صفحات الناسمنذر مصري

اللاذقية، جنّة الفلافل/ منذر مصري

 

 

في نيويورك، يقول الشاب الأميركي للفتاة التي يحاول إبهارها: “سنذهب لأكل ما سيقلب حياتك رأسًا على عقب.. فلافيل”.

في لندن، يدعوني الشاعر نوري الجراح، إلى محل فلافل شهير غير بعيد عن ساحة الطرف الأغر، اكتفيت أنا بسندويشة واحدة، باردة وناشفة، بينما تناول نوري سندويشتين مع المخللات.

في باريس، تخبرني أختي مرام، أن قسماً من المبلغ الذي أعدته لها بعد تعذّر شراء بيت صغير في اللاذقية لسنين كثيرة مضت، فما بالك اليوم وهناك إشارة على اسمها في قوائم المطلوبين على الحدود، أقول إن قسماً من هذا المبلغ ستعطيه لابنها ليبدأ عملاً خاصاً به؛ افتتاح محل فلافل في عاصمة النور.

في برلين، تفضّل السيدة المستشارة أنجيلا ميركل، أن تظهر تعاطفها مع المهجّرين السوريين، بزيارة محل شاورما، لمواطن سوري، أقصد لسوري صار مواطناً ألمانيّاً، وتأخذ صورة تذكارية وهي تمسك بسكين طويلة وتنزلها على سنم لحم الدجاج المحمر.

أمّا في اللاذقية، في قلب المركز التجاري للمدينة، عند تقاطع شارع 8 آذار مع شارع عدنان المالكي؛ شارع الذهب، وشارع السينمات، إلا أنه ما عاد هناك حتى سينما واحدة للأسف في المنطقة التجارية الأغلى ثمناً، عند الزاوية، فقد افتتح محل فلافل “جمال السويس”. الاسم ذو الرنين لأشهر محل حمص وفول و”فتة” في تاريخ المدينة، الذي انطلق من حي الصليبة الشعبي ليصل إلى ساحة الشيخ ضاهر، ومشروع الزراعة. وكاد أن يصل بصاحبه إلى مجلس الشعب، فقط لو أن جيرانه من أهل الصليبة صوّتوا له.

اللاذقية اليوم، نتيجة الازدياد الشديد لعدد سكانها، والأوضاع الاقتصادية التي يعانونها، بات يصح أن يطلق عليها مدينة المأكولات الشعبية؛ كأن تقول مدينة الشاورما، أو مدينة فطائر “بابا طعميني”، أو مدينة المقانق والبطاطا المقلية، أو مدينة الفول والحمص، حتى إن أشهر محل فول “حج عبدو الفوال” الذي نشرت عنه اللوموند تحقيقاً مصوراً، نقل محلّه من “الجديدة” في حلب إلى شارع عمر بن الخطاب في اللاذقية. إلاّ إن الفلافل تتفوّق عليها مجتمعة. محلات تجارية كثيرة، أغلقت وأعيد افتتاحها لبيع الفلافل، في الشوارع الرئيسية للمدينة، وفي الأسواق، وفي الأحياء السكنية الشعبية وغير الشعبية، إضافة للمحلات المعروفة، كفلافل “الأستاذ” في حي الشحادين، و”شيخ الشباب” بالصليبة، وفلافل “فلسطين” و”الحموي” في شارع هنانو، وفلافل “برهان” وأولاده في شارع إنطاكية. فقد بات هناك فلافل “السلطان” بفرعيه، وفلافل “الأمراء”، الذي أكثر من يحن إليه ابن اللاذقية البار “عميد فضّول” في غربته، هو شندويشة مضاعفة “أم /100/ ليرة” من سندويشاته، بفرعيه أيضًا، وفلافل “فلافيلو” في وسط شارع القدس مقابل أكبر محل للخمور المستوردة والمهربة في المدينة، وفلافل “الكابتن” الذي يمتاز باستخدام تبلة المقانق الحارة، وفلافل “الرغيف السخن”، وثلاثة محلات فلافل “على كيفك”، وغيرها وغيرها.

صحيح أن اللاذقية، حتى وإن أصابتها بعض الصواريخ الطائشة، وتفجرت في أحد أحيائها البعيدة سيارة مفخخة، لا أحد يعلم من أين أتت ولا كيف دخلت ولا كيف وصلت إلى المكان الذي تفجرت فيه وقتلت الأبرياء من الناس، لم يحلّ بها الدمار الذي حلّ بحمص ودرعا وحلب، وصحيح أيضاً أن أهلها جميعاً، موالين وغير موالين وثرثارين وصامتين، يصلّون لنجاتها من هذا المصير، إلاّ أن ما أصاب سورية كلّها، كان لا بدّ أن يصيب اللاذقية، أي أنها ما عادت نفسها. اللاذقية القديمة التي نعرفها ونتغنى بها غادرت ومضت، كما غادر ومضى الكثيرون من أهلها، وما عاد يستقبل من يدخلها عطر زهر الليمون ورائحة البحر. لا، ما عاد هناك من يترنم بالأغنية اللاذقانية الشهيرة: “على روض الحبيب فتنا/ قطفنا الورد والفتنة”، بل: “وصلنا إلى مرأب اللاذقية/ أكلنا فلافل وبطاطا مقلية”.

في جلستنا مساء الخميس، وهي إحدى الجلسات الأسبوعية الثلاث التي كان يحضرها مثقفو اللاذقية ومن لفّ لفهم، التي أخبرني يوماً أحد المحققين الأمنيين أنها تضطر جميع الفروع الأمنية للاستنفار ثلاثة ليال كل أسبوع، المستمرة رغم تفككنا وتنابذنا ومغادرة الكثير من أصدقائنا، نشرب الشاي ونتكلم عن تطور الأوضاع والحلول المرتقبة وما سيؤول إليه مصيرنا، ورائحة فلافل قوية تدخل من عيوننا وأنوفنا وآذاننا، مقتحمة كل أفكارنا وحواراتنا، ما يدفع أحدنا للتسلل وإحضار سندويشات فلافل بعدد الحضور، ينسينا طعمها، ولو إلى حين، الكابوس الرهيب الذي نحيا فيه.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى