صفحات الرأي

الجوهر والعرض: الإسلام والحرب اللاجوية/ وسام سعادة

 

 

يتلو الشهر الشهر، والحرب العالمية اللابرّية التي أطلقتها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين والعرب، ضد تنظيم الدولة الإسلامية، تكاد لا تساءل، لا في ذاتها ولا في نتائجها حتى الآن، ويُصار عوضاً عن ذلك إلى تحويل الأنظار إلى الأساليب الفانتازية لاعدام مسلحي التنظيم للرهائن على أنّها مركز الموضوع، ومساحة القول أو عدمه، مع بث دعاية ملازمة تأنف من أي تسييق للرعب الداعشي المبثوث، كما لو أنّ ظروف الارتكاب هي مسألة معيبٌ طرحها .. كما لو أنّ الحرب العالمية اللابرّية المتواصلة غير حاصلة ضد هذا التنظيم.

هذه الحرب «عالمية» من جهة التحالف العريض الذي ينخرط فيها، ومن جهة تجديدها لمناخ «الحرب العالمية على الإرهاب» الذي سبق للمحافظين الجدد الأمريكيين ان جعلوه صفة ملازمة لزماننا. لكنها، عالمية، ضد تنظيم عنده علاقة مزدوجة مع العالمية. فهو من جهة، أممي في تكوينه، فيه من كل أمم الإسلام عصبة، ومن مسيحيي المولد في الغرب عصبة. لكنه من جهة ثانية، يحاكي في أغلبية تكوينه المسألة «العربية السنية» كما تطرح نفسها، بشكل متداخل بين سوريا والعراق، والأهم، هو يتميز عن تنظيم «القاعدة»، بوضوحه «الترابي»، بسعيه أن تكون له الجغرافيا خاصته، وان أراد لها بأن تتمدّد.

وهي حرب «كلّية». لأنها تعتبر نفسها فوق القانون، وتعتبر جهاديي «داعش» فاقدي أي حق لدى القانون، فهم النقيض بامتياز لفكرة القانون. هم أعداء مطلقون وليسوا بموجب هذه الحرب أعداء سياسيين بأي قدر. هدف الحرب قتل أكبر عدد ممكن من مسلحي التنظيم وليس دفعه لقبول أي شيء. ليس مطلوباً منه شيئاً. المطلب فقط قتل من ينضوون تحته أو ينضمون اليه.

هي اذاً، عالمية وكلّية ضد تنظيم أممي وترابيّ في آن. لكنها، ويا لها من مفارقة، حرب سطحية، ما دامت حرباً لابرّية. أي أنها، بخلاف التدخل الفرنسي في مالي مثلاً، حرب بلا معارك. هذه الوضعية، كحرب بلا قوانين حرب (الحرب الكلّية) وحرب بلا قواعد حرب (الحرب اللابرّية أو السطحية) ينتج عنها المزيد من فانتازيا الرعب الداعشية، في وقت لا يتخطى فيه العنف الداعشي، إلى الآن، أي عتبة من عتبات الاستثنائية والفرادة في درجات العنف. صحيح أنّ للتنظيم أحلاما أبادية كثيفة، وخصوصاً ما تعلّق منها بالعلويين والشيعة، لكنه بعيد نسبياً عن تنفيذها، أقلّه لحدود استطاعته ومناطق سيطرته. لا شيء يقارن في هذا الباب مع «الخمير الحمر» مثلاً. قام التنظيم بآلاف أعمال القتل والتهجير لكنه لم يتمكّن بعد، ومن الصعب جداً أن يتمكّن، من بلورة وتنفيذ أي من شهواته الإباديّة، الا اذا تكفّل المسار السيىء للحرب عليه بفتح ثغرات تتيح حجماً من ذلك.

عندما تكون الحرب سيئة التجهيز الأفضل طبعاً أن لا تكون. وهذه الحرب ليست مشكلتها تقنية بالمعنى الإداري، الاجرائي، العملياتي، فقط، انما من حيث منطقها الداخلي نفسه: كلّية وسطحية في آن واحد، أي تسمح لفانتازيا الرعب الداعشية بأن تتبلور دون مشاكل جوهرية، لينزاح بعد ذلك السؤال، ولا يعود الحرب نفسها، والكيفية التي يتعامل بها قادة هذه الحرب، الأمريكان والعرب، مع قضايا سوريا والعراق، والشرق العربي بعامة، وانما «داعش»، بل ليس «داعش بذاتها»، وانما فانتازيا الرعب التي تراكمها، اعداماً في اثر اعدام لهذه الرهينة او تلك. ومن ثم يصير الموضوع من وراء هذه الفانتازيا هو الإسلام، عبر بث، فكرة واحدة بطرائق شتى، ومفادها ان الإسلام دين عنيف من حيث الطبيعة في حين ان الديانات الاخرى كانت عنيفة من حيث العرض فقط، وانه ينبغي اجراء عملية جراحية للإسلام لاستئصال العنف المتأصل فيه، إلى درجة كونه طبيعته الصميمة!! هنا تصل المفارقة إلى ذروتها: من جهة، يؤكّد أرباب الحرب أنّ هذه الحرب ليست ضد الإسلام بل ضد من يشوّهه، ومن جهة ثانية، يؤكّد قسم منهم (الغربيون) دون القسم الآخر (العرب)، أنّها عملية جراحية لتحرير الإسلام من محرّكه العنفي، ومنحه محرّكاً جديداًً، لاعنفياً، لكن مفروض بقوة الطائرات والصواريخ.

بعد كل ما جرى في القرنين الماضيين، من حروب أهلية شكّلت أوروبا وأمريكا الحديثتين، ومن حروب وابادات كولونيالية، وحرب كلية في شرق أوروبا، وحربين عالميتين، وفظائع النازية والستالينية، يراد تعميم مناخ ثقافي دعائي ملتزم هذه الحرب الكلية والسطحية في آن، مناخ يعتبر أنّه كي تدرس ظواهر العنف الراهنة عليك أن تقفز على القرنين العشرين والتاسع عشر، كأنهما غير موجودين وغير مهمّين، وأن تفسّر «داعش والنصرة» بنتف من ذاكرة القرن السابع الميلادي، لحظة ظهور الإسلام في الحجاز. من يتبخترون بحداثيتهم الفاقعة يضربون عرض الحائط تاريخي العنف والقمع (وهما متمايزان) في العصر الحديث، لاعتبار أن أي عنف ممهور بتوقيع جهادي أو إسلامي، ينبغي أن يحيل رأساً إلى الزمن المؤسس أو النص المؤسس للإسلام.

لا يعني هذا انّ التفارق غير موجود في مستويات العنف وأشكال تسويغه في الزمان والمكان، ولا التهوين من تسويغ العنف بالمطلقات الإلهية. إنّما كيف يمكن الاسترسال في هذا الباب، وهذا مطلوب، دون طرق الباب الآخر، حيث كانت جلية في القرن الماضي أنّ الأنظمة التي اعتمدت الإلحاد عقيدة رسمية لها لم تتخلّف في القمع والعنف عن أعتى الثيوقراطيات بل العكس. من الالحاد في القرن الماضي ما قتل، وما تسبب بقتل الكثيرين لأنهم مؤمنون، وتسبب بقتل عشرات الملايين في مشاريع الهندسة الإجتماعية. يمكن للملحد اليوم أن يقول بكل بساطة، أن الاتحاد السوفياتي لا يمثّل الالحاد الذي يعجبه، وأنه براء من هذه التركة. فهل يمكن تحرير الأمر نفسه بازاء الإسلام؟

واذا عدنا إلى «التاريخ المضاد لليبرالية» الذي وضعه المؤرخ الايطالي الفذ دومينيكو لوزوردو نراه يسلّط الضوء على ما يحب أن يتناساه كثيرون، وهو أن الزمن المؤسس للفكر الليبرالي الحديث كان زمن تنظير رواده لمنظومة الاسترقاق في المستعمرات الزراعية المدارية. وطبعاً، يمكن أن يقول ليبراليّ اليوم أنّه، ان صحّ ذلك أو لم يصحّ، فلا يعنيه موقف أسلافه. حيثما وجهت انتباهك سترى ابن عقيدة يعفي نفسه من الجانب المظلم من تاريخها ويحاول أن يعتّم ما استطاع على هذا الجانب، سواء كانت العقيدة دينية أو دنيوية، فعلام استثناء الإسلام في هذه الحال؟

يقينياً، أن الطابع المزمن لمنظومات الاستبداد الشرقي، واحالاتها المتعددة إلى الغيب، بحاجة إلى اكثر من تحر وتنقيب، بشرط عدم اختزال هذه المنظومات في نماذج جمادة، أو توهّم بأنّها هي هي في كل الأدوار، دائمة العود، بلا تاريخ. والمنظومات السلطانية الإسلامية هي بطبيعة الحال جزء من تاريخ الاستبداد الشرقي، وهي تتبع له في خاصيات تتعلّق بمنسوب مرتفع نسبياً من الاعتباطية في البطش، قياساً على أقاليم أخرى من التاريخ العالمي، لكنه هذا لا يجوهر المسائل، على العكس، هو يدفع لاعمال مقارنات بين كذا منظومة عنف وقمع مختلفة، بدلاً من توهم أنّ كلها كانت عارضة وزائلة، الا تلك التي تعني الإسلام، وحدها الباقية، لأنّ العنف فيه متجذّر.

بل انّ الترويج لهذه القناعة الأخيرة هو اليوم خطر على معاني الديانات الأخرى، التي لن يودي بها هذا المنزع لجوهرة العنف في الإسلام الا لتحويل رهاب الإسلام إلى معطى يأكل من مكوناتها العقيدية والروحية. فهل ان قدر المسيحية واليهودية والهندوسية والسيخية في عالم اليوم هو اعتبار ان لا أفق لها كديانات الا في «رهاب الإسلام»؟ هذا ما ينحو اليه اليمين المتطرف الاوروبي، واليمين الصهيوني، واليمين القومي الاحيائي في الهند. والعلمانية أيضاً، والنسوية، يراد بهذه القسمة الضيزى بين عنف متجوهر في الإسلام وبين ديانات وعقائد ليس لها علاقة جوهرية مع العنف ان تتحول إلى مرادفة للإسلاموفوبيا، أو مؤطّرة بها، بل تقدّم الإسلاموفوبيا كطبق للإسلام نفسه: «قل يا إسلام اني كنت ديناً عنيفاً ولم أعد.» هناك من يتصور الاصلاح الديني وراهنية التنوير هكذا.

وبكل تأكيد تبقى الحاجة لاستمرار تفكيك ودحض هذه النزعة إلى جَوهَرة العنف في الإسلام، كما لو أن خمسة قرون من الاستباحة الغربية العنيفة لأقاليم العالم الأخرى مستلّة من سورة التوبة هي الأخرى. لكن، بالتوازي، الحاجة إلى اعادة النقاش إلى المسألة التي يريد أن يتهرّب منها باراك اوباما: هذا النوع من الحروب، الذي لا يمكنه أن يرى في أعدائه، فاعلين سياسيين أيضاً، كيف يسير مساره العام منذ خمسة عشر عاماً إلى اليوم؟!

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى