صفحات سورية

المجال العام في سوريا : من حال الإذعان إلى مقام الحرية

   * محمد حيان السمان

  ارتبطت – الساحة- في سوريا , طوال نصف قرن تقريباً, ببلاغة النظام الحاكم, وتمثيلاته المختلفة : صور وتماثيل ولافتات و هتافات حشود تتجمع وتنفضّ على إيقاع رقابة صارمة وتنظيم محسوب ومدروس وتحت السيطرة الكاملة لصاحب الأمر والنهي. لم تكن – الساحة –, بهذا الشكل, ميداناً للتواصل الاجتماعي والتعبير الحر المتنوع, بل على العكس تماماً كانت شكلاً من أشكال التعبير عن الإذعان الجماعي لمشيئة النظام وأجهزته المختلفة. وعوضاً عن أن تكون الساحة مسرحَ تعبيرات متنوعة ورهانات مختلفة, غدت إحدى البؤر القوية لتعبيرات التسلط  واحتكار المجال والدولة والمجتمع, من قبل النظام وأذرعه الأمنية والإعلامية والإيديولوجية.

  أكثر من ذلك يمكن القول: إن بلاغة تتفق مع بلاغة النظام تماماً وتدعم مصالحه وتوجهاته الداخلية والخارجية, لا يُسمح لها أيضاً بالتشكل حرة ومفاجئة وكمبادرة خاصة وسط الساحة, بل ينبغي أن تمر عبر التدقيق والتفحص وموافقة الأجهزة وإشرافها الكامل.

 نجد إحدى التعبيرات المؤسسة لسيطرة الدولة العربية على المجال العام واحتكار بلاغته, في واقعة بناء بغداد والتشكيل الطوبغرافي لعاصمة العباسيين, حيث راعى التخطيط الذي اختاره المنصور وساهم في الإشراف على تنفيذه بشكل مباشر, تأمينَ القدرة على ضبط الساحة المركزية للمدينة, وذلك بواسطة تفريغها تماماً مما يحيط بقصره الذي يحتل مركزها, وبناء سور أعلى من سور المدينة الخارجي, يحيط بالرحبة الرئيسية ويعزلها عن الطاقات – الأحياء – والسكك, فلا يمكن الوصول إليها  إلا عبر أبواب حديدية مضبوطة بالستر والحجّاب, كما يقول البغدادي. لقد تم تطوير هذا المنحى بالتأكيد, من قبل النظم العربية التسلطية الحديثة التي لم تكتف بتفريغ المجال العام, أو وضعه تحت السيطرة الأمنية فحسب, وإنما استثمرته لإنتاج وتوزيع تمثلات التسلط والإكراه, وجعلته بمثابة ساحة اختبار متجدد تقيس من خلاله – بين وقت وآخر – درجة الإذعان والخضوع في الجسد الاجتماعي العام.

  خلال الانتفاضة السورية الأخيرة, شهدنا, ولأول مرة منذ نصف قرن, حالة جديدة في سوريا, غير معهودة على الإطلاق, تتمثل في نجاح المجتمع والمواطنين في تحرير المجال العام من احتكار النظام, تمهيداً لتشكيل بلاغة جديدة داخله ترفض الاستبداد والفساد, وتعبر عن مطالب الحراك السلمي من أجل الديمقراطية والدولة المدنية.

  كان ثمة عطش حقيقي لدى المواطن السوري لأن يقف في الساحة ويعبر بحرية ووضوح عن مطالبه وتطلعاته, عن آلامه وآماله المزمنة المديدة, متطهراً من الخوف والإذعان, مستبطناً بذات الوقت مشاهد ميدان التحرير في القاهرة, مدركاً بشكل متزايد أهمية السلطة التي يوفرها امتلاك المجال العام وتنظيمه واتخاذه منصة إطلاق لتعبيراته السلمية المطالبة بالحرية والكرامة.

    في البداية تم تفريغ الساحات من عناصر البلاغة القديمة, بلاغة القسر والإرغام, لتحل مكانها بلاغة جديدة تنقضها وتندد بها. في هذا السياق جاءت عمليات تكسير تماثيل الرئيس السوري السابق, ونزع صوره وصور ابنه, وإزالة كل اللافتات التي تتعلق بالنظام وبلاغته. تلا ذلك مباشرة القيام بإعدادات معينة وتجهيزات سريعة, جعلها الناشطون بمثابة العفش الجديد لمنزل الحرية المستعادة عبر تحرير المجال العام :  فرش الساحة بالسجاد والحصر, إعداد منصات, إقامة خيم, تركيب أضواء كاشفة..الخ, مما يعكس النية بتحويل المجال العام في سوريا نهائياً إلى مساحة تعبير احتجاجي سلمي ضد النظام.

    أدرك النظام أبعاد المسعى الذي يحاوله الثوار, وشعر بأن حركة قضم سريعة للمجال العام يقوم بها شباب الثورة الذين أرادوا استعادة الدور العظيم للساحة كملاذ للشعب في مواجهة الطغيان والفساد.  اتخذ رد النظام على كل ذلك مظهرين: الأول تمثل في إعادة تشغيل البلاغة القديمة للمجال العام من خلال تنظيم تجمعات كبيرة موالية, مع إطلاق شعارات التأييد والتأليه, واستخدام رموز وطنية – سورية يمكن استثمارها لدعم البلاغة المتهاوية (النشيد الوطني وعلم سوريا..), وذلك بهدف تأكيد سلطة النظام على المجال العام. المظهر الثاني لرد النظام  تمثل في الاستخدام الوحشي للقوة من أجل فض الاعتصامات, وتفريغ الساحات من الحشود المنتفضة, وإخراس البلاغة الجديدة للثورة. وقد اتخذت العمليات الأمنية في معظم المناطق شكل الحصار وتقطيع أوصال التجمعات السكانية, والترويع والاعتقال, بهدف منع تزويد ساحات الاعتصام الرئيسية هذه بطاقتها البشرية وحراكها الشعبي.

  إن الادعاء المكشوف بوجود عصابات إرهابية مسلحة, لم يكن سوى ذريعة أراد النظام من خلالها تبرير أعمال العنف والتنكيل والقتل الفظيعة التي ارتكبها بحق شاغلي المجال العام ومستثمريه الجدد. ومن السهل ملاحظة توزع العمليات العسكرية, وارتفاع منسوب العنف والقتل فيها, من خلال توزع نجاحات الثورة في تحرير مجالات عامة و تحويلها إلى فضاءات للتعبير الحر عن رفض الاستبداد وقهر الشعوب.

  للوهلة الأولى يبدو أن النظام نجح  في استعادة المجال العام, في أكثر نماذجه سطوعاً : ساحة العاصي, ساحة الحرية – دير الزور – ساحة الصليبة – اللاذقية – ومن قبل ساحة الكرامة – درعا – وساحة التحرير – بانياس – وساحة الحرية – حمص -. يُضاف إلى ذلك نجاحه في منع الوصول إلى ساحات العاصمة الرئيسية خلال الغليان الشعبي الذي تلا مداهمة الأمن لجامع الرفاعي. لكن السؤال الحاسم هنا : إلى أي درجة سينجح النظام في إعادة تشكيل بلاغته التسلطية القسرية المعهودة داخل المجال العام المستعاد.. وهل سيكون قادراً حقاً على إعادة إنتاج السلطة داخل – الساحة -؟. يجب أن نتذكر أن العنف يستطيع تقويض السلطة, لكنه يعجز عن إنشائها, كما تذهب – حنا أرندت -. لقد أنشأ شباب الثورة سلطتهم في الساحة بمحض وسائل سلمية وحضارية , وعلى أسس شرعية ودستورية ومطالب محقة عادلة. بينما كانت وسائل النظام على النقيض تماماً : العنف العاري واستخدام أقسى أشكال التصفية الجسدية, والتنكيل بالمدنيين. لقد أفرغ العنف الساحة من كل سلطة, سوى سلطة الرعب والدم, وهي سلطة لا يمكن استثمارها أبداً من أجل المستقبل, بخاصة بعد أن جرب شباب الثورة معنى امتلاك المجال العام, ومعنى الحرية فيه.

* كاتب  من سوريا  .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى