جولان حاجيصفحات الثقافة

المدينة المفقودة هي مدينة الجميع

 

جولان حاجي

 تصف قصيدة قسطنطين كفافيس الأشهر “في انتظار البرابرة”، مملكة كسائر الممالك والدول. راجت هذه القصيدة بين قراء العربية، بترجمات سعدي يوسف ونعيم عطية وممدوح عدوان وسواهم، وقرئت في جنازة إدوارد سعيد بوصفها قصيدته الأثيرة. يتخيّل الروائي المصري طارق إمام حياة الشاعر في روايته “الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس” على نحو يختلف كثيراً عن رباعية لورانس داريل “الإسكندرية”، وتستهلّ قصيدته القصيرة “المدينة” فيلم يسري نصر الله الذي يحمل هذا الاسم نفسه (المدينة).

خلت حياة الشاعر المصري – اليوناني كفافيس (*) من الأحداث الدرامية والأسفار، واقتصرت علاقاته الاجتماعية على دائرة ضيّقة من الأصدقاء. عاش إلى مماته في المدينة نفسها، الإسكندرية، وزاول العمل نفسه موظفاً في دائرة الري ومضارباً في البورصة، وتناول في قصائده الموضوعات نفسها: التاريخ واللذة والجمال والفن. استوقفه الطغاة الذين استحوذتهم فكرة مجنونة واحدة، كالإمبراطور الروماني جوليان الذي حاول أن يمحو المسيحية في بداياتها ليعيد الإمبراطورية إلى بهاء تعدّدها الوثني. استأثرت تلك المرحلة باهتمام كفافيس الذي اعتبر نفسه شاعراً مؤرخاً أو مؤرخاً شاعراً، لكنه كان مقلاًّ إذ أتلف معظم مسودّاته. معظم الشخصيات في قصائده التاريخية، السياسية بالمعنى اليوناني القديم للكلمة، هي شخصيات مجهولة، مونولوجاتها المختزلة تدور في العصور الهيلينية أو الرومانية أو البيزنطية، إذ لم يكترث بالبطولات والعظماء أو بمناهج تدريس التاريخ.كانت شخصيات تعيش على سواحل مصر أو في سوريا أو آسيا الصغرى. كانت الإسكندرية بالنسبة إلى كفافيس، مثل يوكناباتاوا فوكنر أو دبلين جويس أو نيوإنغلند روبرت فروست، جزءا من مخيلته وماضيه الشخصيين، دون أن يأتي غالباً على ذكر العرب.

لعل أسباب عدم شهرة كفافيس في عصره هي ذاتها أسباب شهرته في عصرنا. فعلى الرغم من ثقافته الواسعة غير الأكاديمية، وإجادته عدّة لغات ساعدته في العثور على وظيفته الدائمة، رفض الدخول إلى السوق الأدبي، وظلّ شعره في سرده الوقائعي بعيداً عن البلاغة، خالياً من أية زخارف، لا تُستخدم فيه التشابيه والاستعارات، وترد فيه من النعوت أقلُّها وأبسطها، فالفن، كما رآه، لا يمثّل الواقع ولا يحاكي الحياة ولا يستنسخ الطبيعة. كان مؤرّخاً في قصائده الحسيّة وحميماً في قصائده التاريخية. لم تصلح قصائده للمراجعات الصحافية ودروس الإنشاء؛ فيها اندمجت اللغة اليونانية الكلاسيكية واللهجات المحكية (استفاد بازوليني لاحقاً من مزية هذا الأسلوب المتعذرة ترجمته)، فالحضارة الإغريقية التي اندثرت بقيت لغتها، ثم تقاسم مهزوموها إرثهم في لهجات شتى.

لغة كفافيس نثرية، عباراته مقتصدة عادية، قاموسه محدود دون أي تفخيم أو مبالغات. في قصائده الإيروتيكية، يتحدث عن عالمه الحسي المثليّ، دون التطرق المباشر إلى ما يمتعه أو تسميته، وفيها علاقات عابرة غالباً أو قصيرة الأجل، وحين يستعيدها لا يفسد ذكرى اللذة بمشاعر الذنب أو الندم، وهذان الشعوران الممضّان يُذكران في يومياته كلما اشتكى من الاستمناء.

لم ينشر كفافيس في حياته إلا قصائد قليلة. طبع كتاباً واحداً صغيراً، وما أخفى خوفه من آراء القراء. كان يوزع النسخ القليلة باليد (وكذلك فعل لاحقاً الشاعر المصري عماد أبو صالح)، ويشعل الشموع لضيوفه ويلعب الورق في المقهى ويتبادل النكات أحياناً، ويعود إلى عزلته في منزل أمه الذي تحوّل إلى متحفه. قبل أن يتوفى بسرطان الحنجرة، رسم دائرة على ورقة فارغة ثم وضع نقطة في منتصفها. توقفت يده إلى الأبد، إثر تلك الحركة الأخيرة، مثلما توقفت في شبابه عند اسم “الإسكندر” حين كان يعدّ قاموساً تاريخياً لم يكتمل قط.

(*) صادف 17 نيسان الفائت الذكرى الخمسين بعد المئة لولادة كفافيس

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى