رشا عمرانصفحات الناس

اللغة وسيلة اندماج/ رشا عمران

 

 

لم أكفّ عن التفكير بحال المهاجرين السوريين إلى أوروبا، وأنا أتابع وقائع الفيلم الفرنسي “فاطمة”، للمخرج الفرنسي من أصل مغربي، فيليب فوكون، هو مقتبس عن كتابين للمغربية فاطمة الأيوبي، ويحكي عن عائلة جزائرية مهاجرة إلى فرنسا منذ زمن، الأب والأم مطلقان. والبنتان، لدى نسرين (18 عاماً) طموح لدراسة الطب، وسعاد (15 عاماً) مراهقة متمرّدة. تعيشان مع والدتهما التي تعمل خادمة في البيوت وعاملة تنظيف في إحدى المؤسسات. يطرح الفيلم فكرة الاندماج أولاً، فالعائلة تعيش في حيٍّ لا يقطنه سوى العرب المغاربة والمسلمون، لم يستطع جيل الآباء والأمهات التخلص من الموروث والعادات التي حملوها معهم، من بلادهم الأصلية، حيث تنعدم الخصوصة العائلية والفردية أمام الإحساس بالوصاية المجتمعية التي يمارسها سكان الحي على بعضهم. البنت أيضاً، ضلع قاصر، ومن حق الجميع التدخل في حياتها وسلوكها وطريقة لبسها وصداقاتها وطموحها، بينما يمكن للشاب فعل ما يريد (يدور حوار بين الأب وابنته الكبيرة حول التدخين، يعترف الأب بعد إلحاح من ابنته أنه لو كانت صبياً لما تدخل بسلوكها).

مأساة العائلة، وهي مأساة غالبية المهاجرين، في العلاقة مع الأبناء. لم تتمكن الأم، حين قدومها إلى فرنسا، من الاندماج في المجتمع الفرنسي، لم تستطع تعلم اللغة الفرنسية، بما يساعدها على ذلك. حالها حال غالبية المهاجرات اللواتي في سنها، ولم يتجرأن حتى على خلع الحجاب، خشية أن يتهمن بالتخلي عن دينهن، صعوبة تعلم اللغة الفرنسية جعلت فاطمة تفقد آصرة التواصل مع ابنتيها اللتين كبرتا في فرنسا، وتعلمتا الفرنسية جيداً، واستبدلتاها بالعربية التي لا تكادان تعرفان شيئاً منها. تتحدث الأم فاطمة بلغتها الجزائرية المطعمة ببضع كلمات فرنسية. هذا الخلل البنيوي المتعلق بالهوية بين الجيلين، إذا ما اعتبرنا أن اللغة هوية أولاً، سبّب خللاً كبيراً في العلاقة بين الأم وابنتيها، لا سيما الصغرى منهما، الخجلة من عمل والدتها، وغير القادرة على فهم ما يجعل والدتها تعمل عملاً كهذا. ترى أمها مجرد فاشلة، وتتحمل مسؤولية ما يحصل لها. منح هذا الفشل (المفترض) الابنة الكبرى رغبةً في التحدّي، وتخطي مظلومية المهاجرين، فقرّرت دراسة الطب ونجحت بذلك. بينما منح الصغرى مظلومية مشابهةً، ستجعلها تعيد سيرة والدتها، فهي لا تهتم بدرسها وتشاكس الجميع، وليس لديها أي طموح شخصي للتخلص من واقعها الذي تعيشه، حتى إن والدها قال لها إن مستقبلها هكذا لن يكون أفضل من واقع والدتها الذي تخجل منه.

فهمت الأم فاطمة، بحدسها الذكي، مشكلتها مع بنتيها، فقرّرت البدء بتخطيها. دخلت مدرسةً لتعلم اللغة، وبدأت تكتب قصتها. يقدم الفيلم صورة غير نمطية عن المهاجرين، وأخرى غير نمطية عن الفرنسيين الذين يجهل غالبيتهم ما يجعل المهاجرين منكفئين، ومتقوقعين على ذواتهم. لا يطرح الفيلم مقولاتٍ كبيرةً، بقدر ما يقدّم تفاصيل يومية ناعمة، وبالغة الذكاء، عن حياة المهاجرين وعلاقتهم بالواقع الفرنسي، وعلاقتهم بأنفسهم أولاً، والأسئلة التي يجب أن يقترحوها على أنفسهم لفهم ماهيتهم في المجتمعات الأخرى.

يحتاج السوريون في أوروبا لمشاهدة أفلام كهذه، أو الاطلاع على تجارب من سبقوهم من العرب والمسلمين المهاجرين، لسد الفجوة بينهم وبين مجتمعاتهم الجديدة، وبينهم وبين أبنائهم الذين سيكبرون هناك وسيتلمسون عاداتٍ وثقافات مختلفة عن موروث عوائلهم، وستكون اللغة الفاصل الأول بين الاندماج الفاعل أو النكوص إلى الخلف. ولعل في الأخبار المتناقلة عن صدمة اللاجئين السوريين في أوروبا ما يبعث الخوف من مستقبلٍ لهم يشبه حال المهاجرين الذين سبقوهم، ولا سيما أن غالبية السوريين فارّون من الموت والعنف المركب، وهو ما يجعل من النكوص حالة مستقرة وليست عابرة. أيضاً مع ملاحظة أن معظهم ينتمون إلى بيئاتٍ مسلمةٍ وشبه مغلقة، وهو ما سيعجل من تصادمها مع المجتمع الأوروبي المنفتح، لتدخل مباشرة في سؤال الهوية المتشظية أصلاً.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى