صفحات الثقافةمنذر مصري

المرثيات الثلاث لموتٍ الطائر/ منذر مصري

(إلى كلِّ من نصحني بالتركيز على كتابة المسرحيات، ولم أبال بنصيحته، معتبراً أنّ غايتهُ المضمرة إبعادي عن الشعر).

هذا النصّ، أقرب إلى أن يكون نصّاً مكتوباً للقراءة أكثر منه معدّاً للعرض، أمّا في حال تصوره قابلاً للتمثيل، حيث كلّ نصّ مسرحي، مهما كان ذهنياً، أو متخيلاً، يحلم بأن يصير واقعاً، وأن يرى نفسه معروضاً، ولو على سبيل التجربة، فيجب أن يراعى البطء الشديد لمجرى الأحداث فيه. لذا ينصح، لأجل إطالة فترة العرض ما أمكن، أن يقوم الممثلون بحركات متنوعة، كالجلوس على الكنبة، أو الوقوف على النافذة، أو تدخين السجائر، صامتين، أو يرتجلون شيئاً ما. كما أنّه من الممكن أن يجري الواحد منهم حواراً عابراً، أو يخصّ العمل، ودوره فيه، مع أحد الحضور، أو مع مجموعة منهم.

– تقتصر المؤثرات الصوتية، على صوت مذياع، تخرج منه نشرة أخبار، ومقاطع موسيقية، أو أغنيات، يفضل أن تكون من نوع الجاز العربي («أنا مش كافر« مثلاً). كما تصدر في بداية الستارة الثالثة، زقزقة طيور آتية من الخارج.

– الإنارة، في الستارة الأولى (مساء)، بواسطة مصباح كهربائي عاديّ يتدلّى من الأعلى، أمّا في الستارة الثانية (ظهراً)، والثالثة (صباحاً)، إضافةً إلى الإضاءة الكاملة البيضاء، التي توحي بالنهار، تدخل حزم من النور ترسم على أرض الغرفة وجدرانها، مستطيلات ومربعات ساطعة.

– خشبة العرض، تمثل غرفةً، بنافذة في منتصف الحائط الخلفي، وكنبة ثلاثية في الجانب الأيمن، وعلى الجانب الأيسر، مصطبة ملتصقة بالجدار، تعلو عن الأرض ما يقارب المتر، يقبع عليها العصفور طوال الوقت.

– الستارة، يفضّل أن تكون مزدوجةً من الجانبين، يغلق طرفاها وهما يتّجهان إلى نقطة الوسط.

– تستخدم في الحوار لغة مبسطة مع تسكين نهايات الكلمات ما أمكن.

الشخوص:

العصفور: شاب في العشرين من عمره، بلحية خفيفة، يرتدي ثياباً ملونة، تشبه الريش، تنتفخ، ويتضخّم حجمها، طرداً، مع تطوّر الحدث.

(أ): شاب في الثلاثين يرتدي بيجاما منزلية مخطّطة، ماعدا في الستارة الأخيرة.

(ب): أكبر عمراً من (أ) بسنتين أو ثلاث، يرتدي بزّة ًكاكية، توحي بأنّها عسكرية، لا يغيّرها أبداً.

(ج): أصغر عمراً من (أ) بعدّة سنوات، بثياب عادية، يضع كلتا يديه في جيبيّ بنطاله، ولا يخرجهما إلاّ في نهاية الحدث.

[المشهد الأول:

الوقت، أول المساء، المشهد معتم قليلاً، ولكنه يسمح بالرؤية لحد ما.

العصفور، يجلس على أرض المصطبة، (ب) يدخل ويلحق به (أ). (ب) يشعل المصباح الكهربائي، فتضاء الغرفة وتظهر محتوياتها بصورة كاملة. العصفور ينتبه، ويلتفت إلى (أ) و(ب) اللذين يقفان قريبين جداً من المصطبة، ينظران إليه. يقف العصفور برهة، وينظر إليها بالتتالي، ثم يعاود الجلوس.

(أ) يخاطب (ب): إنّه على هذه الحال منذ أربعة أيام، لا يتحرك إلاّ إذا حثثته، لا يزقزق، ولا يأكل إلاّ قليلاً.

(ب) يدور حول المصطبة فاحصاً العصفور: أظنّه أجرب.

(أ): لكنه لا يحكّ على الإطلاق.

(ب) يقترب جداً من العصفور، ويمدّ يده يتفحّص ثيابه، العصفور يلتصق بالجدار، وتظهر على وجهه علامات الإنزعاج: ماذا تطعمه؟

(أ): الخبز والماء.

(ب): فقط؟

(أ): ممممممممم وبعض ما أظنّه يشتهيه. لا أظنّ شيئاً من بقايا الطعام الذي نأكله في البيت تضره.

(ب): قلت لك، نصحتك مراراً، أن لا تطعمه سوى الخبز. ستقتله بهذه الطريقة التي تظنّ أنّه سيحبك أكثر بها.

(أ): لكنه يحبّ هذا، لا ريب أنّه يحبّ أن أنوّع له. كما أن البائع أخبرني، أنّه من الجيد إطعامه كلّ ما أجده يقبل عليه. الخضار والفاكهة ولا بأس بشيء من المعجنات.

(ب): ستقتله لا ريب. ماذا يعرف التجار عن الطيور؟ يعرفون كيف يشترونها ويبيعونها، وكيف يجنون أرباحاً منها، هذا كلّ ما يعرفونه عنها، ولا شيء آخر.

يتوقف (ب) فترةً ثم يكمل محتجّاً: إنّه عصفووووووور، وليس كلباً.

(أ) يفكر برهة، ثم يسأل: إذن، ما الذي يجب أن نفعله الآن؟

(ب): اتركه هكذا.. لا تطعمه بعد هذا إلاّ كسرات من الخبز، وطبعاً، وبعض الماء النظيف كلّ يوم. ولا شيء آخر… ثم لا تفتح النافذة، لا تدعه يخرج أبداً.. دعه كما هو.

العصفور يغمض عينيه، يطفئ (أ) المصباح الكهربائي، وتعود الغرفة لعتمتها وصمتها، (أ) و(ب) يخرجان.

[المشهد الثاني:

الوقت، بعد الظهر. الإضاءة قوية، حزم من النور تدخل الغرفة من الجهة المقابلة للمصطبة، حيث النافذة، فتشكّل بقعاً ضوئيةً على شكل مستطيلات ومربعات على أرض الغرفة وجدرانها.

العصفور يجلس على المصطبة، وقد انتفخت ثيابه بصورة ملحوظة، يلتفت يميناً ويساراً. ومن حين لآخر، يأخذ بيديه الإثنتين كسرة خبز، ويقضمها.

(أ) و(ج) يدخلان، ويتوجهان مباشرةً إلى المصطبة. (أ) يدور حول العصفور، و(ج) يقف إلى جواره، واضعاً يديه في جيبي بنطاله.

(ج) لا يبدو عليه أيّ تأثّر: صار يشبه البومة.

(أ): إنّه مريض.

(ج): ألوانه باهتة تماماً، ما هذه الألوان!؟

(أ): لا علاقة لمرضه بهذا. هكذا تصير كلّ العصافير التي تحيا في الأقفاص. أما البرية منها، وبسبب تعرّضها الدائم لأشعة الشمس، وما تأكله من خضار، ذات الأوراق الملونة، هي التي تجعل رؤوسها حمراء قانية، على النحو الذي نراها به أوّل ما يصطادونها.

(ج): أظنّه سيموت.

(أ): بل إنّه متوعك لا أكثر. قال لي (ب) إنّ سبب مرضه، هو تلك الأشياء التي أطعمه إياها. ورغم أنّي غير مقتنع كثيراً بهذا، لأنّي لا أظنّ الحيوانات، وبخاصةً الطيور رغم ذكائها، لا تعرف ما يفيدها وما يضرّها، ولكني أعترف بأنّه مرّ بحالات إسهال حاد. مشكلته..أو قل مشكلتي معه، أنّه لا يشكوا أبداً.

(ج) بعد فترة صمت: تصوّر، في هذه الأيام، أو بعدها بقليل، نحن في آذار أليس كذلك؟. أقرانه الذكور يصعدون ويهبطون فوق إناثهم، وهو بفضلك على هذه الحال!

(أ): لو لم يكن ضعيفاً لأطلقته. ما أخشاه أنّه لا يستطيع أن يجد طعاماً له في الخارج. تعلم أنّه ليس معتاداً أن يبحث عن الطعام بنفسه، خلال هذه الشهور التي قضاها هنا، كان يجد طعامه في المكان المخصص، العصافير في الأقفاص تعتاد ما يقدّم لها، وربّما تدمن.

(ج): سيموت على أيّة حال.

(أ) بعد فترة صمت: أتصدق.. عندما أنظر إليه من أتذكر؟

(ج): لا يجيب.

(أ): سلوى

(ج) بعد قليل من التفكير في أوجه الشبه: ألأنّها سمينة.

(أ): ربّما، وربّما بسبب سترتها المصنوعة من فروة الخروف، التي لم تنزعها عنها طوال فصل الشتاء، ويزيد عن هذا وذاك، أنّها عندما نكون سويةً لا تفعل شيئاً سوى أن تتكوّر هكذا.

(ج): السبب برأيي، كلاهما يكرهانك!.. لا يوجد أفضل منك وأنت تدفع كلّ من تحبّ لأن يكرهك. أنت لا تصلح لتربية أيّ شيء.

(أ): بعد صمت: عندما سيشفى سأطلقه. وسوف أربّي بدلاً منه كناراً. الكنارات تولد وتحيا وتتزاوج في الأقفاص. الأقفاص هي المكان الطبيعي التي خلقت لتحيا به.

(أ) و(ج) يخرجان، يعتم المكان شيئاً فشيئاً، وتغلق الستارة.

[المشهد الثالث:

الوقت، أوّل الصباح. الإضاءة بيضاء، حزم نور تدخل من الجهة اليمنى، تقع حزمة نور ساطعة على العصفور. العصفور يزداد انتفاخاً، وهو ملقى على الأرض تحت المصطبة.

يدخل (أ) مرتدياً بيجامته المخططة، وحاملاً بيده آنيةً صغيرةً بلاستيكية، يرى العصفور بهذه الحال فيتجه صوبه محدثاً جلبة. العصفور ينتفض ويتسلق حرف المصطبة، ثم يقف فوقها لاهثاً متنبهاً.

(أ): يضع الآنية على المصطبة، ويخاطب العصفور مبتدئاً كلامه بزقزقة: بست.. بسبس.. بست. إنّه ما تحبه، كعك مسحوق مع السكر!. عليك أن تأكل شيئاً ما، ما دمت تعاف الخبز. ثم، إنّني لا أصدق أنّ الكعك الذي ينصح به للأطفال، والعجزة على السواء، من الممكن أن يكون ضاراً للعصافير. لا أصدّق أبداً.

العصفور يجلس القرفصاء، منحنياً فوق الآنية، ينظر حيناً إلى ما في داخلها، وحيناً إلى (أ). ثم يبدأ بازدراد ما تحتوية.

(أ) يعود إلى الزقزقة: بسبس.. بس. بست.. بست. وت وت.. بس.. بس.

العصفور بصوت ضعيف: بست. وهو يتابع طعامه، دون أن يهتم لوجود (أ).

(أ) يبدأ كلامه بصفير متقطع: ووتو.. وووت. ووت وت.. وت وت. ستشفى لا ريب. ستشفى أيّها العزيز، ولن أطلقك بالتأكيد.. لا تخف.

العصفور يتوقّف عن الطعام، ويحاول إصلاح هندامه، ما أمكنه، ثم ينظر إلى (أ) ويبتسم، مطلقاً زقزقة: بست بست.

(أ): تبدو عليه السعادة: لا أصدّق أبداً أنّك تكرهني!.. سأرتدي ثيابي وأعود.. انتظرني.

يخرج (أ). العصفور يتوقّف عن الطعام، وكأنّه أنهى ما وضع له (أ) في الآنية. يمكث فترةً على وضعه هذا، تعود بها ملامحه للانقباض، ثم يهبط عن المصطبة، ويتكوم عند حافتها على الأرض، كما رأيناه في بداية الستارة، وقد انتفخت ثيابه للحدّ الأقصى. يلتفت يميناً ويساراً مرةً واحدة، قبل أن يخفي رأسه بين ساعديه المكتفين.

يستغرق ذلك مدةً من الوقت، تكفي أن يبدل (أ) بيجامته، ويعود مرتدياً بزّةً سوداء رسمية. لكنه ما أن يدخل حتّى يهرع إلى العصفور وينحني فوقه، ويهزّه. العصفور، وقد عادت ثيابه لحالتها الطبيعية، لا يبدي أيّة إشارة على الحياة.

(أ) منحنياً وقد ظهرت عليه علامات التأثر: مات.

[المشهد الرابع:

(ب) و(ج) يدخلان بالثياب ذاتها التي رأيناهما بها سابقاً، ويساعدان (أ) بجرّ جثة العصفور، إلى منتصف ووسط المنصة. حيث يمددونه على ظهره، جاعلين ساقيه مفتوحتين، وساعديه ممدودين على آخرهما، ورأسه يتدلّى من حافة المنصة، فيبدو وجهه مقلوباً باتجاه الحضور المفترضين.

يقف (ج) على الجانب الأيمن، و(ب) على الجانب الأيسر، أما (أ) فيقف في الوسط، بين ساقي العصفور.

(المرثية الأولى):

(ج) بصوت حيادي، ومن دون أن يخرج يديه من جيبيه، إلاّ عندما يصل إلى جملة (لتطير وتطير وتطير)، عندها يفتح ساعديه ويخفق بهما، وكأنّه يطير على إيقاع الكلمات:

هذا ثالثُ عُصفور، أو ربما رابعُ عصفور. أو في الحقيقة، لا أذكرُ عددَ العصافير التي رأيتُها، تموتُ في هذا المكان.

ودائماً.. بسببِ حالةٍ مرضيةٍ غامضة. يدَّعي صديقُنا، أنَّ لا يدَ لهُ فيها، ولا حيلةَ أيضاً.

العصافيرُ كائناتٌ رقيقةٌ وهشَّة، ما أن يُصيبَها عارضٌ ما، حتّى تتكومَ وتموت.. ولطالما سمِعتُهُ يُردِّدُ: (العصافيرُ تموت.. ولا أحدَ غيرَ اللهِ يدري لماذا؟).

في مناسبةٍ كهذه، لا شيءَ مهماً لَديَّ لأقولَه. إلاّ إنَّني اكتشفتُ أمراً لافتاً، وهوَ أنَّهُ، بقدرِ ما يُحزنُنا موتُ الطيور، بقدرِ ما نحنُ نستطيعُ التغلُّبّ سريعاً على أحزانِنا، عائدينَ بعدَ دقائقَ قليلة إلى مشاغلِنا، وكأنَّ شيئاً لم يكن.

الطيورُ بمختلفِ أنواعِها، ومختلفِ أحجامها، لم تُخلق لتحيا في الأقفاص.. هذهِ حقيقة، لا أدري أيَّ عماءٍ أصابَ البشر، حتّى لا يروها، ويدعوها وشأنَها. خُلقت الطيور (يمدّ ساعدَيه ويخفق بهما عدة خفقات)، لتطير، وتطير، وتطير.

ليسَ صُدفةً، وليسَ عبثاً، أنَّ لها أجنحة..

(المرثية الثانية):

(ب) في الجانب الأيسر، وبهيئته الجدّية وبصوته الحازم:

لا تطعمهُ سوى كسراتِ الخبز. هذا ما قلتُهُ لهُ مراراً، ولم يفعل. ويا لها من حُجةٍ واهية، عندما راحَ يحشو له بطنَهُ بأيِّ شيء، مردِّداً: (إذا لم يأكُل.. فسيموتُ بأيَّة حال).

وبما أنَّ كلَّ شيءٍ في الطبيعة يختلطُ بصورةٍ عشوائية، لذا وجدت القوانين. فأنتَ لا تترُكُ الأعشابَ تنمو وتنتشرُ بينَ الزرع، كيفما اتفَّقَ. كما لا تستطيعُ أن تترُكَ الكلابَ، تسرحُ وتعوي وتعضُّ من تشاء في الشوارع. فهذه الطيورُ تحسَبُ أنَّ لا عملَ لها، إلاّ أن تمضي محلِّقةً في السماء، من هنا إلى هناك، قاطعةً الأرضَ منَ الغربِ إلى الشرق، ومنَ الشمالِ إلى الجنوب، غيرَ مباليةٍ بحدودٍ أو مخافر، باتّجاهِ غايةٍ ما من غاياتِها، التي لم تبدِّل أيّاً منها، منذُ بدءِ الخليقة. وقد حملت في مناقيرِها، قشَّةً أو عشبةً أو دودة، فإنَّ حجراً ما، سَهماً ما، طلقةً ما، سوفَ تنفضُ الريش.. وتؤذي اللحم.

الطيورُ لم تُخلق للأقفاص، اتفقنا على هذا. الطيورُ أقولُ لكم (يرفع يديه لمستوى وجهه مسدداً نحو الحضور فوّهة بندقية وهمية): خُلِقت للصيد..

(المرثية الثالثة):

(أ) يقف شارداً وواجماً لبرهة، محاولاً أن يستعيد بعضاً من مكانته، ومن سيطرته على الوضع، بكونه صاحب العصفور والمتهم بقتله بآن. ثم يخرج ورقة من جيبه، ويبدأ القراءة، بصوت عاطفيّ متهدّج، يصير طبيعياً شيئاً فشيئاً مع الوقت:

لستُ أنا مَن قال: (لا يحتاجُ الإنسانُ ليحيا سعيداً، لأكثرَ من كوخٍ على الشاطئ، وعصفورٍ في قفص). بل السيدُ كازنتزاكيس نفسه.

غير أنَّ حياةَ العصافيرِ قصيرة، الكلُّ يعلم. ومن لا يضعُ ذلكَ في اعتبارِه، ولا يستطيعُ احتمالَ موتِ عصفورِه

مهما اشتدَّت وحدتُه، ومهما بلغت حاجتِهِ له، عليهِ أن يبتعدَ عن تربيةِ العصافير.

سيموتُ لا محالة، كنتُ أعلم. وأعترفُ أنَّها ليست أوّلَ مرة، التي يحصلُ معي شيءٌ كهذا. لكني حقيقةً، ما كنتُ أحسَبُ لهذا التسرُّع.

تلكَ الأيامُ القائظةُ ذاتُ البريق، لم ينتظرها. ربَّما لم يكُن يُصدقٌ أنَّها ستأتي. فقد كانَ صداحُهُ، أشبهَ بنُباحٍ مكتومٍ لجروٍ صغيرٍ، مربوطٍ ببابِ زريبة.

نعم كانَ يكرهُني. فكُلَّما كنتُ اقتربُ منهُ، كان ينفشُ ريشَهُ يُريدُ إخافتي. وكلَّما قدّمتُ لهُ شيئاً، بدلَ أن ينقُرَهُ ويتذوقَه، كانَ ينقُرُ أصابعي. وبينما كنتُ أبذُلُ كلَّ جهدي في رعايتِهِ وخدمتِه، حتّى يُغيِّرَ مشاعرَهُ نحوي، دونَ جدوى، كنتُ أتساءلُ ما السبب؟ اليومَ توضَّحَ لي كُلُّ شيء، كانَ يعلمُ أنّي سأقتلُه.

في النهاية، كُلُّ ما بقيَ منهُ، ذِكراهُ وجثَّتُه. وهذا عادةً كلُّ ما يبقى منا، نحنُ أيضاً، ماذا أكثر!؟ الذِكرى (يُعبِّرُ بوجههِ وبحركةٍ من يدَيهِ عن حَيرتِه) لا أدري ما النفعُ منها. والجُثَّةُ، إمّا أن أضعَها في كيسِ القمامة، وإما أن أرمي بها إلى حديقةِ الجيران، لتنهشَها القِطط!

يتحرك طرفا الستارة بعد انتهاء (أ) من كلمته، على الدفعات، وكأنّ هناك عطلاً ما في مسارهما، إلاّ إنّهما يغلقان بسرعة زائدة عندما يقتربان من الوسط، ويطبقا كحدي مقصلة، على رأس العصفور، الذي يبدو منه وجهه متدلياً من على حافّة المنصّة، وقد فتح كلتا عينيه.

(اللاذقية)

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى