام ومن الحرب وبحث عن الحرية الإبداعية. فالتحق الفنانون البرتغاليون بباريس وميونيخ ولندن، بفضل المِنَح. وكما هو شأن المهاجرين الاقتصاديين فقد ظل هؤلاء الفنانين بعيدين عن الأوساط الفنية الفرنسية. ظلوا يعيشون فيما بينهم ويُصدّرون إنتاجاتهم الفنية إلى البرتغال، إلاّ روني بيرتولو René Betholo وزوجته لورد كاسترو Lourdes Castro، اللذين أسسا، قبل انفصالهما، مع فنانين من ألمانيا وبلغاريا، مجموعة اسمها KWY (الأحرف الثلاثة التي لا توجد في الأبجدية البرتغالية).

الجميع في البرتغال ومستعمراتها يتحدث عن كلمة “صوداد”، نسمعها من البرتغالي العادي في شوارع باريس، كما نسمعها في غناء الراحلة الكبيرة “سيزاريا إيفورا”، من دولة الرأس الأخضر.. فما هو تعريفكم للكلمة، وهل لها علاقة بحزن البرتغالي الذي أضاع إمبراطورية كبيرة، وأصبح مُحاصَرا من البحر ومن إسبانيا؟

أنا أتصور أنّ كلّ الشعوب لها هذا الشعور، وهو قريب مما كان الإغريق يطلقون عليه اسم الحنين. تحضُرُني قولةٌ لروائي برتغالي يقيم في أميركا، يقول فيها: “الجميع يعرف نفس الشعور، لكننا عثرنا على كلمة أقوى مما عند الجميع للتعبير عنه”. هذا الشعور صوب وطننا ومسقط رؤوسنا الذي لم يُشبَع، وهو شبيهٌ بما قاله أماديو، من قبل، بأنه حين يكون في باريس يحنّ إلى البرتغال وحين يكون في البرتغال يحن إلى باريس وبروتاني. وتحضُرُني ظاهرة برتغالية تشبه، بالتأكيد ظواهر المغاربيين هنا في فرنسا. فالمتقاعدون يقولون لك سنغادر فرنسا إلى بلداننا الأصلية، لكنك تجدهم في كل مرة يعودون إلى فرنسا.

ولكن ما أشدد عليه هو أن “الصوداد” ليس دائماً  إحساساً سلبياً، بل هو إحساس بإعادة البناء، الرغبة في العودة، كما عودة عوليس في الأسطورة، هي إرادة الكفاح من أجل العودة. إذا فصوداد ليس فقط البكاء أو الحزن على ماضٍ ذهبي، بل هو أيضا الكفاح من أجل عودة مظفرة، ربما هي عودة مادية مريحة للمُهاجِر الاقتصادي البرتغالي، ولكنها بالنسبة لي، تحقيقُ شيءٍ مَا للثقافة البرتغالية في فرنسا يعود بالنفع على بلدي.

وربما كان التحسر على الزمن الإمبراطوري حاضرا في أذهان النظام القديم، الذي كان يُدرّس التاريخ باعتباره مُتوَالية من الانتصارات، عدا هزيمتنا الكبرى في القصر الكبير بالمغرب (رغم أنها كانت معركة بطولية خسرها الملك الشاب البرتغالي المتهور، رغم تحذيرات خاله الإسباني الذي سيؤول إليه الحكم بعد ذلك..)، وعودة الملك سان سيباستيان، يوماً، كما روّجت لها الإمبراطورية البرتغالية الخامسة. إذن فصوداد، هنا، تعني، أن يعود، ليس عبر حضور فيزيائي، بل روحي. وهو تحقق روح القدس. فقد حضر الله مع اليهود وحضر ابنُهُ مع المسيحيين، ثم سيأتي روح القدس ليشمل جميع البشر.

سؤال أخير، لا بدّ منه، ما الذي تبقَّى من الحضور العربي الإسلامي الطويل في البرتغال؟

كثير من الأشياء. اللغة البرتغالية تعجّ بالمئات بل الآلاف من الكلمات العربية أو التي تعود أُصُولها إلى العربية. كنتُ قبل أيام مع زميل تركي، فاستخدم تعبير “إن شاء الله”، ونحن في البرتغال لا نزال نستخدم تعبير إن شاء الله (تُنطَق أُوشَالا). الكثيرون، الآن، لا يعرفون أصل هذا التعبير، الذي استخدم حتى في زمن محاكم التفتيش، ولم يدخل أحدٌ بسببه إلى السجن. ولكن البرتغال يتميز، كما توصّل إلى ذلك الجغرافي أورلاندو ريبيرو (1911- 1997)، صاحب كتاب “البرتغال المتوسطية والبرتغال الأطلسية”، بوجود منطقتين مختلفتين (برتغالان)، البرتغال الأطلسية والبرتغال المتوسطية.

الوُجود العربي، في جنوب البرتغال، خاصة مدينة مارْتُلة، لا يزال حاضرا في المعمار وفي الطباخة وغيرهما، كما هو حاضر في سحنات الناس.

ولكن، خلافا، لما أنجز في العديد من الدول التي كان للعرب والمسلمين فيها حضورٌ كبير، فإن البرتغال لم تبحث بما يكفي في تاريخها المتعدّد والخصب، وهذا ما يتوجب القيام به في المستقبل.

مواهب فردية

بعد انتصار الثورة البرتغالية، لم يَعُد ثمة من مبرر لوجود سوق الفن البرتغالي خارج البلاد. ولكن الظروف التي أعقبت الثورة كانت محبطة للآمال، إذ إن سياسة التأميم أدت إلى هروب رجال الأعمال إلى بلدان الجوار، إسبانيا وفرنسا والبرازيل، وقضت على رواج السوق الفنية، فأغلقت كثير من الغاليريهات أبوابها. صحيح أن البرتغال شهدت، خلال هذه الفترة، معارض فنية كثيرة، ولكن عقلية ما بعد الثورة، وبوحيٍ من النزوع “الديمقراطوي”، كانت تسمح لكل من يدّعي الفن بالمشاركة على قدم المساواة مع فنانين موهوبين، فاستمر هذا الجفاف الفني إلى أواسط الثمانينيات من القرن الماضي. فظهرت مواهب عديدة في إسبانيا وفرنسا، ولكنها ظلت فردية، كما رأينا من قبل مع الرسام  أماديو، وكما تُعبّر عنها الطُرفة الشهيرة، فقد دُعِيَ أماديّو لحفلة أقامها الرسام دولوناي، وحين دقّ على الباب، واستقبله دولوناي وكان لا يعرفه، قدّم أماديّو: نفسه: “أنا أماديو الرسّام البرتغالي”.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى