صفحات سورية

الكلمات وظلالها والعنف في الخطاب الرسمي السوري


عبد الحكيم أجهر

ثلاثية تقف مقابل ثلاثية، الواقع والحقيقة والتاريخ يقفون مقابل، الظل والوهم والعنف. هذا التجابه بين الثلاثيات يلخص واقع الإعلام السوري وذهنيته. فعلى مدى عقود اعتاد الخطاب الرسمي السوري الذي تنطق به وسائل الإعلام و تصريحات المسؤولين، على مبدأ أساس هو إنكار الحقيقة/الواقع. وفقاً لهذا الخطاب لا يوجد أزمات في سورية، لا اقتصادية ولا سياسية ولا مؤسساتية ولا تعليمية ولا صحية ولا فساد…… لم يُدرّب أصحاب هذا الخطاب أنفسهم على الانخراط في علاقة مع الحقيقة، بل طالما لجأوا إلى إنكار أو تجاهل أي حدث يمس واقع أداء رأس السلطة و الأجهزة الأمنية.

جاءت أحداث درعا في آذار 2011 صادمة للنظام السوري الذي لم يكن يتوقعها إطلاقاً، إذ طالما اعتبر نفسه مُحصّناً بأجهزة أمن قوية وبأيديولوجيا الممانعة. لأول مرة يواجه النظام حقيقة ساطعة وحاضرة لا يمكن إنكارها، الأمر الذي اضطره للاعتراف بها، إلا أن اعترافه لم يكن صريحاً ولا شفافاً، إنما جاء مصحوباً بظلال من الكلمات التي تهيمن على حقيقة الحدث وتشوهه في الوقت نفسه. في الخطاب الأول اعترفت بثينة شعبان على خجل بتمرد أهل درعا ولكنها أرفقته بالكلمة الظل (المندسين). جاء بعد ذلك خطاب بشار الأسد في مجلس الشعب ليكون خطاب ظلال بامتياز، حيث توسع بالظل ومدّه ليحجب الحقيقة بطريقة شبه كلية، أكثر مما فعلت بثينة شعبان. ارتد خطاب بشار الأسد إلى الطريقة التقليدية في الإنكار وأضاف إلى ذلك بدائل أخرى من الكلمات الظلية، مثل قوله: إن سورية تتميز بوحدتها الوطنية وتماسكها، واستخدم كلمة (فتنة) عدة مرات لوصف ماحصل، وهي من أكثر الكلمات استخداماً من قبل الفقهاء وامتلاء بمعنى الظل. إذن ليس هناك معارضة وتظاهرات بل فتنة، والشعب السوري وقيادته متحدان ومتفقان على الإصلاح الذي تأجل بسبب الضغوط والمؤامرات. ولعل أكثر ماجعل خطاب مجلس الشعب يحوم في الظلال هو تجاهله للحقيقة الكبرى في تعريف الإصلاح بطريقة محددة وواضحة. لقد ذكر كلمة الإصلاح وضرورته ولكن بطريقة عامة خالية من الدقة والمضمون، وأرفقها فوراً بظل آخر هو ضرورة عدم التسرع في إجراء الإصلاحات، الأمر الذي أجهض ما لم يُقل بعد، أو طـــمس ماهو مطمــــوس أصلاً.

والإصلاح السياسي بالنسبة له قابل للتأجيل دائماً (لأنه لا يرتقي إلى ضرورة) تأمين طعام للأطفال (وكأن سورية في حالة مجاعة). الإصلاح السياسي ضروري ولكن بشروط، أن لايحصل تحت ضغط خارجي ولا تحت ضغط داخلي، وأن لايكون متقدماً على الوضع الاقتصادي، وأن لا يكون امتداداً لموجة هبت على المنطقة مثل الانتفاضات العربية. ولكن في الوقت نفسه سورية دائماً مستهدفة وهي دائما تحت الضغوط و دائماً في وجه المؤامرة، كما يقول الخطاب ذاته.

الظلال في هذه الكلمات تصبح معتمة جداً، لدرجة لم يعد من الممكن رؤية شيء سوى أن الإصلاح (الافتراضي) الذي تأجل من عام 2000 حتى انتفاضة درعا يمكن أن يبقى مؤجلاً إلى الأبد. لقد أعلنت هذه الظلال منذ البدء عدم النية بإصلاح جدي في سورية. في الوقت الذي أسهب الخطاب في الحديث عن تفاصيل مؤامرة افتراضية كبيرة تستهدفها.

ليس مهماً هنا أن نبحث عن البنية النفسية والذهنية للنظام وعدم جاهزيته أو عجزه عن الإصلاح، ولكن مايعنينا أكثر هو تناول الخطاب من زاوية الحقيقة والظل، وصناعة الوهم اللفظي وما يترتب عليه من ممارسة للعنف.

من خصائص خطاب الظلال أنه خطاب عنف بامتياز، لأنه ليس خطاباً واقعياً، بل هو خطاب يقف على تضاد مع الواقع، و يريد أن يجعل العدم حقيقة. يقول هيغل، إن كل ماهو عقلي واقعي، وكل ماهو واقعي عقلي. العقل والواقع يتحاكيان لأن الواقع هو الحقيقة، والعقل هو مركز اللوغوس والكلام، والخطاب السلمي هو خطاب يلتقط الواقع لأنه يجب أن يتناغم معه دون الغرق فيه. أما بالنسبة للخطاب السوري فالمسألة مختلفة تماماً، لأنه يقوم على مقولة: كل ماهو ظل أو وهم يجب أن يصبح حقيقة وواقعاً. مع خطاب مجلس الشعب وبعده بدأت تنشط كلمات الظل وتصبح سيدة لغة الإعلام السوري مع تراجع كلمات الحقيقة رغم شحوبها، بدأت تبهت كلمات مثل: مطالب مشروعة، إصلاح، حوار، لتتسع دائرة كلمات الظل: العصابات المسلحة، المؤامرة، العصابات السلفية. وقد حافظ النظام بكل قوته على خطاب الظل رغم عدم قدرته على تعريف مفردات هذا الخطاب أو تحديد هويتها. العصابات الإجرامية لا صور لها ولا خطاب ولا واقع، إنها مجرد كلمات اُشتقت من الظلال وغرقت فيها، وكذلك كلمة المؤامرة التي صنع النظام أكداساً من الأوهام حولها دون أي أساس واقعي، إلقاء القبض على ضباط اسرائيليين، السيطرة على بارجة ألمانية، إنشاء إمارة سلفية…… ، لكن كل ذلك كان وهماً.

إن التمسك بالظلال لا يجعل الشخص واهماً فقط، بل عنيفاً أيضاً، لأن الواهم في هذه الحالة ليس مريضاً بل هو صانع قصدي للوهم وسيسعى إلى تطويع الواقع بكل الطرق ليصبح مطابقاً لوهمه. كان على أجهزة الأمن حسب المقولة الظلية السورية أن تصنع واقعاً يطابق الكلمات المشتقة من الفراغ، وأن تزيح الواقع من واقعيته والحقيقة من حقيقتها. قامت عناصر الأمن بقتل عناصر من الجيش، وقام التلفزيون السوري بإلغاء الواقع والحقيقة كلياً، فلم يعرض على مدى ثمانية شهور صورة مظاهرة واحدة تنادي بإسقاط النظام، رغم أن هذه المظاهرات بلغت في الثمانية أشهر آلافاً وبلغ عدد المتظاهرين في المدة نفسها ملايين. بالنسبة للنظام بكل أركانه الإعلامية والأمنية وتصريحات مسؤوليه، لا وجود للحقيقة، وكل من يقول بها هو مشارك بالفتنة والمؤامرة، خصوصاً الفضائيات التي سُميت بفضائيات الفتنة، وأنها غرف عمليات للمؤامرة، لسبب واحد أنها اقتربت من الحقيقة وألقت بالشكوك على خطاب الوهم الذي يستند على العدم.

بعد فترة من الأحداث حسم النظام أمره ولم يعد لديه إلا الظل والوهم. كلماته، خطاب وتصريحات مسؤوليه، صور تلفازه، مناصريه. . . . . كله يتكلم لغة واحدة، لغة الظل المصنوعة من الوهم.

يقول بشار الأسد في آخر لقاء صحفي له مع الصندي تايمز، لا يوجد مظاهرات في سورية، فقط عصابات إجرامية، وإن عدد القتلى المدنيين الذين قُتلوا هم سُبع الرقم الحقيقي، أي واحد من سبعة من الرقم الذي طرحته منظمات حقوق الإنسان والأمم المتحدة والنشطاء السوريون، وهؤلاء المدنيون قتلوا بطريقتين، إما بأخطاء من رجال الأمن، أو باستهداف مقصود من العصابات المسلحة، بينما عدد قتلى الجيش أكبر من عدد المدنيين وقتلوا كلهم قصداً من العصابات الإجرامية. في هذا اللقاء يعلن بشار الأسد أن الشعب السوري هو مجرد عصابات إجرامية وذلك عندما نفى وجود مظاهرات، وأن المؤامرة الكونية على سورية هي الشيء الوحيد الذي يفسر كل مايحدث، بالنسبة له.

لقد وصل هذا الخطاب الغارق في الظل إلى درجة من العنف صار يبرر قتل الشعب السوري، وصار دعاة القتل ينادون بذلك أسوة بقائدهم دون تقية، فقد ارتفعت المطالبات بقتل المتظاهرين وارتكاب مجازر أكبر بشكل صريح جداً في وسائل الإعلام السورية، بعد أن قيلت مرة واحدة قبل ذلك على لسان أحدهم على قناة الدنيا، وصارت الفضائيات والصحف السورية مكاناً مفتوحاً للدعوة الى ارتكاب مجازر جماعية بحق الشعب الذي ينفذ مؤامرة خارجية خطيرة. خطاب الظل والوهم لا يتردد في خلط الأشياء ونقلها من حقائقها إلى نقائضها، الشعب المتظاهر أصبح شيطاناً رجيماً، والنظام هو البراءة المستهدفة من كل القوى السوداء في العالم، وبالتالي فالنظام يمتلك الحق في ممارسة القتل على شكل مجازر يومية.

لقد غابت تماماً بعض الاعترافات الخجولة بالحقيقة التي ترددت في المرحلة الأولى من الأزمة بعد تشويهها، لصالح اللغة المصنوعة من الوهم والظل. هذه اللاعقلانية المفرطة في التعامل مع الأزمة السورية والتي تتبناها فئة مصابة بخوف مرضي من الآخر، ستحاول جر البلد إلى كوارث كبيرة، وإلى تدميره وتقسيمه من أجل أن تجعل وهمها حقيقة، وهي تعتقد أنها تنجح في ذلك. سورية اليوم تقف بمواجهة مجموعة صانعة للوهم تمسك سلاحاً فتاكاً تحاول بعنف غير مسبوق التعامل مع التاريخ بمنطق إخضاع التاريخ، على عكس الدرس الهيغلي، ولكن التاريخ أكثر صلابة من أن يحني رأسه لإرادة الوهم. قد نختلف على تفسير التاريخ ولكنه في النهاية من الحقائق الكبرى التي تفرض نفسها في نهاية المطاف، والتي تفضح دائماً أخطاء من حاول القفز فوقه وتجاهله.

‘ باحث وأستاذ جامعي سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى