صفحات العالم

المعارضة السورية: اختلاف على الحاضر واتفاق على المستقبل!


عبدالوهاب بدرخان *

يجري الأمين العام للجامعة العربية اتصالات مع مختلف أطياف المعارضة السورية، تحضيراً لاجتماع يضمّها منتصف الشهر المقبل، بهدف تذويب تبايناتها في أهداف سياسية موحّدة. وتدعم الأمم المتحدة و «مجموعة أصدقاء الشعب السوري» هذه المحاولة العربية، لأن ثمة حاجة ماسّة الى معارضة قادرة على تشكيل بديل من النظام السوري الحالي أو على لعب دور حيوي في أي مرحلة انتقالية محتملة يُفترض أن تقود الى تغيير جوهري في بنية النظام. فأحد أبرز الأسئلة التي يرددها النظام ومؤيدوه، كلما طُرح التفاوض على حل سياسي، هو: مع مَن تريدوننا أن نتفاوض؟

يعرف الوسطاء أن هذا النظام ألغى، على مدى عقود، وجود أي معارضة حقيقية، وكان السجن والنفي القسري والتصفية الجسدية نصيب من يبدي أي نقد أو رأي مخالف لما كان سائداً، ولا يزال متربصاً بكل من يمكن أن تظهره الأحداث… الى أن جاءه التحدّي من حيث لم يتوقع، من الفئات الشبابية وغير النخبوية التي قدّمت ولا تزال تضحيات غير مسبوقة فوضعت النظام في مأزق لم يستطع حسمه عسكرياً. لكنه واصل ترهيب المعارضة الموجودة في الداخل التي انضوت في «هيئة التنسيق الوطنية» وتضمّ شخصيات اعتبارية لها تاريخ في مقارعة النظام، لكن أحزابها الخمسة تتميّز بضآلة جمهورها وعدم مشاركة في فعاليات الانتفاضة وانقطاع التواصل بينها وبين «تنسيقيات الثورة». أما الشخوص و «الاحزاب» التي اصطنعها وعلّبها في ما سمّي «الجبهة الوطنية التقدمية» فيمسك عسسُه بخيوط تحريكها، كأن يرسلونها الى موسكو مثلاً بصفتها «المعارضة» المستعدّة لمحاورة النظام والموافقة طوعاً ومسبقاً على الاصلاحات التي ينتويها وهو مستمر بالقتل.

لذلك لم يتح للانتفاضة كيان سياسي داخلي للتعبير عنها وحمل طموحاتها، وعلى رغم مآخذ المعارضين النخبويين وقطاعات واسعة من شباب التنسيقيات على «المجلس الوطني السوري»، إلا أنه الإطار الوحيد الذي أمكن توفيره في الخارج وهو على تواصل وتنسيق مع الداخل آخذين في التطوّر. وعندما اشتدّ القمع وطال، ولم يبدِ النظام أي مبادرة سياسية ذات معنى، بل أمعن في الاعتماد على القتل، بدأت الانشقاقات ثم ظهر «الجيش السوري الحرّ» وراحت «حماية المدنيين» تتبلور كمهمة لهذا الجيش بعدما تعثّرت في مجلس الأمن الدولي. وهكذا ارتسم للمعارضة، من دون أي تحضير أو مقدمات، جناحان: سياسي وعسكري، بتوقعات شعبية عالية تجعل المجلس الوطني بمثابة «حكومة» مطلوب منها الكثير، لكن امكاناتها بالغة التواضع. صحيح ان النظام سارع الى الاستفادة من وجود «الجيش الحرّ» ليصوّر الأزمة على غير طبيعتها ويختزلها بمواجهة عسكرية يربح فيها الأقوى، إلا أن حقيقتها الشعبية السلمية واصلت مطاردته. فكما يخشى التظاهرات العارمة اذا أوقف القتل، كذلك يخشى الاقتراب من «حل سياسي» برعاية خارجية تمنعه من الاستفراد بمحاوريه وترهيبهم للقبول بـ «تسوية» بدل طرح عملية لـ «نقل السلطة». ولذلك فهو لم يكتفِ باختراق معارضات الداخل والتحكّم بسقف مطالبها، بل يكثّف جهوده لاستخدام وجوه منها لاختراق معارضة الخارج وتدبير تشرذمات في صفوفها لئلا يتكوّن جسم معارض قادر على فرض نفسه كمحاور أساسي في أي محاولة لإنتاج حل سياسي.

تبرر مجموعة «أصدقاء سورية» بالمجلس الوطني كممثل شرعي للشعب السوري بأنه أولاً المحاور الوحيد الذي أمكن الحصول عليه، وثانياً «المرجع» الوحيد الذي يمكن التعامل معه لفرض ضوابط صارمة على «الجيش الحرّ» وسلاحه وكذلك لضمان تعهده الحفاظ على الدولة والجيش وعدم وقوع البلد في فوضى مسلحة. وإذ تتفق دول «الاصدقاء» على أن وقف العنف شرط لازم لتفعيل «عملية سياسية شاملة» وفقاً لخطة كوفي انان، فإنها ترى وجوب الضغط على النظام «من فوق» بالاشتغال على روسيا للحصول على وقف للنار تحت المراقبة، و «من تحت» بالتوصل الى معارضة «موحدة» يؤازرها جمهور الانتفاضة. وبطبيعة الحال لا أحد يطمح الى توحيد المعارضة في اطار تنظيمي واحد بل الى الممكن، وهو «مانيفستو» يتضمن طموحات المعارضة بمعزل عن اختلافاتها الايديولوجية وخصوصيات مقاربتها لسورية ما بعد النظام الحالي. وتعتبر دول «الاصدقاء» عموماً أن ميثاقَي المجلس الوطني و «الإخوان المسلمين» متقدّمان ومقبولان سياسياً ويمكن البناء عليهما، ومع أنها تشكو من أن معارضي الداخل يملكون أفكارهم وهي جيدة لكنهم لا يملكون قرارهم، وبالتالي فهم لا يشكلون أي نوع من الضغط على النظام، إلا أنها تلحّ على استقطابهم لئلا يحوّلهم النظام أدواتٍ للتشويش على المجلس الوطني مستغلاً خوفهم من أن يكون بروز المجلس إلغاءً لهم، بدليل أنهم نسوا تقريباً معركتهم مع النظام وأصبحوا يتسقّطون هفوات المجلس.

يقول ديبلوماسي عربي شارك في لقاءات مع المجلس و «هيئة التنسيق» و «المنبر الديموقراطي» وهيئات اخرى إن المعارضة السورية تتفق مبدئياً في رؤاها المستقبلية وتتفرّق كلما استشعرت فصائلها ان المخاض الراهن لا يعطيها المكانة التي ترغب فيها، لكن المروّع في اصرارهم على خلافاتهم أنهم، على رغم مستوياتهم الفكرية العالية، لا يبدون واعين مدى مجازفتهم بطموحاتهم وأهدافهم وخصوصاً بتضحيات شعبهم. وفي دراسة بعنوان «مقاربة لخطاب وأداء المعارضة السورية منذ بدء الثورة» يلخّص الباحث المعارض الدكتور حازم نهار هذا الواقع كالآتي: «لا أحد مستعد للانضمام الى أحد، ولا أحد مستعد للتجاوب مع مبادرة أحد، والكلّ يدعو الكلّ لمبادرته الخاصة». ويلتقي الباحث مع معارضين آخرين جرى استطلاعهم على الاعتراف بأن لديهم أمراضاً موروثة من «ثقافة السلطة» التي ضخّها النظام طوال عقود تسلّطه. لكن، من دون أن يعني ذلك تبريراً أو جلداً للذات، يفيد الواقع بأن هؤلاء القوم لم يكونوا، الى شهور خلت، متعارفين ولا متحاورين ولا عاملين معاً ولا متصورين أن يدعوا الى الانخراط في عملية تتعلّق بمستقبل بلدهم سورية، ومن كان منهم منضوياً في تنظيم سياسي لم يكن لديه أي بصيص أمل في التغيير. كان عليهم أن ينجزوا في أسابيع أو شهور قليلة، ووسط مناخ لا يشجع أياً منهم على الثقة بالآخر، تحالفات يستغرق بناؤها سنوات عادةً في دول سويّة لا يعاني سياسيّوها من جلافة النظام الأمني.

يتوجب على المعارضين الحقيقيين في الداخل والخارج ألا ينسوا من يموتون يومياً لكي يعطوا الأمل لسورية والسوريين جميعاً، وأن هذه الدماء والأرواح تستحق أكثر من تعنّت النخبويين بأفكارهم أو بـ «التنازع على المناصب» والمكانات. ثمة من يعتقد، عن حق، أن وقف النار والسعي الى حل سياسي مجرد أوهام ستنكشف عاجلاً أو آجلاً، وأن التظاهرات وحدها تسقط النظام، أما «الحوار» معه فهو إسقاط لمطلب إسقاط النظام. لكن، اذا كان لا بدّ من هذا الحوار فلتعتبره المعارضة فرصة لإطفاء آلة القتل ولتذهب اليه موحدة الأهداف. فهذه لحظة تاريخية نادرة لا يجوز أن تضيّعها المعارضة بتنافس أطيافها وتخاوفها.

* كاتب وصحافي لبناني

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى