خولة حسن الحديدصفحات سورية

المرأة المقاتلة في صفوف وحدات حماية الشعب الكرديّة بين الواقع والأسطورة/ د. خولة حسن الحديد

 

 

 

أشعلت صور النساء الكرديّات المقاتلات مع قوّات حزب الاتّحاد الديموقراطيّ الكرديّ المعروفة ب “وحدات حماية الشعب” مواقع التواصل الاجتماعيّ، والمواقع الإلكترونيّة الإخباريّة، وتوالت مئات التقارير والتحقيقات الصحفيّة العربيّة والأجنبيّة خاصّة، والتي تُمجّد المرأة الكرديّة المقاتلة، وترسم حولها هالة من القداسة حوّلتها إلى “بطلة” من بطلات الأساطير التي قرأنا عنها. بل، وبلغ الأمر ببعض التقارير الإعلاميّة أن قاربت حدّ “الخرافة” في صياغة القصص الخياليّة التي لا تشبه الواقع بشيء يُذكر. ولا شكّ أنّ ذلك كلّه كان وراءه آلة إعلاميّة ضخمة، صنعت (بروبوغندات) إعلاميّة واجتماعيّة تتماشى مع سوق الاستهلاك الإعلاميّ اليومي، والذي يُحاكي عقول الناس المُستلبة اليوم بـ “الصورة المرئيّة” و خاصّة العقل الغربيّ المعاصر المرعوب من “الإرهاب”، والذي تحوّل أيضاً إلى أسطورة أخرى استفادت منها الأسطورة الأولى في ترويج نفسها وتكريسها كحالة وظاهرة على النقيض له بل وتقاتله. فهل هذا كلّ شيء؟

بداية، لا بدّ من التمييز بين المرأة الكرديّة عموماً، والنساء الكرديّات المنضويات تحت لواء “البيشمركا” في إقليم كردستان العراق، وبين المرأة الكرديّة الملتحقة بوحدات حماية الشعب، وتم إنشاء فصيل خاصّ بها باسم “وحدات حماية المرأة الكرديّة”، فبالنسبة لمشاركة النساء الكرديّات في مختلف مناحي الحياة ومنها “القتال”، فهذا ليس تطوّعاً أو تجنيداً، وإنّما النساء يشاركن في القتال منذ عهد قديم وهنّ “جنود أساسيّون” ليس في البيئة الكرديّة فقط، وإنّما في كلّ مجتمعات المنطقة، مثلما يشاركن في العمل اليوميّ والزراعة والرعي وغيرها من أعمال.

في الوقت نفسه، تتعرّض النساء لكمّ هائل من الضغوطات والممارسات الاجتماعيّة الظالمة كغيرها من قريناتها من بنات مجتمعات المنطقة، بدءاً ممّا يُسمّى بجرائم الشرف المنتشرة بكثرة بين الأكراد في كلّ مجتمعاتهم وصولاً لعدد كبير من قضايا الحرمان من الإرث وغياب المساواة وغيرها، والتي تتشابه من الناحية الاجتماعيّة والقضائيّة مع غالبيّة المجتمعات العربيّة.

وكما أنّ المشاركة الحقيقيّة في مجالات الحياة هي موروث عربيّ وكرديّ قديم ولا يحتمل تأويل، فإنّ كلّ الممارسات تلك أيضاً موروث كامل لا يحتمل الجدل، ومع المعاناة الطويلة التي مرّت بها المجتمعات المحلّيّة الكرديّة كان للمرأة خصوصيّتها وقد نالت نصيبها الأكبر منها.

مع ذلك، ومع كلّ ما حقّقته ” البيشمركا ” ورحلة مصطفى البرزاني، ومن بعده ابنه مسعود من مكتسبات للمجتمع الكرديّ، إلّا أنّنا لم نشهد صوراً للمرأة تُشاع وتُكرّس بطريقة استهلاكيّة فاضحة، كما أشيعت من خلال ما يُسمّى “وحدات حماية الشعب”، وكلّ المؤسّسات والتنظيمات المنبثقة عن حزب الاتّحاد الديموقراطيّ الكرديّ في سورية.

صناعة الأسطورة وتكامل عناصرها

لم يكن جديداً وجود النساء الكرديّات في معسكرات “قنديل”، و لم يكن طارئاً التركيز على المرأة في فكر حزب العمّال الكردستانيّ الذي يستمدّ كلّ مرجعيّاته من فكر وأقوال وسلوك زعيمه عبد الله أوجلان؛ فما الذي جعل صورة المرأة المقاتلة تطغى على السطح ويُدفع بها إلى الواجهة خلال مجريات الثورة السوريّة، وخاصّة بعد ظهور التنظيمات المتطرّفة، كتنظيم “داعش”؟

أدرك القائمون على حزب الاتّحاد الديموقراطيّ منذ البداية أهمّيّة تسويق أنفسهم لدى الغرب، على صورة نقيضة لبيئات الثورة السوريّة، التي أثقلها الحصار والقتل والإبادة الجماعيّة اليوميّة، والتشرّد الذي يُظهر غالبيّة أهالي تلك البيئات بصورة بائسة، وخاصّة بعد ظهور التنظيمات الإسلاميّة المتشدّدة والتي اتّخذت من المرأة هدفاً أوّل لتطبيق كلّ أفكارها المتطرّفة عليها، وعلى النقيض تماماً كان حزب الاتّحاد الديموقراطيّ الكرديّ يُظهر صورة المرأة المقاتلة في صفوفه. وفي تكريس لتلك الصورة، كان لا بدّ من أسطرة هذه الحالة وتكريسها لتشغل وسائل الإعلام ليل نهار، كصورة نقيضة لكلّ ما كان يُضخّ إعلاميّاً، وبشكل يومي من باقي المناطق السورية، وكان لا بدّ من تضافر كلّ عوامل صناعة الأسطورة ليتمّ ذلك.

مُحرّرات عين العرب (كوباني)، الخيال الذي أضحى واقعاً

تقوم صناعة الأسطورة على عدّة عناصر أهمّها “الثبات و التكرار”، ومع هذا العنصر تُضاف عناصر الغموض والكثير من شطحات الخيال، واستخدام متكرّر لصيغ المبالغة والاعتماد على اللامنطقي، ومن ثمّ يأتي دور وسائل الإعلام الحديثة في استكمال صياغتها وتعزيزها، وغالباً ما نجدها تعزّز قيماً أخرى، من أهمّها الكذب وتعزيز القيم الماديّة والتفرقة والأنانيّة، وإعلاء المصلحة الشخصيّة على المصالح العامّة، والأهمّ من ذلك كلّه، خلق التباس كبير حول مفهوم الاستعباد، بجعله يبدو وكأنّه مفهوم للحرّيّة، استناداً إلى تسطيح وعي المتلقّي من خلال كسر المألوف والمتوقّع، أو إحداث صدمة للمجتمع والأفراد، صدمة تتعارض مع كلّ التوقّعات، ومع مناخ وقيم المجتمع، صدمة تعتمد آليّة إحداث الصدمة والخروج عن المألوف نفسها التي يقوم بها  صنّاع الدراما والسينما، والذين يحوّلون المجرم إلى بطل، و يمجّدون العنف الذي يجد تعاطفاً كبيراً من الجمهور على حساب قيم أخرى، فيصبح البطل العنيف أسطورة لا تُقهر. لا شكّ إنّ عنف الواقع وقسوته تخلق  تلقّياً جماهيريّاً، خصوصاً لدى فئات الشباب، لمتابعة ذلك القادر(الأسطورة) على التفوّق في ممارسة العنف، فالأسطورة أو البطل هنا متجاوز للواقع القائم، وقادر على أن يكون حلماً ممكناً أمام كلّ شابّ يستطيع أن يقلّده أو يرى فيه نفسه، ومسألة تقليد البطل أو التماهي معه تتعلّق باستهلاك الجمهور للخطاب أو المحتوى الفنّى والإعلاميّ  للصورة التي تمّ تصديرها.

بلغت صناعة “أسطورة المقاتلات الكرديّات” ذروتها، بكلّ العناصر المشار إليها أعلاه خلال احتلال تنظيم “داعش” لمدينة عين العرب (كوباني)، وخلال عمليّة تحريرها، فعدا عن الأسطرة الهائلة التي حصلت للمدينة نفسها، والتي كان للمقاتلات الكرديّات النصيب الأكبر منها، فقد ظهرن هنّ أنفسهنّ كأسطورة، أسطورة شارك في صنعها كثير من الإعلاميّين والحقوقيّين والمثقّفين، من خلال تداول الروايات الخياليّة والمفبركة على أنّها واقع، واقع تبيّن لاحقاً وخلال فترة قصيرة أنّه كان من صنع خيالات الإعلاميّين، ولم يكلّف أحد نفسه عناء الاعتذار عن الكذب والفبركة.

من الأخبار التي تمّ تداولها خلال معارك تحرير مدينة عين العرب (كوباني) من تنظيم “داعش”، انتشر خبر مرفق بصورة رأس لمقاتلة كرديّة شقراء، تتدلّى جديلتها ورأسها يحمله مقاتل “داعشيّ” وقد فصله عن جسدها، المقاتلة الكرديّة المفترضة “ريحانة” التي قتلت أكثر من مئة “داعشيّ” قبل أن تقع بيد عناصر التنظيم ليقوموا بذبحها انتقاماً. تبيّن لاحقاً أنّه: لا وجود لريحانة، ولا وجود لمقاتلة قتلت مئة “داعشيّ” وأُسرت وتمّ ذبحها، وانتهت الكذبة بأسطورة تتداولها مئات المواقع الإلكترونيّة اليوم، مع صورة لا أحد يعرف من صاحبتها!

الرصاصة السرّيّة

رواية أخرى، خرجت من مدينة عين العرب(كوباني)، عن المقاتلة الكرديّة الجميلة التي قتلت مئات “الدواعش”، و من ثمّ تمّت محاصرتها فقتلت نفسها برصاصة لكي لا تقع أسيرة بأيديهم، ولتكتمل عناصر الأسطورة، كان لا بدّ أن تنشر العشرات من التحقيقات في الصحافة الأجنبيّة تزامنا مع هذا أحاديث للمقاتلات، تبيّن كيف أن كلّ واحدة منهنّ قد تركت رصاصة يسمّونها “الرصاصة السرّيّة” لتقتل بها نفسها في حال وقعت أسيرة، وليتزامن هذا أيضاً مع نشر عدد من صور لمقاتلات وهن يقفن فوق رؤوس قتلى من عناصر “داعش” كما أشير عند نشر الصور، وليتعرّف لاحقاً أهالي عدد من الضحايا من عشيرة “الجبور” في الجزيرة السوريّة على أبنائهم بين المقتولين والذين قد تمّ خطفهم من بيوتهم، أو من أماكن عملهم واختفوا، ليظهروا وقد أصبحوا قتلى “دواعش” تحت أقدام المقاتلات الكرديّات، ورغم نشر أهالي الضحايا لرواياتهم وتعرّفهم على أبنائهم من الصور، لم يُكلّف أحد نفسه عناء البحث في هذه الصور وعناء الكشف عن الضحايا، و ضاع دمهم بينما تكرّست الأسطورة أكثر.

عشرات الصور المتداولة لليوم، والتي فاضت بها الصحافة العربيّة والغربيّة ومواقع التواصل الاجتماعيّ، كانت لنساء جميلات، شابّات في مقبل العمر، وأحياناً بكامل أناقتهنّ، ويحملن الكلاشن، أو يقبعن خلف المدفع الرشاش، وتحقيقات صحفيّة عديدة معهنّ يدلين بدلهونّ أنهنّ يحرصن على الذهاب للقتال بكامل أناقتهنّ، لأنهنّ يدركن تأثير هذا على عناصر “داعش”، وأنّ عناصر التنظيم يمقتون أن يقتلوا بيد “امرأة متبرّجة” لأنّ ذلك سيحرمهم من الجنّة، هذه الرواية التي لم يسمعها أحد إلّا من المقاتلات الكرديّات، علماً أنّ “داعش” يعلن عن نفسه وبنية تفكيره أكثر ممّا ينبغي أحياناً.

ولتكريس صورة المقاتلات الجميلات المتبرّجات، كان لا بدّ من نشر صور تتماشى مع هذا الخطاب الإعلاميّ لتدلّ عليه مرئيّاً، ومن يراجع الصور الملتقطة للمقاتلات الكرديّات في صفوف الوحدات سيجد ذلك الكمّ الهائل من “احتقار المرأة” عندما يركّزون في التقاط الصور على وجوه الجميلات فقط، بينما الأقلّ جمالاً وغير الجميلات لا حظّ لهنّ ليكنّ ضمن إطار الصورة؛ لأنّ وجودهنّ يربك الرواية ويقلّل من مصداقيّتها، وهذا أبشع استغلال لصورة المرأة وجسدها، وامتهان لكرامتها الإنسانيّة، و يُسقط كلّ الادّعاءات التي يتغنّون بها، ويذكّرنا هذا الفعل بسلوك بعض السوريّين الذين يحتفون احتفاءً خاصّاً بصور الجميلين و الأنيقين من الأطفال الشهداء دون أن يلفت نظرهم الطفل الأقلّ جمالاً وأناقة!

ليس كافياً تسويق صورة الجميلات من المقاتلات والتركيز عليهنّ فقط، فصناعة الأسطورة تتطلّب ثباتاً لرؤية معيّنة يجب تكرارها يوميّاً، ولذلك لا ضير أن تُنشر صور لمقاتلات كرديّات من إقليم كردستان العراق في صفوف (البيشمركا) واللواتي لا يتقدّمن مواقع القتال كمقاتلات الوحدات الكرديّة في سورية، لذلك متاح لهنّ التبرّج والأناقة أكثر، لكن ما الضير في استعارة صورهنّ وتسويقها على أنّها للكرديّات السوريّات اللواتي يقاتلن “داعش”؟ وما الضير أيضاً أن تُسرق عشرات الصور لطالبات جامعيّات من “أربيل” ارتدين بحفل خاصّ لتكريم (البيشمركا) ودعمهم اللباس العسكريّ، والتقطن صور (سيلفي) على مدرّجات الجامعة وفي ممرّاتها، ومع ذلك يُمكن لهنّ في الإعلام أن يصبحن من عناصر وحدات الحماية الكرديّة في سورية، ما دام لا أحد يسأل ويبحث عن أصل ومصدر الصورة، وما دامت جميعهنّ كرديّات، فما المانع من استعارة صورهنّ لاستكمال صناعة الأسطورة التي تعود على الجميع بالفائدة؟ حسب رؤية من وراء هذا كلّه.

الوطن الأمّ ” كردستان” أهمّ من الأمومة ومن حاجة الطفولة إليها!

الوطن ” كردستان” أهمّ من كلّ شيء وفوق كلّ شيء، حتّى إنسانية الإنسان، وهؤلاء الذين يُصدّرون أنفسهم كعشّاق للحياة والموسيقا والجمال، وكمقاتلين ضدّ من يغتال الحياة، يبلغ بهم المآل أن تصبح الأمومة حجر عثرة في وجه تحرير الوطن، لذلك ليس من الضرورة أن تتزوّج المقاتلة وأن تصبح أمّاً. لكن ماذا عن المقاتلات اللواتي التحقن بقتال “داعش” خاصّة في عين العرب (كوباني) وهنّ آتيات من كلّ البلدان المجاورة والتي تتشكّل فيها جغرافية “كردستان”؟

صورة المرأة الكرديّة الإيرانيّة، وهي تجلس على كرسيّ وتظهر ثديها لترضع رضيعها وبجوارها بارودتها، وهي بلباسها العسكريّ الكامل، لا تعكس عشقاً للأرض والوطن، أكثر ممّا تعكس صورة احتقار للأمومة، وانعدام الوعي بحرمان الرضيع من أمّه المقاتلة التي يُمكن أن تقتل في أيّة لحظة، بينما يدفع المرأة الكرديّة الإيرانيّة  هذا “الشغف” للقتال أن تأتي لتقاتل مع رضيعها في سورية. يعبر إلى أوروبّا الجبال والبحار يوميّاً آلاف الشباب الأكراد هربا من جحيم الحرب وصراعات بيئاتهم ليقوموا من هناك بتمجيد المقاتلة (الأمّ)، وليصبحوا عنصراً فاعلاً في صياغة أسطورتها الخاصّة.

الام المقاتلة

أمّ كرديّة أخرى، ومن هيئتها في الصورة يظهر عليها صغر السنّ، تُنشر صورتها كمقاتلة تتزيّن بشعار حزب الاتّحاد الديمقراطيّ، متجاورة مع صورة أخرى لها وهي تعانق طفلين دون السابعة من العمر هما أبناؤها، الطفلان اللذان قد يكون هذا آخر عناق بينهم وبين والدتهم، وليس هناك من أحد ليأخذ مكانها في القتال ويترك للأطفال حقّ الحياة بكنف “أم”! هذه الصورة التي تُمجّد الحياة ممن يدّعي أنّه محبّ للحياة ، كلّ هذا غير مهمّ، فمن يأبه؟! المهمّ أن تبقى الأسطورة كاملة بكلّ عناصرها، و اليتم والحرمان من الأمومة يبقى أمراً ثانويّاً جدّاً.

في منبج، تكتمل الصورة بين الجمال والرحمة و المحبّة الفائضة!

لا يكفي الأسطورة أن تظهر المقاتلات كحسناوات جميلات فقط، بل لا بدّ من إظهار إنسانيتهنّ الفائضة، وامتلاكهنّ الوقت الكافي ليس للتبرّج والأناقة والتقاط (سيلفي)، بل هنّ مثال للرحمة والمحبّة، و تتمتزج معاً صورة الجمال مع المحبّة والمشاعر الطيّبة والتعاطف الإنسانيّ في صور عناق الضحايا الناجين من قبضة “داعش” في مدينة منبج، وفي حمل أطفال النساء اللواتي أنهكهن التعب والظلم والحرمان، ولفّهن السواد، ليشرق نور النساء الكرديّات المقاتلات ليشملهنّ بعطفهنّ، فيتاح الوقت والمجال لابنة منبج أن تدخّن (سيكارة) حرمها منها حكم “داعش”، وأن تحرق عباءة السواد بشكل استعراضي لافت، ولكن تلك الرحمة و المحبّة الفائضة لم تدفع هؤلاء ولا عدسات الكاميرا التي تصوّر كلّ هذا إلى نجدة ومساعدة المرأة التي ولدت طفلها في العراء بعد أن أجبروا أهالي قرية “شاش البوبنا” بريف منبج على مغادرتها وطردوهم من بيوتهم بينما كانت “الرحيمات” على بعد أقلّ من 100 متر بدوريّاتهنّ من مكان ولادة المرأة التي طلب ذويها النجدة منهنّ ولم يجدوا أيّ عون.

الرحيمون والرحيمات! ذاتهنّ من أعطى إحداثيّات بلدة “التوخار – توخار كبير” في ريف منبج ليقصفها طيران التحالف ويسقط العشرات من المدنيّين الأبرياء غالبيّتهنّ نساء وأطفال، وهذا باعتراف الأمريكيّين العلنيّ واعتذارهم عن الخطأ الذي تسبّب بالمجزرة.

هذا كلّه لا تسجّله عدسة الكاميرا، لأنّه يمثّل ضربة قاضية للأسطورة التي باتت تلامس حدود  الخرافة.

بعيداً عن عيون الكاميرا،  حيث لا أسطورة

أوّل أساطير البطولة تسقط عندما نتذكّر ونعرف وندرك أنّ مدينة عين العرب (كوباني) قد تمّ احتلالها من قبل تنظيم “داعش” خلال أقلّ من 8 ساعات، عين العرب بريفها كلّه، وكلّ بطولات المقاتلين والمقاتلات الأكراد تمثّلت فقط في حثّ الناس على المغادرة بسرعة لتفرغ المنطقة من أهلها خلال ساعات، والبطولة تتجلّى في رفضهم ورفضهنّ توزيع السلاح على الأهالي للدفاع عن أراضيهم وبيوتهم وممتلكاتهم، بل كلّ ما كان عليهم أن يخرجوا على عجل بثيابهم فقط، وفقط تحضر البطولة وتُنسج الأساطير عندما تحضر في الأجواء طائرات التحالف، خاصّة الأمريكيّة منها الأكثر منحاً للأمان وصنعاً للبطولات الكرديّة في سورية، حيث لا نساء مقاتلات يقتلن مئات من عناصر “داعش” إن غاب الطيران من الأجواء.

بعيداً عن أعين الكاميرا، وبعيداً عن تركيز العالم الحرّ على قيم الحرّيّة وتمجيد بطولات الأحرار، تُخطف الطفلات الكرديّات من مدارسهنّ، ومن بيوت ذويهنّ، ويُسقن إلى معسكرات التدريب ليتمّ تأهليهنّ سريعاً وزجّهن في المعارك سعياً وراء “الأسطورة”، القاصرات اللواتي ملأ ذويهنّ العالم صراخاً ومظاهرات، وبلغ بوالد إحداهنّ أن أقام ليله ونهاره أمام أحد المعسكرات يريد طفلته، وعندما هدّد بحرق نفسه إن لم يستردّها منهم قالوا له “لتفعل، فمن أنت لنأبه” وسمع منهم كلاماً مهيناً جدّاً، ليفعلها الرجل! بالفعل، يحرق نفسه ويرحل عن عالمنا كسيراً مهزوماً، أمام إنسانيّة لا تلتقطها عدسات الكاميرا، و لا ترويها خطابات الإعلاميّين و تحقيقاتهم، ولا تتغنّى برحيله قصائد الشعراء العرب والكرد.

بعيداً عن أعين الكاميرا، في مثل هذه الأيّام تحديداً، ترتكب الوحدات الكرديّة مجزرة بشعة بأهالي قرى الحاجيّة وتلّ خليل في ريف محافظة الحسكة، تُقتل فيها النساء ويقتل الأطفال الرُضع، فقط لأنّهم “عرب” ولأنّ قراهم تقع ضمن (الإقليم الكرديّ) المُفترض، وحيث لا “دواعش” هناك ولا إرهاب، المقاتلة الكردية – هي ذاتها تلك الرحيمة في منبج – تسحب الرضيع من حضن أمّه التي تتوسّلها أن تتركه فليس سوى رضيع، فيأتيها الجواب: “أليس عربيّاً!؟ يجب أن يموت”. ولتصفع رأس الطفل على الأرض مودعاً العالم برحمة فائضة من امرأة كرديّة مقاتلة تصنع مجد كردستان الغربيّة وأسطورتها الخاصّة.

بعيداً عن أعين الكاميرا، و خطابات الإعلام، في عفرين يُحاصر منزل الشيخ حنّان وجيرانه فقط لأنّه “برزاني” ويميل الرجل وأولاده إلى البرزانيّين ويحبّهم ويحترمهم. يقتل الشيخ وأولاده وتُرمى جثثهم في الشارع، ولا أحد يجرؤ على الاقتراب منها حتّى يأذن المقاتلون والمقاتلات من عناصر الوحدات، والمرأة الكرديّة المقاتلة هي ذاتها التي أهانت نساء عائلة الشيخ حنّان وسلبت من أيديهن أساور الذهب والحليّ، ولم تسمح لهنّ بمغادرة المكان الذي يحترق، إلّا بعد سلبهنّ تجريدهنّ من كلّ شيء عداً ملابسهنّ. والمشهد ذاته تكرّر في مجزرة قرية “برج عبدالوا” بريف عفرين؛ حيث لا غفران للأهالي لتأييدهم الجيش الحرّ، ولم تشفع لهؤلاء أو لعائلة الشيخ حنّان كونهم “أكراد”.

كلّ هذا وغيره الكثير، لا ترصده أعين الإعلاميّين الحولاء، ولا تأبه له قصائد الشعراء التي تتغنّى ببطولة القدّيسات، ولا تلتقطه عدسات الكاميرا.

بين أسطورة الإرهاب وأسطورة المقاتلات الكرديّات

لا يُمكن لأيّ إنسان ألّا تهزّه مشاهد أسر النساء الإيزيديّات وسوقهنّ كسبايا إلى أسواق للنخاسة، ولا شكّ أنّ الصورة التي صدّرها تنظيم “داعش” عن معاملته للمرأة واحتقاره لها وكلّه باسم الشرع والدين، وكما أنّه لا يُمكن إنكار ما ظهر من صور اضطهاد للمرأة السوريّة و امتهان كرامتها في بيئات الثورة على يد التنظيمات الإسلاميّة المقاتلة، وكان هذا كلّه مناسبة وفرصة عظيمة لتكريس صورة المقاتلات الكرديّات كأساطير وخرافات نقيضة لتلك الصور الفظيعة التي شاهدها العالم.

تلتقي هذه الأسطورة بشكل مباشر وتتقاطع مع عناصر أسطورة أخرى هي ” الإرهاب”، فمنذ أسطورة ابن لادن، وفي معنى يقترب من صياغة أسطورته يمكن أن نتعرّف أيضاً إلى أسطورة “الإرهاب”،  فنحن من خلال أسطورة ابن لادن ندرك التشابه الكبير في كيفيّة صنع الأساطير الحديثة في الإعلام والسياسة أيضاً، والتي بلغت ذروتها في الكيفيّة التي بها صيغت معلومات وخبر وفاته، إذ يقوم معظم تلك المعلومات على مصادر محدّدة، وليست هناك من جهة محايدة شاهدة على ما قيل إنّه قد حدث، وبالتالي تصبح لدينا في هذا الخصوص قصص تصلح لتقترب من مفهوم “الخرافة”، أكثر ممّا تقترب من الواقع والحقيقة.

وتبين الحكايات التي تُروى حول هذا الأمر لنا معنى صياغة الخرافة والأسطورة في وسائل الإعلام، فمفهوم الإرهاب أيضاً من المفاهيم التي اشتغلت عليها وسائل الإعلام، الغربيّة أوّلاً، ثمّ تناقلتها وسائل الإعلام العربيّة وغير العربيّة، دون أن توجد لها صيغاً تقرّبها من الحقيقة والواقع، فما زال مفهوماً ملتبساً لا وجود واضحاً له ويتحمّل العديد من التأويلات، ويتمّ استخدامه في مناسبات وشروط غالباً ما تناقض بعضها بعض، لكنّها قد تلتقي في شكل واحد، ألا وهو استخدام الكلمة في التعريف لكلّ الأنماط السلوكيّة التي لا تتقبّلها الذهنيّة الغربيّة المعاصرة، وكمفهوم ملتبس وغامض خارج إطار تعريف واضح حتّى اللحظة، باتت الدلالة عليه في تكريس الصورة تلك هو “مقاتلة الإرهاب”، ذلك الإرهاب المتمثّل بتنظيم “داعش” اليوم.

وكيف إذاً لا تزداد أسطورة المقاتلات الكرديّات بريقاً و لمعاناً حين تلتقي بأسطورة “داعش” لتنتعش أكثر فأكثر، وليصبح للإرهاب والعنف وجهة واحدة ومظهر واحد وكلّ ما سواه هو النقيض، حتّى لو مارس أبشع صور التوحّش كتلك التي مارسها المقاتلون الأكراد في سورية من قتل ومجازر وتهجير وحرق المنازل بعد نهبها، تلك الصورة التي تبزّ “داعش” بخطوات، بل وتتماهى معها أيضاً في اجتذاب المقاتلين المرتزقة من كلّ أنحاء العالم، فمن “جيل روزنبرغ” المقاتلة الإسرائيليّة التي قال عنها راديو إسرائيل: “هذه المرأة قرّرت دعم الأكراد من خلال خبرتها العسكرّية التي اكتسبتها خلال خدمتها في الجيش الإسرائيليّ”، إلى العشرات بل المئات غيرها ممّن باتوا يقاتلون في صفوف الوحدات الكرديّة مثلهم مثل آلاف الأجانب في صفوف “داعش”، لكن الارتزاق أنواع وأنماط ومنها ما هو محمود ومرغوب عالميّاً، ومنها ما هو مغضوب عليه.

لا شكّ أن فائض العنف فى مجتمعاتنا كبير جدّاً، وله جمهوره وضحاياه أيضاً، ولا شكّ أنّه يوجد احتياطيّ هائل من الراغبين أو الحالمين بممارسة العنف والجريمة على غرار ما يقوم به أبطال الأساطير “الداعشيّة” والكرديّة (الآبوجيّة)، ولعلّ الإقبال على استهلاك عنف الأساطير تلك و ترويجها والاحتفاء بها هو  مظهر من مظاهر التنفيس الاجتماعيّ، فمشاهدة العنف تقلّل من التوتّر لدى المشاهدين، لكنّ جرعات العنف الظاهرة التي تظهر في تلك الأساطير، باتت مصدراً أساسيّاً وسبباً لتبنّي بعضها وتبريره والدفاع عنه أيضاً.

فمتى يُمكن أن تسقط تلك الأساطير التي جانب الكثير من عالم الخرافة؟ وكيف يُمكن تقبل كلّ هذا التمييز بين عنف وآخر، فقط لأنّ الأدوات والأساليب والمظاهر تختلف؟ في الإجابة على هذه الأسئلة تسقط كلّ الأساطير.

موقع كلنا سوريون

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى