صفحات العالم

سوريا: درب الآلام نحو الحرية

                                            يحاول المفكر الفلسطيني عزمي بشارة في كتابه الجديد “سوريا: درب الآلام نحو الحرية، محاولة في التاريخ الراهن” (عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت)، اضافة قراءة نوعية وداخلية وفي فهم الثورة السورية، على امتداد عامين. ويقول بشارة في تمهيده للكتاب “يؤرخ الكتاب لتمدد الثورة واكتساحها المناطق المختلفة في مرحلتيها المدنية السلمية والمسلحة”. متطرقين الى “استراتيجية قمع الثورة وتوليد أنماط عنف سياسي “غير مألوفة”. ويضيف “اننا ندرك تعقيد “المهمة التي أخذنا على عاتقنا القيام بها. لكن لا بد من البحث في مسالك الراهن الوعرة وزواياه غير المكتشفة وطرقاته التي يغطيها أحياناً ضباب الشائعات والأفكار المسبقة، والتي تخلط الحقيقة بالخيال علاوة عن الكذب الصريح في حالات كثيرة”.

الكتاب من ثلاثة عشر فصلاً يتناول مختلف الجوانب والظواهر التي ميّزت الثورة، مروراً بمجازر النظام، وترييفه المدن، وتطييفه الجيش…

اخترنا الخاتمة الفحوى: التي وضعها المؤلف.

جاءت الثورة السورية امتدادًا لثورات الربيع العربيّ التى انطلقت من تونس وتشابهت مع ثورة الأخيرة فى بعض مفاصل تطورها وصيرورتها قبيل أن تتحول إلى ثورة مسلحّة. وقد حاولنا في هذا الكتاب أن نعيد إنتاج تطور أعمال الاحتجاج السلمية وبنيتها الى ثورة وطنية شاملة ضد الاستبداد. ومن هنا أثبتنا عفوية الثورة ومدنيتها وأصالتها، ونقصد تجذرها في الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي السوري. كما بيّنا أنها جاءت في مجتمع مختلف بنوياً عن الثورة في تونس أو مصر، وفي مواجهة نظام أمني لا ينفصل فيه الجيش والأمن عن النظام وعن البنية الاجتماعية للدولة.

جرت في العقود الأربعة الأخيرة عملية مزدوجة هي دمج البنية الاجتماعية بالأمن، وصهر كليهما بجهاز الدولة. وهذا ما بيّناه في الفصول الأولى من الكتاب. ثم حاولنا أن نؤسس له في فصول عدة أخرى، منها الفصل المطول عن العلاقة بين الطائفية والترييف وبنية الجيش السوري وأجهزة النظام الأمنية، كي نُميّز الصحيح من الأسطوري في ما يقال عن طائفية النظام أو ما سمّيناه نحن تداخل البنية الاجتماعية للنظام ببنيته الأمنية.

انطلقت الحركة الاحتجاجية في سوريا بشعارات اصلاحية سياسية توجهها قوى سياسية معارضة وهيئات مدنية مؤلفة من فئات اجتماعية شابة مغتربة عن أيديولوجية الدولة وثقافتها، وهي تتوق الى التحرر من الدولة الأمنية، ومتأثرة بالأجواء الثورية في المنطقة العربية. لكن الزخم الشعبي الرئيس للثورة جاء على خلفية اتساع القطاعات الاجتماعية المتضررة من السياسات الاقتصادية والاجتماعية للنظام. وتجاوزت هذه الفئات، أول مرة، حاجز الخوف الذي يحكم به النظام الأمني لأن الوضع العربي صوّر لها امكانية التغيير هذه المرة بشكل عملي في دول عينية. وما ان خرجت هذه القطاعات الاجتماعية احتجاجاً على أوضاعها، أو تضامناً مع أبناء شعبها الذين تعرضوا للقتل والتنكيل حتى تفجرت مشاعر المذلين المهانين المتراكمة طوال عقود. وغطت طبقات من القمع والخوف والتبرير الذاتي للاستكانة والانتهازية وتدبير الحال بالفساد والعلاقات والمحسوبية وغيرها آباراً من الغضب وخزانات من المرارة ومشاعر القهر من التعرض للذل وانتهاك الأملاك والحقوق والأجساد. وما ان توقفت آليات التكيف عن العمل حتى تفجرت هذه الآبار العميقة بصورة براكين من الغضب الذي انطلق وصار من غير الممكن ايقافه الا بواسطة طرح النظام بدائل شاملة، وإطاراً سياسياً جديداً يطرح حلولاً عقلانية، وهذا ما لم يحصل.

راهنت القوى المسيسة وجماهير واسعة من الناس على امكانية أن يتولى النظام عملية الاصلاح السياسي التدريجي الذي يضمن التحول الديمقراطي بصورة هادئة وسلسلة تمنع انهيار الهيئة الاجتماعية في مجتمع مثل المجتمع السوري المركب دينياً واثنياً وطائفياً. لكن النظام رفض الاصلاح والتغيير، وكانت قناعته الراسخة ان القمع الأمني والعسكري هو الخيار الوحيد في التعامل مع الحركة الاحتجاجية، فارتكب الفظاعات والمجازر ما جعل الناس تسعى الى تغييره بعد أن رفض أن ينجز التغيير بالاصلاح وبقيادته.

كانت عملية الاصلاح السياسي في منزلة فرصة سانحة لسوريا قيادة وشعباً من أجل منع الكوارث والانقسامات العمودية في المجتمع، لكن القيادة السورية تعرف أن الاصلاح يعني في النهاية تغيير النظام الذي يقوم على السيطرة الكلية، ومن هنا فهو يخشى من أن أي اصلاح قد يفتح ثغرة في سد السيطرة الكلية ربما تؤدي الى انهياره. ولهذا “أضاعت” السلطة الحاكمة في سوريا هذه الفرص مرات عدة ونكثت بوعودها الاصلاحية طوال العقد الأخير. أما هذه المرة فأساءت تقدير معنى اندفاع الشعب السوري للتغيير وأبعاده في ظل أجواء التغيير في الوطن العربي، وفضّلت القمع وسيلة بدلاً من احتواء الاحتجاجات وتفهم المطالب الاصلاحية ومحاسبة القادة الأمنيين الذين ارتكبوا جرائم ضد المواطنين والمحتجين. واعتمد النظام على فكرة تقول ان في سوريا، خلافاً لما جرى في مصر وتونس، لن يتخلى الجيش والأمن عن النظام، لأن الدولة أصلاً هي دولة أمنية، ولأن ثمة رابطاً من الولاء الطائفي وغير الطائفي يجمع الأمن والأسرة الحاكمة واصحاب المصالح الاقتصادية وإدارة الدولة في مصير مشترك. وهذا الكارتيل هو الحزب الحقيقي الذي يحكم الدولة. أما حزب البعث فكانت الدولة تدرك انه صار غير قادر على تأدية أي دور مصيري في الحوادث، لأنه لا يحكم سوريا، ولأن قواعده الاجتماعية، بمن في ذلك كثير من أعضائه، انضمت الى الثورة، وكانت قد انضمت الى المتضررين من النظام بعد التحول في السياسات الاقتصادية في العقد الأخيرة. فما أعضاء حزب جماهيري مثل حزب البعث إلا جزء من الشعب الذي انضم الى الحزب بسبب ضرورة الحياة في ظل نظام كهذا.

اعتبرت السلطة التي تحكم سوريا ان الاصلاح غير مضمون العواقب. وهي لم تقم بأي اصلاح، ولا حتى جزئي، كما فعلت بعض الأنظمة العربية غير الديمقراطية في العالم العربي بين عامي 1985 و1988، في مصر واليمن والأردن والبحرين والجزائر والمغرب. وظل النظام على حاله بل اشتد احكام قبضة الأمن على حياة المجتمع والأفراد، كما ازداد تداخل الأمن بالاقتصاد، حتى وصل الفساد الى حد المجاهرة، وتحول الى قطاع اقتصادي موازٍ قائم، لا يتحرك شيء من دونه. لكن هذه السلطة أساءت الحساب في هذه المرة. فعدم القيام بإصلاح، والركون الى الخيار القمعي بالسلاح لم يخمد الاحتجاج بل فجّر غضب المجتمع وأدخله في مواجهة مسلحة مع النظام، ووقع استقطاب بين المجتمع وأجهزة الدولة (مثل الجيش)، وبين فئات المجتمع ذاته. ومع تشابكه بالصراعات الاقليمية والدولية قاد الصدام المجتمع والدولة الى المجهول.

لا يضمن الاصلاح المنضبط بقاء النظام، لكنه يضمن تحولاً سلمياً بأقل الخسائر، والبديل منه في زمن الثورة ليس تخلي الناس عن مطالبهم والاستكانة لنظام القمع، بل ادخال البلد في صراع مسلح أو حتى حرب أهلية. هذا السلوك من مميزات الثورة التي تجعلها مختلفة عن مجرد الاحتجاج. ففعل الاحتجاج يمكن أن يقمع، ويواصل الناس حياتهم بعده بالأساليب القديمة، أما الثورة فإذا قُمعت أنماط معينة من الاحتجاج فيها، ينتقل الناس الى أخرى.

اختار النظام المسار الأمني العسكري، فتحول انتفاضة درعا الجهوية الى ثورة شعبية عارمة في مختلف مناطق سورية رفعت شعار اسقاط النظام، ثم تحولت بفعل القمع الوحشي والاعتماد على الحل العسكري الى ثورة مسلحة. واختار النظام المواجهة المسلحة للقضاء على الثورة قبل أن تتسلح فعلياً، حين كانت ردات الفعل المسلحة القليلة أهلية الطابع.

كان الخيار المسلح خيار النظام وليس خيار الثورة. فلم تكن هنالك أصلاً ثورة منظمة ذات قيادة مركزية تفكر بالبدائل، وتضع الخيارات، بل ردات فعل عفوية ضد النظام من شعب حرق جسور العودة الى الماضي، أي انه مستعد لفعل اي شيء إلا العودة والتراجع الى مرحلة تركها وراءه. وتصاعدت ردات الفعل واتخذت أشكالاً تنظيمية، وواجهات سياسية تخشى النتائج وتحذر من السلاح وأخرى لا ترى بديلاً منه، وثالثة تزايد في الدفع لاستخدامه. أما النظام فخطط خياره الأمني بوعي كامل، وخاضة حتى النهاية متحالفاً مع ايران وأدواتها، ومع روسيا.

تابعنا في هذا الكتاب دينامية تطور الانتفاضة الشعبية، ثم عملية تحول الانتفاضات المحلية الى ثورة مدنية، وكذلك عملية تحول الثورة المدنية الى الدفاع الأهلي عن النفس على المستوى المحلي، ثم الى ثورة مسلحة. كان هذا الجانب التأريخي في الكتاب المرتبط بتحليل بنيوي للدولة والمجتمع. وأدى استخدام السلاح الى تحول بنيوي في الثورة، أكان ذلك للقطاعات الاجتماعية المشاركة في الثورة، وانتقال مركز ثقلها وقاعدتها الاجتماعية الى الريف وهوامش المدن، وتغيير طبيعة قادتها الميدانيين بواسطة القتل والاعتقال والتهجير، أم بالنسبة الى العلاقة بين الواجهة السياسية للثورة والثوار على الأرض، وفي ما يتعلق بتداخل العوامل الاقليمية والدولية بالثورة السورية أيضاً. ومع بطولة ثوار مدنيين حملوا السلاح، والى جانب مظاهر اسطورية من الصمود والتضحيات والاصرار، نشأت ظاهرة أمراء الحرب، وبرزت العناصر الجنائية المسلحة التي كانت قائمة في ظل الدولة الأمنية، إضافة الى العناصر الجهادية التي لا تشارك الثورة أهدافها التي انطلقت من أجلها. كما أن استمرار الثورة لفترة طويلة وظهور المذابح وجرائم الكراهية على خلفية طائفية زاد حدة الاستقطاب في المجتمع السوري، واصبحت الثورة تسير على حافة التحول الى حرب أهلية، وكانت بوادر اختلاط العنصر الأهلي بالثوري قد ظهرت منذ البداية. وفي الاجمال، وبسبب بعثرة القوى الثورية على الأرض وتنوعها، لم يجر في الثورة السورية على الرغم من طول مدتها تكوين أو تنشئة للمواطن الثوري حامل السلاح في شأن أهداف الثورة أو بشأن المسؤولية الاجتماعية المترتبة على حمل السلاح.

سيطر الثوار على مدن عدة بعد معارك ضارية من دون خطة لإدارة حياة الناس المدنية، وحاجاتهم الحارقة الى الغذاء والدواء في ظل الحصار. كما ان النظام اتبع استراتيجية قصف المدن التي أخلاها من الأرض والجو بلا تردد محاولاً الضغط على البيئة الحاضنة للثوار. وقام النظام من خلال هذه الاستراتيجية بأحد أعنف الأعمال الارهابية التي شهدها القرن الحالي ضد المدنيين من أجل أهداف سياسية. لم تنجح المبادرات السياسية في ايجاد مخرج سياسي للأزمة. كما ساهم طول الصراع واحتدامه في بروز مظاهر سلبية رافقت الثورة مثل الاضطرابات الطائفية، والمظاهر الجنائية غد تنامي دور الجماعات الجهادية والأصولية. ورافق ذلك غياب قيادة سياسية تمثل الثورة على خلفية استمرار الانقسامات والخلافات بين أقطابها. والقضية هنا تتعلق بالمستوى التنظيمي الذي يمكّن أي ثورة من اتخاذ قرار في شأن استراتيجيات الثورة المسلحة والسياسية. المسألة ليست مسألة نقاش ومواقف مختلفة في شأن الاستراتيجيات، مسلحة أم سلمية، ولا في شأن الانتقال، هل هو سياسي بإجبار النظام على تنحية أو تنحي الرئيس، أو بدحر النظام بالقوة. المشكلة هي غياب إطار ملزم تناقش فيه هذه الاستراتيجيات التي باتت موضوعاً للحوارات الاعلامية، وليس في هيئات تتخذ قراراً. وحاولنا أن نشرح بنية المعارضة السياسية في سوريا وتطورها خلال الثورة، مبيّنين أسباب هذا البعثرة الذاتية والموضوعية. لكن الخطر الأكبر يكمن في التشتت التنظيمي للقوى المسلحة وبروز ظاهرة أمراء الحرب، الى جانب الكتائب والألوية المسلحة والمناضلة التي لا تخضع لقرار مركزي، لا سياسي ولا عسكري. ولا تتعلق المسألة هنا بنوع الحل، بل بمستقبل سوريا بعد أي حل. فبغض النظر عن طبيعة الحل، يصعب تصور توحيد سوريا واعادة انتاجها باعتبارها دولة تقوم بوظائفها المدنية، وذات جيش وطني قوي، وكلما طالت مدة القتال تفاقم الوضع وازداد معه هذا الخطر.

دخل العامل الجيوستراتيجي في الثورة بقوة فما كان ممكناً أن يصمد النظام لولا الدعم الروسي والتحالف الايراني العضوي مع سوريا. ومن الواضح أن جدول أعمال روسيا هو استعادة دورها باعتبارها قوة عالمية وعدم تكرار تجربة ليبيا بعد تراجع الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان. أما إيران فتهدد الثورة العربية منجزها التاريخي الذي لم يمض على تحقيقه بضع سنوات وهو شريط من النفوذ الايراني شبه الامبراطوري والممتد من ايران مروراً بالعراق وسوريا ولبنان الى البحر المتوسط، والى موقع المُحاور مع الغرب كدولة اقليمية في القضايا المركزية التي تهم الغرب وهي الصراع العربي الاسرائيلي. والأمر الأهم لمستقبل المنطقة هو أن ايران كدولة دينية مذهبية.

رسمياً ترى أن من المشروع والطبيعي استخدام الشيعية السياسية باعتبارها طريقاً في تحقيق النفوذ، وأن من حقها توقع ولاء الشيعة العرب لها. كما دخلت تركيا كدولة اقليمية داعمة للثورة لاسباب أخرى. ومع أن تركيا ليست دولة دينية، وباتت دولة مؤسسات ديمقراطية لا بد من تمييزها عن حزبها الحاكم لفترة محددة، إلا أن قوى عربية تتعامل معها باعتبارها حليفاً طائفياً، لأنها ترى الصراع في المنطقة من هذا المنظار. ودخلت الدول الغربية الى نطاق التأثير بأجندات من نوع الحرص على ألا ينتقل السلاح الكيماوي السوري الى أيدي الثوار أو حزب الله، والا تتحول سوريا الى “قاعدة للعمليات الارهابية” في المستقبل، وأن تكون عامل استقرار في المنطقة؛ وهي مصطلحات الدبلوماسية الأميركية التي تعني أن تتخلى سوريا عن مواقفها في الشأن العربي، وأن تنضم الى السلام مع اسرائيل، وغيرها من الأمور التي لا علاقة لها بحرية الشعب السوري وكرامته. ومن هنا لم نلاحظ خلال الثورة أن هذه الدول تأثرت بدرجة القمع التي يستخدمها النظام، وبدا كأن النظام يتمتع بضوء أخضر لا يخبو لارتكاب ما يريد من جرائم حرب ضد الشعب السوري.

إذا كان النظام الأمني قادراً على استخدام أي وسيلة يريدها ضد شعبه، فمن شأن ذلك أن يطيل عمره بلا شك، لأن الأنظمة تسقط عادة في مواجهة الثورة الشعبية اذا انشق النظام وتخلى عنه الجيش، أو اذا كان مقيداً في استخدام وسائل القمع ببعض القيم الوطنية الرسمية (أو الدولتية)، أو بالتدخل الخارجي. أما اذا لم تنشق عنه قواته المسلحة، واذا نفذت أوامر النظام باستخدام القوة العسكرية ضد الشعب، واذا استخدم النظام ما يرغب في استخدامه من وسائل القمع في غياب ضوابط دولية أو روادع أخلاقية، وكان هنالك من يزوده بالعتاد والسلاح من دون حدود أيضاً، فيصبح التحدي الذي تواجهه الثورة كامناً في مدى قدرتها على خوض حرب ضد النظام الذي يقود ضدها حرباً شاملة. والحرب تحتاج الى درجة عالية من التنظيم، والى حلفاء أقوياء، ولا سيما عندما تخاض ضد جيش كبير وقوي.

ازداد نفوذ الدول الأجنبية التي لم تساهم في دعم الثورة بشكل جدي، لكنها ظلت تتواصل مع أوساط سياسية وفئات مقاتلة على الأرض بناء على أجنداتها. وهي تعظ المعارضة من دون توقف بضرورة وحدتها، لكنها عملياً تساهم في تفتيت القيادة السياسية والعسكرية وفي تفكيك حصانتها السيادية ضد التدخل الأجنبي في بلد تطمع بالسيطرة على موقعه الاستراتيجي وعلى دوره دول غربية حليفة لإسرائيل التي تحتل أراضي سورية وفلسطين. وما ميّز سلوك الدول الأجنبية المتحالفة مع النظام، أو المناهضة له، من دون تأييد مباشر للثورة، هو أن الشعب السوري لم يكن ضمن اعتباراتها، وكذلك مستقبله ومعاناته.

تعتبر الثورة السورية حالة فريدة في الاقليم لجهة تشابك العوامل المؤثرة فيها والتي قد تؤدي الى سيناريوات كارثية ما لم يتم التوصل الى تسوية سياسية (لم نقل تسوية سلمية، فنتيجة القتال ما عاد ممكنة أن تكون التسوية سلمية) تتضمن رحيل النظام وبقاء جهاز الدولة، وتضمن التحول التدريجي نحو الديمقراطية من دون اجتثاث. ويبدو خيار الحل السياسي بعيداً حتى كتابة هذه السطور بعد أكثر من عامين على نشوب الثورة. والبديل كما يبدو لنا هو تعمق الصراع وتحوله الى صراع طائفي وإثني، وربما يُنتج صراعات أخرى كامنة في المستقبل. وحاولنا في هذا الكتاب وبواسطة تفصيل طبيعة المذابح التي وقعت في مناطق التماس أن نبيّن الآلية الاجتماعية المحلية الفاعلة في ظل الاستقطاب، وأن نفحص ما يخفى عادة على وسائل الاعلام حين تتعامل مع هذه المذابح كخبر. والخطر هو احتراب طائفي مديد، أو دولة فاشلة بعد هزيمة النظام. وهذه ليست دوافع الثورة السورية وأهدافها حين انطلقت كثورة ضد الاستبداد. ولا يكفي اسقاط النظام، إذ قد تسقط معه الدولة إذا لم يتوافر برنامج سياسي تلتف حوله قوى الثورة لبناء سورية المستقبل. ولا يكفي اتهام النظام بأن المقاومة هي مجرد شعار أجوف، فقد يندفع من ينفي كل ما يمثله هذا الشعار الى التعاون مع دول تدعم اسرائيل ضد سوريا، أو حتى مع اسرائيل ذاتها، لنصبح أمام دولة فاشلة بقيادة غير حريصة حتى على سيادة البلد، وخاضعة لإرادة دول اقليمية وغير اقليمية.

ان كارثة الطائفية في المشرق العربي ليس لأنها أيديولوجيا زائفة بل لأنها متجذرة في بنى اجتماعية وفكرية حقيقية. والمطلوب هو تجذير هُويات ذات علاقة أوطد بالدولة الحديثة في مكانها، مثل المواطنة والوطنية والقومية. وهذا يتطلب صوغ وعي سياسي. الطائفية في سوريا ليست افتراء بل هي قائمة في نظام الحكم. ولا يمكن أن نطلب من المتضررين من نظام استبدادي يقوم على بنى طائفية وجهوية أن يعبّروا عن مشاعرهم عفوياً بلغة غير طائفية. فهذه وظيفة النخب السياسية التي تصوغ وعي الجماهير الشعبية وتتكلم باسمها. وهنا يدخل عنصر الوعي والتخطيط؛ فصوغ المطالب بلغة طائفية حتى لو كان النضال ضد نظام طائفي، يقود الى ما يشبه الاحتراب الأهلي. وهو في عصرنا لا ينتهي بقضاء جماعة على أخرى، بل بتسويات طائفية تفسح في المجال للوصاية الأجنبية كما في لبنان والعراق. أما صوغ النضال بلغة ديمقراطية ضد الاستبداد فتقود في حالة توافر مقومات النصر الى نهاية الاستبداد وقيام مجتمع المواطنين. لكن النظام السوري المغلق أمام أي اصلاح أو تغيير، والمصر على حيازة الدولة والمجتمع والاقتصاد كما يحوز مزرعة، يدفع الناس الى تبني خطاب مغلق مقابل، اذ أفشل النظام كل طرح ديمقراطي مدني.

فضلاً عن ذلك فإن محوراً سياسياً كاملاً تابعاً لإيران ما عاد يجتهد في اخفاء البعد المذهبي/الطائفي في تعبئة قواعده الشعبية وفي تبرير تضامنه مع النظام السوري خلال الثورة. إيران دولة قومية مثل أي دولة، لكن أيديولوجيتها الرسمية هي المذهب الديني، وهي الدولة الوحيدة في المنطقة، وربما العالم، التي يحكمها رجال الدين. وهي في رأينا العامل الرئيس حالياً في تسييس المذاهب وإعادة انتاج الطائفية وتشكيل صيغتها في المرحلة المعاصرة. وبهذا صار الموضوع الطائفي غير معتمد على العوامل الداخلية وحدها. وبغض النظر عن ماضي النظام الدموي، فإن استخدام هذا النظام لقمع الثورة المدنية كمّا من العنف مثل الاعتقال والتعذيب بالجملة، وإطلاق النار على المتظاهرين السلميين مهمة نبيلة. وبيّنا في هذا الكتاب مدى التماهي بين النظام وأجهزة الدولة، ومدى اغتراب الشعب السوري عنه، وهذا يعني الاغتراب عن أجهزة الدولة. وفي الوقت ذاته وبعد عامين من الثورة وأكثر من عام على الصراع المسلح تعمق خلال هذه الحقبة شرخ اجتماعي عميق، وظهر فيه النظام (المتماهي مع الدولة) أنه القوة المنظمة الوحيدة في سورية، واصبح من غير المسموح الاكتفاء بالعمل على اسقاط النظام من دون التفكير بالمستقبل. ولأن البديل المنظم لن يكون جاهزاً فور سقوط النظام الحالي، بل من الممكن أن تنفجر صراعات أخرى، فلا بدّ من مرحلة انتقالية سياسية، وهذا ما نقصده بالحل السياسي. أما الحل السلمي فما عاد وارداً طبعاً. ونحن نعتقد أن الرأي العام السوري المعارض جاهز لقبول مرحلة انتقالية من نظام الى آخر في إطار حل سياسي، لكن من دون بشار الأسد. ومن نافل القول ان معاونيه الأقربين الذين ساهموا في صنع القرار في هذه المرحلة يذهبون معه.

الثورة السورية هي ثورة مجيدة بكل معاني الكلمة تجسدت بخروج شعب مدافعاً عن كرامته وحريته وصموده التاريخي أمام قمع غير مسبوق وصل الى حد موت الآلاف تحت التعذيب، وبلغ الى درجة قصف شعبه بالطائرات.

ويمكن تحويل الطاقة الجبارة المادية والمعنوية لهذا الشعب في صنع نهضة عظيمة لسوريا وبلاد الشام والأمة العربية، كما يمكن أن تتحول الى طاقة سلبية تفجر ذاتها ووطنها. ويتوقف كل شيء على وعي الفاعلين السياسيين ومسؤوليتهم، ونقصد مسؤوليتهم الوطنية عن ثورة أصبحت ثورة وطنية، وصدقهم في تمثيل مطالب ديمقراطية أصبحت خلال الثورة المدنية مطالب وطنية، وكانت في العقود الأخيرة من تاريخ سوريا حلماً بعيد المنال.

هوامش

بعد الانتهاء من هذا الكتاب صدر تصريح لمسؤول ايراني مقرب من المرشد يوفر على الكاتب التحليل. ففي 4 ايار/مايو 2013 في مؤتمر صحافي عقده في مدينة قم أكد مستشار المرشد الأعلى للثورة الاسلامية في ايران للشؤون الدولية والمرشح للانتخابات الرئاسية علي أكبر ولايتي “أن سوريا ما كانت لتصمد على مدار عامين لولا وقوف أصدقائها الى جانبها”. وطبعاً ا ستخدام ولايتي اسم سوريا وليس النظام السوري، واعتبر الخطر الذي أنقذها حلفاؤها منه هو واشنطن وتل أبيب والحشد المؤيد لهما وليس الثورة، فهي غير قائمة في حسابات ايران: “إن سوريا ليست وحدها، وإن ايران لن تتركها وحيدة في الميدان”. وأضاف ولايتي أن “ايران لا تكشف أوراقها كلها بما تفعله وستفعله لسوريا، وأنه لولا دعم ايران لما صمدت سوريا في وجه المؤامرة الدولية لإطاحة النظام”. واشار ولايتي الى أن أميركا وحلفاءها لن يستطيعوا إسقاط النظام السوري. أنظر “إيران: لن تترك سوريا وحدها”، الجزيرة نت، 5/5/2013)، على الموقع الإلكتروني:

https://www.aljazeera.net/mews/pages/3dcccf33.d992-4del-819e-fea4f4fc85fi.

عزمي بشارة

المستقبل

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى