الشباب والثورةصفحات مميزة

“المركز السوري للإعلام وحرية التعبير”


يا صوتي ضلّك طاير..
يارا بدر.

مازن درويش, هاني الزيتاني, حسين غرير, عبد الرحمن حمّادة, ومنصور العمري. بعضهم أصدقائي وبعضهم لم تهبنا قوى المخابرات الجويّة في سوريا وقتاً للصداقة, فجمعتنا تلك الفكرة المليئة بالقسوة, بالخصوصيّة, نحن زملاء اعتقال واحد, أنا ومنصور العمري.
هذا ما أعرفه عن منصور العمري, أنّه ابن درعا. وأنّ أمّه تزادا تعباً يوماً بعد يوم. لاحقاً بعد خروجنا نحن العاملات في “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير” من اعتقالنا في فرع المخابرات الجوية والذي دام ثلاثة أيام, بدأنا نحاول اكتشاف أصدقاءنا المعتقلين معنا. نحن خرجنا وهم لا يزالون. نجحنا في الحصول على صورة لمنصور حين كان طالباً جامعياً, وطوال ثلاثة أشهر لم نعلم عنه أي شيء آخر. لاحقاً خرج ثلاثة من زملاءنا وحدثونا عنه. عن تعبه وعن قوته, وعن آماله. وغدا منصور العمري صديق اعتقال. أفكر بأنّ هذا الزمن الذي جمعنا في تغييبه القسري لمنصور سيملأ أيامنا القادمة بالأحاديث, وربما تحمل إحداهما بسمة لكلينا.
أمّا الباقون فكل منهم حكاية, عبد الرحمن حمادة أوّل الحكايات وأرقها. عبد الرحمن أصغر العاملين في المركز سناً, والذي تمّ اعتقالنا يوم عيد ميلاده. لم يكن عبد الرحمن حزيناً وهم يقتادوننا في الباص الكبير أو خائفاً منهم, هو المُعتقل سابقاً لدى فرع المخابرات الجوية, وأكثرنا إدراكاً لما ينتظره من ألم وغياب, كان فقط حزيناً لاحتفال عيد ميلاده المسروق يوم الخميس 16 شباط 2012. بدأ عبد الرحمن عاماً حزيناً, عاماً غدا بدوره مسروقاً منه, بعد انقضاء (220) يوماً في الاعتقال القسري, لكن عبد الرحمن سيعود وأياً كان يوم عودته, سنقيم له حفل عيد ميلاده.
حسين غرير أعرفه كذلك قليلاً, لكنني وبعد ما يزيد على السبعة أشهر, أصبحت أعرفه صغيريه “زين” و”ورد”, وأعرف كيف كبرا في كل يوم وهما يحلمان بعودة الاب الغائب من سفره. لا أحد يقول للصغار أنّ السفر إجباريٌ, لا أحد يخبرهم عن الاعتقال ورعبه, علّهم يبقون في أفكارهم البريئة تحميهم من كوابيس الفجر وزواره. لكن أعلم عن شجاعة حسين, المدوّن السوري الذي اعتقل معنا ولم يكن قد مضى على خروجه من اعتقاله السابق شهران. في ذلك الزمن الفاصل بين اعتقالين, حلم حسين بأن يسافر ولديه وزوجته إلى مكانٍ آمن, وكان قراره البقاء في بلادٍ تعيش حلماً ممنوعاً طوال عقود, وتنحو إلى غياهب المجهول, يقرن مصيره بمصيرها كاملاً. هادئاً, مبتسماً, ثابت العزم هكذا أذكر حسين غرير, وآمل بأنّ المستقبل القادم سيكون لنا, وسنحظى بفرصة للعمل معاً, بوقت للتعارف, وبأن نكون أصدقاء.
هاني الزيتاني, صديقي في المكتب, وصديقي في الأغاني. هاني المبتسم في الصباحات دوماً, قليل الكلام, شديد الاهتمام بتفاصيل عمله, مليءٌ بالأحلام. يضع قهوته على مكتبه ويطلق العنين لسجله الخاص من أغاني “فيروز” الصباحية, أقول الصباحية وإن كنا نذهب معها طوال ساعات. لاحقاً نصغي إلى “سميح شقير” وكلماته: (ستعلمين يا فتاتي, أنني ضربت حتى الموت, حتى ازرقت عظامي, حتى بكت جدران زنزانتي من ألمي, وما فتحت فمي, إلاّ لكي أقول لهم, سيحاكمكم أيها الجلادون دمي.. في أقبية الاستجواب, هجم الفاشيون علي, كنتِ وكان الوطن, وكنت أخبئكم داخل عيني .. ).
أتوقع أن هاني يحفظ هذه الكلمات والمئات غيرها عن ظهر قلب, ولزوجته الغالية, لسناء الرقيقة, المسكونة بالحزن, يُغنيها..
أخيراً وليس آخراً, وأوّلاً مازن درويش, رئيس المركز, وصديقي الذي لم أعرفه مثله صديقاً. طال غيابه الذي لطالما استهتر بخوفي من وقوعه, كنت أحدثه عن الكوابيس التي تعلمتها وأنا صغيره, عن الرعب الممكن والقائم في كلّ لحظة, ومازن يبتسم ابتسامته الحزينة, وينتهي الكلام. يواسيني في غيابه ذكرى بريق عينيه الطفولي حين بدأ الحلم, حين اعترانا الخوف أنّه ربما لن يستمر, واستمر.. حين كان يهتف لي: “آآآآآآآآآآآيه في أمل”.. ويتردد صدى كلماته في فضاء منزلنا الفارغ من دونه: “شدي حيلك يا بلد.. الحريّة بتتولد”..
إلى أصدقائي وزملائي في “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير”, إلى الذين عملوا رغم معرفتهم بإمكانية الاعتقال في أيّة لحظة, ولصالح أيّ فرع مخابرات من أفرع المخابرات العديدة في بلادي, إلى من حلمنا معاً بمجلتنا الجديدة, بالتقرير الجديد عن وضع الإعلام في سوريا, إلى من تشاجرنا حول التفاصيل معاً وعبسنا بوجه بعضنا معاً, إلى من ابتسم لنا مُشجّعاً وهو ينزل من الباص الكبير إلى غرفة تسليم الأمانات في فرع المخابرات الجوية, وآخر ما أجمعنا عليه كان أنّ “المعنويات مرتفعة”, أعلم أنكم بخير, وأعلم أنكم ستعودون قريباً وستعود لنا جميعنا حيواتنا المسروقة.

خاص بصفحات سورية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى