صفحات العالم

المبادرة والمبادرون فعلاً


  سليمان تقي الدين

لم يظهر أن المبادرة العربية قد أعطت نتائج ملموسة مباشرة على الأرض في سوريا. سريعاً ما تتحوّل إلى وسيلة لاتهام «الطرف الآخر» برفضها والتحايل عليها. يصعب الهبوط من عالي الشعارات إلى الواقعية السياسية، ومن دورة العنف إلى الحوار، ومن منطق الإلغاء المتبادل إلى التفاوض. ما زلنا في بداية الطريق إلى جولات من المواجهة حتى إذا كان متعذراً الحسم لمصلحة أحد الفريقين. هذا هو المسار المعقّد للتغيير وللتحوّل الديموقراطي في مجتمعات المواطنة فيها مركّبة من هويات عدة تتنازعها مؤثرات عدة. ما تستدعيه الشعارات في التظاهرات المتقابلة، المؤيدة والمعارضة، من استلهام للشخصيات الوطنية يؤكد أن خللاً كبيراً قد طرأ على الإجماعات الوطنية. «أحفاد إبراهيم هنانو وصالح العلي وسلطان الأطرش» وغيرهم ليسوا في الموقع نفسه وفي السياق التاريخي والاجتماعي الذي أدى إلى استقلال سوريا ووحدتها.

في تجربتنا اللبنانية ألف دليل على أن الذاكرة التاريخية ليست كافية لردم الهوة التي خلقتها التطورات الاجتماعية. ولعل من المؤكّد أن الهويات ليست ثابتة بالقدر الذي يدّعيه المدافعون عنها أو الذين يستخدمونها لكبح الاستجابة لهذه أو تلك من الاحتياجات المعاصرة. في كل مكان تتبدل الأدوار والوظائف الفعلية السياسية والاجتماعية، ولو حاولت أن تقدم نفسها في ثوب إيديولوجي متماسك.

ليست العروبة التي ظلّلت حركة الاستقلال هي نفسها اليوم، ولن تكون «الإسلاموية» التعبوية هي نفسها حين تصير ثقافة السلطة. ما نحن فيه أبسط بكثير من هذه التفسيرات أو التبريرات، لأن الناس خرجت في طلب الحرية والمساواة والكرامة. وبتوصيف أكثر واقعية، هناك أفواج أو جيل من الشباب العربي يبحث عن حقه في العلم والعمل وحق التعبير والمشاركة السياسية، وفي نصيبه من ثروة بلاده وخياراتها السياسية ومن تقاسم مواردها وخيراتها، ومن إضفاء طموحاته على نظامها ودورها.

هذا المحرّك الأساس هو الذي يتجلّى أحياناً في لغات مختلفة أو وسائط سياسية وثقافية وشعارات. بل إن المحرّك الذي يدفع الجمهور إلى الفعل السياسي لا يتطابق مع وعي واحد ومع فهم واحد لطبيعة المشكلات والقضايا. يلبس الفعل الإنساني أكثر من تعبير وأكثر من شكل حتى لو كان بعض هذا التعبير أو هذا الشكل يبدو كابحاً للتاريخ والتقدم و«متخلفاً» عن «ثقافة العصر» ولغتها وأدبياتها. هذا من بعض إشكاليات الثورات العربية بل من بعض مشكلاتها الفعلية. في معظم الأحيان تظهر الرغبة في التغيير أقل من القدرة الذاتية عليه، وتدخل أحياناً هذه الرغبة في تعرجات وانقسامات المجتمع وتفقد جزءاً من وهجها وأخلاقيتها ومن كونها فكرة جامعة على المستوى الوطني. غير أن الأهم من ذلك أن الرغبة في التغيير الصادرة عن حاجة موضوعية لا جدال فيها، يعترف بها الجميع في السلطة والمعارضة، قد تندرج كما هي الحال العربية الراهنة في شبكة تجاذبات خارجية تحاول استيعابها وتطويعها لمصالح هذا الخارج الذي يؤثر في المعارضة كما يؤثر في السلطة.

فمن بين أهم شرعيات هذا الحراك العربي هذا الاستتباع الدولي لسياسة المنطقة والهيمنة على تطورها وإلغاء معظم عناصر استقلالها. فمن العبث السؤال عن الداخل والخارج في منظومة إقليمية اقتصادية سياسية أمنية تخضع إلى احتلال مباشر يتعايش معه النظام الرسمي العربي، وإلى مداخلات إقليمية يرضى بها النظام وكأنها ميزة تفاضلية. فمن مظاهر البؤس العربي أن تطلب المعارضة ويطلب النظام، كل منهما «حماية دولية»، أميركية أوروبية، روسية صينية، إيرانية تركية. حتى أن المبادرة العربية نفسها لم تكن ولن تكون مستقلة عن المناخ الدولي وبرنامجه لهذه المنطقة. لم يسبق أن استطاع النظام العربي أن يحجب الاحتلال عن العراق ولا أن يقدم حلاً عربياً في السودان أو ليبيا أو اليمن. هذا «التعريب» هو شكل من أشكال التدويل ومقدمة له. ليس من «أب صالح» أو راعٍ صالح على المستوى العربي يستطيع أن يقدم النصح والمشورة لكي يستطيع أن يساعد على حل مشكلة بحجم أزمة علاقات الأنظمة مع شعوبها. منذ أربعة عقود ولبنان، البلد الأصغر والأكثر تبعية للوضع العربي العام، ما يزال يتخبط بأزماته ونزاعاته، وكلما تدخل طرف عربي فيه انزلق أكثر نحو فقدان المناعة والاستقلال والوحدة.

قد لا تستطيع حركة الشعوب الآن أن تنجز تغييراً ديموقراطياً سلمياً. وقد يكون من بين معوقاتها الأساسية يقظة الهويات الفئوية وتوترها، «أقليات كانت أم أكثريات». لكن لا سبيل إلى إنجاز أي شيء في ظل حالة الإلغاء القائم لفعل الشعوب وحريتها. نود أن نرى «التسوية السياسية» بديلاً من أي صراع عنيف ودموي. نريد أن تغلب روح المصالحة ولو على حساب الكثير من الإصلاحات شرط فتح طريق الحرية، لكن المسألة لا يقررها طرف واحد من أطراف الصراع. ليتنا نستيقظ من هذا «الكابوس» الذي هو «طريق الحرب الأهلية» أو بعض أشكالها للتغيير. ليتنا فعلاً نسمع بمبادرة عربية شاملة للإصلاح في هذا النظام المهترئ، ونجد صحوة بمستوى أن نصوغ «دستور العرب القومي».

«للشعوب مَن يرسم الحلم، الذي ما أن تعيه حتى تحققه».

الأمل في أن هناك مَن لا يزال يحلم…

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى