صفحات العالم

معضلة الحراك السوري واختناق المعالجة الأممية

 

يونس الغايسي

لقد كانت لحظة صدور قرار مجلس الأمن الدولي 1973 في 17 آذار/مارس 2011 في وقت متأخر من الليل لحظة تاريخية بامتياز في علاقة الشعوب العربية بنظام مجلس الأمن. إذ شكل القرار، الذي أتاح للأمم المتحدة تحت البند السابع حق التّدخل في ليبيا لاستتباب أمن وسلامة المدنيين الذي اعتبرهما من صميم الأمن والإستقرار الدوليين، حاضنة للمواقف والرؤى التي لطالما كانت مُعبّرة عن اختلاف شديد ولسنوات بين طموح المواطن العربي وقرارات مجلس الأمن الدولي. فقد جاء القرار معربا عن قلق المجتمع الدولي إزال الوضع في الجماهيرية العربية الليبية، لما تتعرض له الجماهير الثائرة من إنتهاكات جسيمة وممنهجة لحقوقها الإنسانية ومنها الحق في تقرير المصير، بما في ذلك قمع المتظاهرين المسالمين وقتل مدنيين، رافضا للتحريض الذي مارسه النظام الليبي من أعلى المستويات لشن أعمال عدائية وعنفية تجاه المحتجين العزل. ومُدركا لمسؤوليته في حفظ السلم والأمن الدوليين ومتصرفا بموجب الفصل السابع من الميثاق الذي يجيز له حق اتخاذ كافة الإجراءات الضاغطة الكفيلة بحماية المدنيين مدنيا وعسكريا، فقد دعا إلى فرض منطقة حظر جوي على ليبيا داعيا كل الدول الأعضاء إلى ‘اتخاذ كافة الإجراءات الضرورية’، المنطوية على إمكانية استخدام القوة العسكرية، لحماية المدنيين والمناطق السكنية التي تواجه تهديدا في ليبيا بما في ذلك بنغازي، في الوقت الذي استبعد فيه القرار إرسال قوة احتلال بأي شكل على أي جزء من الأراضي الليبية التي أكد احترامه لسيادتها واستقلالها السياسي.

ورغم أن قوى دولية داخل المجلس تتمتع بامتياز حق النقض لم تكن متفقة مع هذا القرار ولاغيره من القرارات أهمها القرار 1970 الذي عرض بموجبه مجلس الأمن الملف الليبي على أنظار المحكمة الجنائية الدولية، إلا أنها لم تكن لتفسد هذا الوفاق، مكتفية فقط بالإمتناع والتّرقب الشديد لما سيؤول إليه الوضع، ومبدية استياءها من الطريقة التي سيتم بها معالجة الوضع في ليبيا. وعن ذلك قال المندوب الروسي ‘فيتالي تشروركين’: ‘لابد أن تقع مسؤولية عواقب الإفراط في استخدام القوة من الخارج على عاتق الذين يلجأون إليه، وإن تم ذلك فعلا، فسوف يتضرر كثيرا السكان المدنيون بل ومصالح ضمان الأمن والسلام في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط. وعليه فمن الضروري إيجاد سبيل للحؤول دون تطور الأحداث على هذا المنوال’. مضيفا ‘ندعو بدأب وثبات إلى تأمين حماية المواطنين. واسترشادا بهذا المبدأ وبالقيم الإنسانية العامة لا ترى روسيا ضرورةالاعتراض على اتخاذ القرار المذكور. إلا أننا على يقين بأن خير طريق لضمان أمن السكان المدنيين واستقرار أوضاع البلاد هو وقف إطلاق النار بلا إبطاء.

قد يظن الكثيرون بأن مجلس الأمن باتخاده هذا القرار يكون قد ساهم في انقاد تجربة ربيعية تحررية عربية من مصير سحقها الحتمي من قبل قوات العقيد القذافي التي كانت على شفا صنع ذلك، وهذا الظن معقول إلى حد ما، لكن في المقابل نعتقد أن الربيع العربي قد انقذ من جانبه نظام مجلس الأمن بأن بث الحياة من جديد في آليات حفظه للأمن والسلم الدوليين بعد أن فشل في استتبابهما على مدى عقدين من الزمن منذ أزمة البوسنة مرورا برواندا وكوسوفو، ووصولا إلى غزو العراق وبالاكيد القضية الفلسطينية على الدوام. لكنه ما فتئ يصنع نصرا في هذا المقصد ويتلوه بآخر، في قضية ساحل العاج القرار 2045، حتى تعطلت عجلته من جديد أمام متاريس سياسية شرقية استراتيجية النزعة (روسيا والصين) حالت دون اضطلاع المجتمع الدولي بواجبه تجاه المدنيين الـمُقتَّولين في سوريا.

فلانزال نذكر جمعات المتظاهرين السوريين، وبالأخص جمعة الحماية الدولية في 9 أيلول/سبتمبر 2011 التي عبر فيها الشعب السوري المحتج عن تطلعه للحماية والنصرة إقليميا ودوليا في كفاحه السلمي المستميت لأجل الإصلاح والحرية بدايةً والتغيير والتحرر من نظام التقتيل الممنهج انتهاءً. منذ تلك الفترة وبعد مرور ما يقارب 23 شهرا من بدء الحراك الربيعي السوري لم يستطع المجتمع الدولي بإيعاز من دول عربية تحقيق أي نوع من أنواع الحماية التي انتظرها الشعب السوري وهو الذي أُحصيت قتلاه مؤخرا وبشكل رسمي حيث وصل العدد إلى ما يقارب 60.000 قتيل حسب تقرير المفوضية السامية لحقوق الإنسان والرقم بالتاكيد مرجح للإرتفاع إن بقيت الأوضاع السورية دون معالجة حقيقية عملية تنهي معانات الشعب السوري وتلبي طموحاته السياسية والمجتمعية. وقد يرى البعض حيال تعذر اتخاد مجلس الأمن موقفا صريحا مما يجري بسوريا، أن السوريين في ذلك يدفعون ضريبة جنوح الدول، المطالبة اليوم بمعالجات أمنية للأوضاع السورية، عن ماحددته بالأمس في إشارة إلى القرار 1973 الذي منح فيه مجلس الأمن للمجتمع الدولي حق القيام بعمليات عسكرية محدودة تتعلق أساسا بإعمال الحظر الجوي على ليبيا. فيما قد يرى البعض أمر التشبت الجذري لموسكو بامتياز حق النقض في مواجهة أي مشروع قرار يدين سوريا حرصا من جانب الأخيرة على امتياز استراتيجي تمثل سوريا رقما حيويا في معادلته، لكن الحقيقة الوحيدة الماثلة أمامنا والتي يجب أن تأخذ حقا مُركَّزاً من الإهتمام، أن هناك وضعية مانعة للتدخل تستوجب تبصرا في معالجتها بالكيفية التي قد تنصف بها المطالب الشعبية السورية وتحرج بها الجانب الروسي والصيني اللّذان لن يطول تصلبهما طويلا.

وخلافا للإعتقاد روسي وصيني، وللأسف نجد أن أطرافا عربية ودولية قد سقطت في نفس المقاربة بأن مايجري في سوريا حربا أهلية، فإننا نعتقد بأن ما يجري في سوريا قضية كفاح وطني ضد استبداد نظام كليبتوقراطي شبيه في لاشرعيته وحتمية زواله بالنظام العنصري البائد في جنوب أفريقيا، وإن كنا نتقاطع إلى حد ما مع موقف أمير قطر الذي عبر بتبصُّر عن كون ما يجري في سوريا ليس بحرب أهلية، داعيا المبعوث الدولي العربي أن يضع أفكارا واضحة لكيفية حل هذا الموضوع. وحقيقة في الشأن السوري نحن في حاجة ماسة لضبط المواقف والأفكار القانونية لأنها إنعكاسية بشكل حاسم على سير أحداثه إقليميا ودوليا.

فأن تقول بأن ما يجري في سوريا حربا أهلية معناه أن الوطن منقسم وأن الصراع يدور بالأساس بين حكومة قائمة وحركة أو عدد من الحركات التمرُّدِية التي تهدف إلى الإطاحة بها أو بالنظام السياسي أو إلى الإنفصال والإستقلال بجزء من الوطن الأم، وعند ذاك التوصيف لايكون النزاع إلا نزاعا داخليا وعنده يصير مبدأ التدخل والحماية الدولية محظورا ولاشرعيا لأن هناك وضعا مطلبيا رماديا وأن الإقتتال دائر بين أطراف عدة لم تَحسم أمرها على الأرض، وإن كانت هناك من تسوية يمكن ان تُقدم فينبغي أن تراعي كل الأطراف والفُرقاء المتصارعين لاجهة دون أخرى على أساس قاعدة الحياد أو تسعير الإحتراب. فيما القول بالحجج والبراهين بأن ما يجري في سوريا هو على شاكلة كل الأنظمة الإستبدادية العنصرية التي تحارب حق شعوبها في تقرير مصيرها كمبدأ عالمي خالد غير قابل للنقاش ومستجلب للنُّصرة الدولية كما تشير لذلك مبادئ معيارية عالمية ومواثيق دولية وعلى رأسها توصية الجمعية العامة للأمم المتحدة 2625 وكذا البروتوكول الإضافي الأول لسنة 1977 الملحق باتفاقية جنيف الأربع 1949 الذي يعترف بدولية نزاع يكون موضوعه كفاح الشعوب في تقرير مصيرها، وحيال ذلك يصير النزاع ذو طابع دولي والحماية الدولية لازمة ومفروضة كما طلبها المتظاهرون منذ ما يقرب من عامين دون أن يصله.

وهذا ما جرى ويجري في سوريا على وجه التحديد، إذ أن المطالب الشعبية لم تكن فقط لقسم من المواطنين بل للسواد الأعظم منهم الذين طالبوا باسم مبادئ القانون الدولي نظام بشار الأسد بتحقيق إصلاحات عاجلة بشكل سلمي حضاري كما دلت على ذلك كل الشواهد والبراهين والقرائن. ليواجه المحتجون ليس فقط برفض مطالبهم بل بإعمال ممنهجة لكل أشكال القوة والإكراه في حقهم بغية إخماد حراكم، من قبل طغمة سياسية تبقى في النهاية، بأجنحتها العسكرية والمدنية، بموجب قواعد المسؤولية السياسية والقانونية داخليا و دوليا متحملة لكافة تبعات ما قد آلت إليه الأوضاع عقب ذلك من احتراب داخلي عنيف، ومعها كل موقف دولي-إقليمي يقدم تغطية سياسية لجرائم النظام الذي قدمه القانون الدولي ومبادئ حقوق الإنسان والمتعارف عليه في أخلاقيات الأمم ‘عاريا’ من كل مشروعية.

وإنا لعلى يقين من أن خيار الإلتفاف على فخ مجلس الأمن في الشأن السوري لايزال قائما بعوامل وشروط تتيحها مسالك المعالجة الدبلوماسية والقانونية كما أبانت على ذلك الممارسات الدولية في أشد الأزمات وأكثرها في الإدارة تعقيدا، لكن بشرط أن تتوفر الإرادة والجهوزية الكافيتين للمضي في غمار نصرة الحراك الوطني السوري دوليا ببوصلة لايخطئ مؤشرها عند أقرب ضغط أو أرهف اضطراب، وهي استعدادات للأسف لم نجدها مرصودة بعد في مجهود عربي اقليمي دولي لايزال يدعي المسؤولية الأخلاقية في وضعية استقالة سياسية.

‘ باحث مغربي

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى