صفحات العالم

كلنا شركاء في الجريمة

زهير قصيباتي

بين أطفال العمالة في آسيا وأطفال الصناديق في أوروبا، لبعض العرب أن يحظى بسمعة «أطفال المذابح والإبادة»… وبعدما كانوا رواد تسامح ودعاة حوار، مَنْ يمكنه ان يتنصّل من لعنة ذبح الأطفال وحرقهم؟

وإن لم يكن مجدياً استحضار مزيد من أسباب التشاؤم ببركان البلقنة في المنطقة، في «ربيع العرب»، إذ يهيمن على المشهد «الجهاديون» الانتحاريون والأنظمة الانتحارية، وعبث الاستئثار بالشارع بعد ثورات عارمة… يحضر مجدداً السؤال حول سيرورة التاريخ العربي المعاصر الذي «يتقدم» من ثقافة مقاومة القمع بالحوار، الى «ثقافة» التكفير والتقتيل وتحوير العقائد في طروحات التدمير الشامل والإبادات الجماعية!

سؤال قديم؟ قد تكون مبرّرات الدونية إزاء الدول المتقدمة، كثيرة، لكن أبرزها هو وصف التاريخ العربي المعاصر بكسيح، إذا مشى تقدم الى وراء. وهو إذ مشى مع «الربيع» منذ «ثورة الياسمين»، وللمرة الأولى منذ هيمنة «أبطال ثورات التحرر» من الاستعمار، على النفوس وحجْرهم على العقول وإفسادهم الذمم وتحطيمهم الكرامات الإنسانية للعرب، ينتفض تاريخ المنطقة بأثمان لا تُشِيعُ حتى الآن سوى الرعب بدلاً من الأمل بالياسمين.

نماذج «بسيطة» على سيرورة تاريخنا عكس مسار التاريخ العالمي، منذ تغلّب في العراق نهج الانتقام والبطش بعد صدام، كأن هناك ألف صدام، ومعهم وبهم مئات التفجيرات والمذابح… وفي ليبيا تنقضّ القبائل على المؤسسات والمنظمات الإنسانية، وتتغلب غريزة السلاح على آمال ثورة تكاد أن تهوي بنزق ميليشيات، بدلاً من تمكينها من محو عقود العزلة في عهد العقيد.

في مصر، ومع إصرار «الاخوان» على الإمساك بخيوط كل السلطات، تتأرجح الثورة على حبل شرعيات ليست محصّنة من الطعن، ويتوارى جيلها خلف طموحات الجماعة التي ستواجه الامتحان العسير بعد انتخابات الرئاسة.

… وإلى ما بعد الامتحان العسير، يظل السؤال: ما الذي يبرر إصرار «الاخوان» على السير بتاريخ مصر الى وراء، فيتشبثوا بالاستئثار، وهو دائماً توأم الاستبداد الذي ثار المصريون لإطاحته؟

وإلى وراء، يصرّ بعضهم في تونس على تجريد مواطنيه من نافذة للعقل لم يغلقها عهد بن علي، رغم وطأته الشديدة، وإن كان الفضل فيها للبورقيبية. «فجأة»، فرَّخَت عقول تنصّب ذاتها حامية للدين، ومن الدين إلى التخريب طريق الى الكفر بكل القيم.

نعود الى وراء، إذا تمرّدنا على الصمت، نستقوي على الديكتاتور بالأجنبي، حتى إذا سقط نتهالك سباقاً إلى قصور جمهوريات الانحطاط. نفجّر جنازات، نجزّ الرقاب، طلاب حريات!… أو حماة لأوطانها وبلدان التعددية المخادعة التي استلّها الجنرالات وأشباههم في عصر الاستقلال، لإخماد صوت المثقف والمفكر وغلِّ قلم الصحافي. فوق رقابنا تمادى الجنرال مضلِّلاً «الرعية» بسيف التعددية كأنها منّة اخترعها لزرع بنيان المساواة، وبسيف المعركة «الكبرى» لتحرير فلسطين.

اليوم، بعد عقود التسلط ممن صادروا الاستقلالات باسمنا، نحصي القتلى والجرحى، وبينهم أطفال نجندهم ونعذّبهم، ونقطّع أطرافهم… لاستئصال «الإرهاب»! كنا دعاة تسامح، بتنا أرباب إبادة. لماذا نمشي الى أعلى درجات الانحطاط الإنساني؟

فلنعترف لمرة أننا شركاء في الجريمة، منذ صدّقنا أن جنرالات البطش يقتادوننا على طريق فلسطين. كلنا شركاء في الجريمة منذ تنازلنا عن الحرية في مقابل الرغيف، وتنازلنا حتى بات الهواء من أملاك الحكومات، توزعه حيثما يستحق الزبانية، أو الخانعون.

لا حرية ولا رغيف، ولا حياة ايضاً، إذا بات الجنرال في مواجهة الشارع، وكلما هدده بتجريده من القصر ونياشينه، أَوْغَلَ في دماء الأطفال لحماية جمهورية الوهم والدم.

أما كان عدد الجنازات والمقابر الجماعية أقل، لو استحضرنا الربيع قبل أربعين أو خمسين سنة؟ كلنا شركاء في جريمة الصمت… أطفالنا هم الأبطال، هَزَموا ضَعفَنا وهُزالَ وعينا الذي ظننا أنه ملكية فردية للرفاهية، يكفي ان تختبئ عن عيون الحاكم، لتبرّئنا من الجريمة.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى