صفحات الرأي

هل لا تزال “التسوية التاريخية” ممكنة في سوريا؟


مراجعة: د. محمد م. الأرناؤوط

[ الكتاب: العقد الأخير في تاريخ سوريا جدلية الجمود والاصلاح

[ الكاتب: محمد جمال باروت

[ الناشر: المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات الدوحة – 2012

على الرغم من الاهتمام العربي والعالمي بما يحدث في سوريا يلاحظ أن المقالات في الصحافة العربية تفتقد العمق في التحليل والاستنتاج نتيجة لقلة الدراسات الاكاديمية المرجعية عن سوريا خلال حكم حزب البعث لها وخاصة خلال مرحلتي الاسد الاب والاسد الابن بالمقارنة مع ما لدينا في الانكليزية مثلا. ففي السنوات الاخيرة فقط لدينا العديد من الدراسات التي تناولت التطورات الاقتصادية والاجتماعية التي حدثت بشكل متسارع بعد تسلّم الطبيب بشار الاسد للحكم في تموز 2000 أثر وفاة والده، والتي أدت الى هيكلة جديدة للاقتصاد والمجتمع في سوريا.

ومن هنا يمكن للمرء أن يشيد بالكتاب الذي أصدره أخيرا أصدره المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات في الدوحة “العقد الاخير في تاريخ سوريا : جدلية الجمود والاصلاح” للباحث السوري المعروف جمال باروت باعتباره مرجعا قيّما جاء في وقته ليساعد على فهم الخلفية السياسية والاقتصادية والاجتماعية لـ”الربيع الثاني” في سوريا الذي جاء هذه المرة من تحت بعد “الربيع الاول” الذي جاء من فوق في 2000 وانتهى الى لاشيء.

وتجدر الاشارة هنا الى ان باروت الذي عرف باسهاماته حول التمنية في سوريا وعمله كخبير في برنامج الامم المتحدة الانمائي (2003-2010) انضم في 2011 الى “المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات” حيث استفاد هناك من فريق العمل المساعد لانجاز مثل هذا العمل المرجعي الذي كانت تفتقده المكتبة العربية. وفي الحقيقة ان مرجعية هذا الكتاب تنبع من الكم الكبير من المعلومات التي حصل عليها المؤلف من المصادر المختلفة بما في ذلك “أرشيف القصر الجمهوري” ومن الشخصيات الفاعلة في الاحداث سواء من النظام أو من المعارضة، وكذلك من المقاربة العلمية التي استخدمها في التفكيك والتركيب ليصل الى رؤية شاملة سمحت له أن يقدم في النهاية استشرافه لمآلات الاوضاع في سوريا. ومع أن الكتاب كمشروع علمي من مشاريع المركز بدأ العمل به في 2010، أي قبل انطلاقة “الربيع العربي”، ولكن العمل فيه تواصل مع تطور الاوضاع الجديدة على الارض حتى أواخر تموز 2011، ولذلك كان لابد للكتاب أن يمتحن مقاربته العلمية في استيعاب ما حدث في سوريا بعد آذار 2012 حتى يصبح بهذا الشكل مرجعا عن عهد الرئيس بشار الاسد وعن مآل هذا العهد أيضا.

في هذا الكتاب (462 من القطع الكبير) المتضمن تسع فصول، ينطلق مؤلفه من تحليل الوضع السياسي والاقتصادي الاجتماعي لعهد الاسد الاب (1970-2000) الذي وصل في نهايته الى طريق مسدود بسبب تنامي الفساد وتصاعد دور الاجهزة الامنية التي لم تعد لها مصلحة ومرجعية واحدة، ولكنه يركز عمله على التركة الصعبة التي ورثها الاسد الابن في تموز 2000. ففي ذلك الحين كانت نسبة النمو الاقتصادي قد وصلت الى الصفر مع تدنى أسعار النفط وانكماش رأس المال الخليجي وحتى السوري في المشاريع الاقتصادية وذلك مع وجود نسبة نمو سكاني عالية على مستوى العالم (2،38%). وفيما يتعلق بالخارج فقد اتسمت السنوات التالية بأحداث كبرى على مستوى العالم والاقليم ( بروز القاعدة وغزو أفغانستان 2001 ثم العراق 2003، اغتيال الحريري في 2005 والحرب الاسرائيلية على لبنان في 2006 الخ) جعلت سوريا في خضم الصراعات الاقليمية.

ومن هنا يركز الباحث على سياسة الاسد الابن للخروج من الطريق المسدود سياسيا واقتصاديا. فعلى المستوى السياسي أطلق الرئيس في خطاب القسم هامشا سياسيا جديدا نشطت في رحابه المنتديات الثقافية السياسية الجديدة التي مثّلت ما سمي “ربيع دمشق”. ولكن هذا الهامش لم يستمر طويلا إذ أنه انتهى في ايلول 2001 ليعود الاسد الابن الى حكم البلد بالاعتماد على الاجهزة الامنية بعدما اكتشف ان الوراثة لوحدها لا تؤمن له الاستقرار والاستمرار في الحكم. ومن ناحية أخرى أراد الاسد الابن أن يعوض ذلك في المجال الاقتصادي إذ أعطى الضوء الاخضر للتحول من نموذج “التخطيط المركزي الشامل” الى “إقتصاد السوق” الذي أنجز بشكل واضح خلال الخطة الخمسية العاشرة (2006-2010). ومع هذا الانعطاف حدث تغير اقتصادي اجتماعي كبير نتيجة للشراكة الجديدة السياسية الامنية الاقتصادية الجديدة، التي ضمت من الداخل شخصيات أمنية واقتصادية قريبة من الاسد الابن ورجال أعمال من دمشق وحلب بينما انضمت اليها من الخارج رساميل خليجية تبحث عن مجال مناسب للاستثمار. ويتتبع هنا المؤلف نتائج هذا الانعطاف التي لا يمكن من دونها أن نفهم مايحدث في سوريا : بروز “المئة الكبار” الذين أصبحوا يتقاسمون “الكعكعة الكبيرة” و الخراب الذي حلّ في المجتمعات المجاورة لدمشق وحلب نتيجة لهذا النمو المشوه للتمنية الذي رفع نسبة النمو الاقتصادي الى أكثر من 5% ولكنه رفع نسبة البطالة الى مستويات غير مسبوقة وسقوط ثلث السكان الى ما دون خط الفقر( 34،3%) وزاد في السخط الاجتماعي خارج دمشق وحلب (اللتان استفادتا أكثر من النمو الاقتصادي المعلن ) نتيجة لسياسة الاستحواذ على الاراضي لصالح المشاريع الاقتصادية لـ”المئة الكبار” وخراب الصناعات المحلية (في ريف دمشق بشكل خاص) نتيجة للسياسات الاقتصادية التي قادها الفريق السياسي الامني الاقتصادي الحاكم. ومن هنا، بالاستناد الى كمّ المعلومات الغزير، لايبدو من المفاجئ انفجار المعارضة ضد النظام في بلدات ريف دمشق التي كانت ضحية هذه التطورات (المعضمية وداريا وكفرسوسة وسقبا وحمورية ودوما الخ).

ويمكن القول أن مادة الكتاب الاساسية كانت لتتوقف عند بداية 2011 لولا التحركات الاولى التي بدأت في سوريا بعدما انطلق “الربيع العربي” في تونس ومصر وليبيا، حيث أن المؤلف تابع تغطية وتحليل التحركات الاولى في دمشق (“حادثة الحريقة” في 19 شباط 2011) ثم في “جمعة الفزعة” بدرعا (18 آذار 2011) التي انطلقت منها لتغطي محافظات حمص وحماة وادلب والحسكة ودير الزور حتى أواخر تموز 2011. ويوضح المؤلف هنا تردد النظام أو الخلاف بين طرفين فيه حيث تميزت الاسابيع الاولى ( مابين 19 شباط نيسان 2011) عن تردد النظام ما بين استخدام “القوة الناعمة” حينا و”القوة الامنية” حينا الى أن ساد خيار “القوة الامنية” التي غدت بموجبه الاجهزة الامنية والعسكرية التي يسميها المؤلف “السلطة الفعلية” هي التي تتحكم في قرار الرئيس في ضوء نظرية “المؤامرة” (ص 364).

ومع هذا التحليل لما آل اليه النظام في سوريا، بعد أن عاش أفضل سنواته بالاعتماد على ايديولوجية الممانعة ونسبة النمو الاقتصادي التي تجاوزت 5% والشراكة مع الرساميل الخليجية، يحرص المؤلف أيضا على التعريف بالاطراف الجديدة القديمة المعارضة والمقاومة للنظام سواء في الداخل أو في الخارج يتناول المؤلف في الفصل الاخير تعقد الصراع مع استغلال العنصر الطائفي الممتد عبر الحدود وانخراط رجال الاعمال (المئة الكبار) في تمويل قوات حفظ النظام (الشبيحة) بحيث لم يعد الصراع يحسم سورياً فقط. وهكذا بدا للمؤلف في أواخر تموز 2011 أن “استحالة عودة النظام الى ما كان عليه قبل آذار 2011” واستحالة اسقاط النظام من دون سقوط القوى الاجتماعية المرتبطة به ومن دون تداعيات اقليمية واستمرار انقسام المعارضة وعجزها عن تكوين كيان موحد حول المرحلة الانتقالية المقبلة يفرض على اللاعبين العمل بروح “التسوية التاريخية” للتوصل الى “مرحلة انتقلية للتحول بأقل كلفة اجتماعية من النظام القديم الى نظام جديد” لتجنب البديل الذي يراه المؤلف في واحد من ثلاث : الصراع المستدام أو التفكك أو الانهيار.

ولكن السؤال الكبير هنا: هل لاتزال “التسوية التاريخية” ممكنة بعد مضي سنة تقريبا على إنجاز المؤلف للكتاب؟ كان المؤلف يفترض لهذه “التسوية التاريخية” ثلاث لاءات (لا للتدخل الخارجي، لا للطائفية، لا للتسلح) وثلاثة عوامل لا تزال مستمرة (تماسك النظام بسبب حشده لتأييد قوى اجتماعية في الداخل وقوى اقليمية في المحيط وارتباط انهيار سوريا بانهيار آخر في الاقليم واستمرار انقسام المعارضة السوريا وعجزها عن بلورة خريطة طريق للمرحلة الانتقالية) وذلك لاجل تجنيب المنطقة “البلقنة الطائفية”. ولاجل ذلك يرى المؤلف انه لابد من “التفاوض” حتى من قبل من يحمل شعار “إسقاط النظام” حول المرحلة الانتقالية مع الفارق : هل يكون التفاوض من موقع القوة أم من موقع الضعف؟

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى