صفحات العالم

المأزق والمجازفة


غسان شربل

ذهبت للاستفسار عن ملف آخر. وجدته غارقاً في الهموم السورية. كانت «العربية» تبث صوراً عن الوضع في حمص. وكان يتابع باهتمام مشوب بالقلق. سألني عن تقويمي للوضع في دمشق. أجبت إن مهنتي تضعني في مقعد السائل لا المجيب. وتذكرت أن السياسي العربي يعرف سورية من قرب. وتربطه علاقات بصاحب القرار فيها. وأنه صاحب تجربة في متاعب الحكم.

بعد العبارات التقليدية حاولت الانتقال إلى الموضوع الذي جئت من أجله. فشلت. فهو يعتبر الأحداث في سورية الملف «الأهم والأخطر» في المنطقة بأسرها. ويرى أن التغيير هناك سيكون في حال حصوله أهم بمرات من اقتلاع نظام صدام حسين. واختصر ذلك بالقول: «إن التغيير في سورية سيؤدي، في حال حصوله، إلى تغيير في المنطقة وتوازناتها وملفاتها وأن انفجار سورية سيؤدي إلى انفجار غير مسبوق في المنطقة».

قال إنه رافق من قرب تولي الدكتور بشار الأسد الرئاسة. ولمس أن قسماً كبيراً من السوريين علق آمالاً على الرئيس الشاب الذي سارع إلى إرسال إشارات تفيد أنه مدرك لحاجة النظام إلى عملية تجديد وعصرنة. وأضاف إن السوريين لم يحملوا الرئيس الشاب أوزار بعض المحطات الدامية التي شهدتها سورية في مطلع الثمانينات ولا أوزار الممارسات القاسية لأجهزة الأمن. وإن مطالب الناس في تلك الفترة لم تكن تتجاوز التصدي للفساد وتخفيف قبضة الأمن على يوميات الناس والشروع في معالجة وضع اقتصادي لم يحتل الموقع الأول في سلم اهتمامات الرئيس حافظ الأسد الذي أعطى الأولوية لمشروع تحويل سورية لاعباً إقليمياً بارزاً.

وشرح: «في بدايات العقد الماضي شهدنا ما عرف حينه بربيع دمشق. كان ما حدث بمثابة رسائل تؤكد الحاجة إلى التغيير مع التسليم سلفاً بأن الرئيس يملك من الرصيد الشعبي والرغبة ما يؤهله لقيادة عملية تحول تدريجية لا تهدد أسس النظام. كان ربيع دمشق فرصة لسورية ورئيسها خصوصاً أن نموذج الحزب الواحد كان قد اندحر مع اندحار المعسكر الاشتراكي. شعرت الشبكة الأمنية – الحزبية بالخوف على مصالحها فصورت الربيع بمثابة مؤامرة يجب قمعها. واستخدمت أيضاً فزاعة الإسلاميين. أنا شخصياً سمعت من عبد الحليم خدام اتهامات لأنصار الربيع وأكد أنه ورفاقه لن يسمحوا أبداً بمحاكمة عهد حافظ الأسد. لو كنت مكان الرئيس بشار الأسد لما صدقت التقارير التي رفعها جنرالات الأمن وبارونات الحزب».

وقال: «كان قرار إطفاء الربيع خطأ فادحاً. بعده انشغل الأسد بتداعيات غزو العراق ثم انسحاب القوات السورية من لبنان وحرب تموز. نجحت شبكة المصالح الأمنية -الحزبية في إرجاء أي بحث جدي في التطوير والإصلاح فترسخ الجمود وزادت المصاعب الاقتصادية وتابعت أجهزة الأمن إحصاء الأنفاس بحجة الدفاع عن النظام. وهكذا ضاعت سنوات متوالية وانتهى الأمر بالتهاب الشارع السوري بفعل الربيع العربي».

اعتبر المتحدث أن العودة إلى الوضع الذي كان قائماً قبل اندلاع الاحتجاجات متعذرة. وأن ما تشهده سورية حالياً هو نوع من المأزق: لا السلطة تستطيع وقف الاحتجاجات ولا الاحتجاجات الحالية قادرة على إسقاط السلطة. ورأى أن المأزق يتعمق وأن سورية تغرق في العزلة وأن المواجهة المفتوحة على مصراعيها قد تؤدي إلى تفجير البيت السوري والتسبب في حرب أهلية ستساهم في إعادة إضرام التوتر السني – الشيعي في المنطقة.

ذأسهب المتحدث في شرح المواقف الإقليمية والدولية وخصوصاً التحركات الإيرانية والتركية. استوقفني ما خلص إليه حين قال: «ثمة مخرج واحد لتفادي الكارثة الكبرى. لو كنت مكان الأسد لجازفت باعتماده ومن دون تأخير. يقود الأسد شخصياً عملية صادمة لوقف النزاع. يقود ما يشبه الانقلاب على بعض مرتكزات النظام. يطل على السوريين في ما يشبه البيان الرقم واحد. يعلن إسقاط المادة الثامنة التي تكرس سيطرة الحزب على الدولة والمجتمع. ويعلن تكليف شخصية معارضة تشكيل حكومة وحدة وطنية. تسند وزارة الداخلية إلى شخصية محايدة تعطى صلاحية القرار في شأن عمل الأجهزة الأمنية. تكلف الحكومة الإعداد خلال فترة زمنية محددة لأول انتخابات نيابية تعددية وبإشراف مراقبين من العالم العربي والإسلامي. يعلن الأسد أيضاً أن سياسة سورية الخارجية ستقوم على الاحترام الصارم للمواثيق العربية والقرارات الدولية والابتعاد عن المحاور».

استوقفني كلام المتحدث واستوقفني قلقه. لا أعرف ما إذا كان هذا النوع من المجازفات لا يزال وارداً أو كافياً.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى