صفحات الثقافة

ملف السفير عن ممدوح عدوان

 

 

 

“العدوان” الخلاق/ سامر محمد إسماعيل

لو كتبتُ قصة حياته فيلماً سينمائياً لبدأتُ بمشهد عودة زوجته إلهام عدوان «أمية عبد اللطيف» وحيدةً في تابوت على متن طائرة حزينة طارت بجثمانها الستيني من مطار دبي إلى مطار اللاذقية؛ فالمرأة التي رحلت مؤخراً بعد صراع طويل مع مرض السرطان حملتْ اسم زوجها في حياته وبعد موته في اسم «دار نشر ممدوح عدوان» المشروع الذي قررت إلهام متابعته بعد رحيل شريك العمر؛ لتقضي بعده بعشر سنوات بالمرض نفسه الذي أنهى حياة الكاتب السوري في ليلة التاسع عشر من كانون الأول؛ ولعدتُ بعد مشهد البداية هذا إلى سيرة الطفل «مدحت مصطفى» – اسمه الأول في قريته «قيرون» قبل أن يعرفه العالم العربي باسم «ممدوح عدوان – 1941 – 2004» الرجل الذي اقتحم المدينة بكأس وسعال وقصيدة ذات نبرة ثورية هادرة، تاركاً ما يقارب المائة كتاب في الترجمة والشعر والمسرح والرواية والنقد الأدبي، خلا المسلسلات التلفزيونية التي توّجها برائعتيه «الزير سالم» و«المتنبي» متجاوزاً احتقار المثقف للتلفزيون كأداة للترفيه العمومي، والقصف واللهو اليومي. من هنا كان ظهور ممدوح عدوان في المشهد الثقافي السوري منتصف ستينيات القرن الفائت صادماً وحراقاً كغيابه في مطلع الألفية الثالثة، فهو المتحدر من بيئة متنوعة المناهل والاشتقاقات الثقافية، تبدأ بتثليث العرَق البلدي في مدينته مصياف؛ ولا تنتهي بتثليث أبيات «العتابا». ثقافة فتح الطفل عيناه على مستوياتها الغنوصية من باطن وظاهر حين كان يصيخ السمع كل مساء لأشعار القوالين والمتصوفة وحفظة القرآن والحديث والسير الشعبية وقصص الأئمة، فها هي البيئة الأولى تختبر الصبي الصغير الذي كانه، لتصيغه صياغةً أولية تكون فيها اللغة العربية حمّالة أوجه، فظاهرها لا كباطنها، تماماً كالشخصيات التي كان يسمع الشاب الصغير عنها في قريته « دير ماما – قيرون» فعبد الرحمن ابن ملجم قاتل الإمام عليّ – هو محمودٌ ومذموم معاً في عُرف بيئته؛ مثلما هو «أبو النواس – الشاعر الماجن له مكانةٌ عرفانية عليا. لقد تكونت شخصية صاحب رواية «أعدائي» آخذةً من الدين والخرافة والتراث ونفائس المكتبة الشعرية العربية؛ لتكون شخصية مضادة لشخصية المثقف الموديل، أو المثقف الماركة، هذه الشخصية التي عرّاها ممدوح بكل ما يملك من قوة بطرافته وحضوره كسلطة ثقافية، لا كتابع لحزب أو هيئات أو بلاط سلطاني؛ بل كما يجب أن يكون المثقف مخرزاً في عين البشاعة اليومية؛ فلم يرضخ الرجل لأي نفوذ سياسي أو سلطوي كما كان يروّج عنه بعض الخبثاء بقربه من السلطة في بلاده؛ بل كانت السلطة تتمسح به، وتمالئه بحذر، دون أن تنجح في ترويضه لمصلحتها. بالمقابل كان ممدوح عدوان يعرف كيف يدافع عن خياراته ويسوّغ لها نقدياً وحياتياً؛ لكنه احتاج وقتاً طويلاً كي يصبح الالتزام – كمفهوم أدبي في كتاباته – ليس عيباً أو تهمة أيديولوجية، وليدافع الكاتب عن هذا الالتزام، خائضاً حرباً عنيفةً مع من حاول جاهداً من أدوات السلطة أو مثقفي صالوناتها أن يصنفوه مع أترابه «علي كنعان؛ فايز خضور، صالح هواري، كمال أبو ديب» ضمنها؛ أو مع موجة مثقفي السلطة الذين جاؤوا إلى دمشق الخمسينيات بتصور مغاير ومن منطق يريد الثأر من المدينة لا التصالح مع زحامها وعمرانها ومكتباتها، وانتزاع الاعتراف منها، لا سيما أن العديد ممن حارب شعرية ممدوح عدوان من اللحظة الأولى لبزوغه بعد نشره لأول قصيدة له في مجلة «الآداب» وكانت بعنوان: « لقيطان» كان يريد أن يصنفه في خانة من «يضحكون على الجماهير الأمية ويكتبون بأمر من الحاكم، تماماً كشعراء السلطة في الاتحاد السوفياتي السابق». مفارقة وضعت عدوان وجهاً لوجه مع مستوردي «السأم والعبث والوجودية واللا انتماء» كلافتات ثقافية كانت جديدة وقتذاك ومرغوبة في دفع الشبهة عن أصحابها وتقمص الأدوار وتوزيعها على الكتاب الجدد؛ لا سيما ذوي الأصول الريفية منهم؛ وذلك عبر تلميع مثقفين وبتر آخرين من المشهد بأكمله؛ إلا أن صاحب « تلويحة الأيدي المتعبة» سرعان ما تخطى هذا اللبس بنصوصه التي جاهرت بطزاجتها؛ وقربها من الناس من دون أن تكون مطيةً للأيديولوجية: « أريد العدل المطلق؛ فليفعل السياسيون ما يمكنهم؛ فليوقعوا اتفاقيات سلام؛ أما أنا فسأظل محتفظاً بمفهومي عن العدل؛ أنا أريد كل فلسطين؛ وما زلتُ أرى أنني عربي؛ يقولون لي: وماذا لو أعادوا لكم الجولان؟ أقول: وفلسطين؛ هذه المعاناة الفلسطينية والعربية الممتدة على مدى خمسين عاماً في ذقن من سنزرعها؟» مجلة الكرمل – 2001.

القصيدة الغاضبة

هكذا ستصبح مفردات الجوع والفقر والسياط والظلم والرغيف والمحراث؛ وجهاً لوجه مع مفردات النهد والبطن والحلمة والرغبة والاشتهاء، ولتكون مسرحياته «سفر برلك، ليل العبيد، المخاض» ومثلها نصوصه المونودرامية «القيامة، الزبال، حال الدنيا؛ أكلة لحوم البشر» التي اشتغلها مع المسرحي الفلسطيني زيناتي قدسية منتصف الثمانينيات؛ في مقدمة تلك العناوين الثورية التي أعمل فيها عدوان قدرته الفريدة في تخليص المشهد الثقافي لبلاده ممن كانوا يجهدون لتحويل الثقافة إلى «قلع أضراس» كما وصفها عدوان ذات مرة في إحدى حواراته الصحافية؛ ليس هذا وحسب، بل تمكنت «القصيدة العدوانية» الغاضبة المتمردة أن تعيد مشروعية الشعر والمسرح في الدفاع عن شرائح اجتماعية واسعة تم تهميشها وتجهيلها على حساب طائفة من أتباع سارتر وجان جينيه وبريخت وكامو وبيتهوفن، وذلك دون أن يكون هذا الغضب الشعري نابعاً من المتاجرة بمظلومية تاريخية أو ابتزاز عاطفي للجمهور، بل كان مسرح عدوان مثل أشعاره بريئاً من النظرية مندمجاً مع الناس وهمومها وغليان طبقاتها الاجتماعية المُبعدة عن دائرة الاهتمام؛ ولهذا كان ثمة من يعمل ولا يزال على أن يصور الشعر على أنه في أزمة، كما هو المسرح العربي الذي لا يحضر في أحاديث المثقفين العرب – خصوصاً السوريين منهم – إلا ويضاف إلى جانبه كلمة «أزمة»: كل شيء في أزمة، لكنها كما كشفها عدوان وأوضحها على الملأ هي أزمة تشخيص أزمة لا أكثر، أزمة وهمية يختبئ خلفها القائمون على المؤسسة الثقافية الرسمية، ومثقفو العناوين، وما يسمى بتجار الأزمات الثقافية المستعصية! فهؤلاء لا همَّ لهم ولا غم سوى عقد المؤتمرات وإقامة الندوات وتدبير اللقاءات الدورية لمناقشة «أزمة المسرح» والتداول في «أزمة الشعر»!

إن نظرة خاطفة لمشروع ممدوح عدوان الشخصي تؤكد سعي الشاعر الراحل إلى اغتنام كل أنواع التعبير للوقوف في وجه الإكليروس الديني – المافيوي المتحالف مع السلطة، والذي «يكذب على الناس حتى في نشرات الطقس» التعبير «العدواني» الذي لامس حنق الجمهور حين أراد البعض لهذا الجمهور أن يحيا في المفاهيم، وذلك عبر إبعاد المسرح والشعر والفن عموماً عن الواقع: «يريدون أن يكون الموت هو الموضوع وليس الموتى، الحب وليس المُحب أو المحبوبة؛ الخوف وليس الخائف؛ الفكرة المجردة وليس الذي يعيشها، أو يعانيها؛ وكأن هذه الأفكار المجردة تعوم في الهواء ولا تمس البشر».

ظل ممدوح عدوان حتى آخر أيامه مؤمناً بأن الموت ليس إلا «توقف مشاريع» لكن ما ترك لصاحب «حيونة الإنسان» فرصة أكبر للتأثير في ركام المدن العربية ليس كتبه وحسب؛ بل هي سنوات التدريس التي قضاها كأستاذ لمادة كتابة السيناريو في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، حيث جهد لتخريج جيل قادر على تحطيم مسلمات الفن، والتطلع إلى مساحات مغايرة للسائد والمتاح والممكن؛ فصاحب «الدماء تدق النوافذ» لطالما كان سيد المساجلات الساخنة في الثقافة السورية التي عاشت ركودها الأطول بعد رحيله؛ مخلفةً ذلك الصدى البارد من الامتثال والتدليس والتمسح بأقدام المتنفذين وشركاتهم الريعية، حيث كان غياب عدوان عن الساحة فرصة كبيرة لعودة المثقف المارق في طبعته التلفزيونية الجديدة، خصوصاً بعد هجرة معظم النخب الجديدة ودخــول الســوريين المرحلة التي أطلق عليــها الطــيب تيــزيني «مرحلة إفساد كل من لم يتــم إفساده».

المشهد الختامي لسيناريو فيلمي عن ممدوح عدوان سيكون بمشهد لسيارة حمراء «فولكس فاغن» من نوع «سلحفاة» تخترق شارع 29 أيار ثم تتهادى بعجلاتها عند مسرح القباني بدمشق، يترجل منها «أبو زياد» لحضور مسرحية «ساعي بريد بابلو نيرودا» العرض الذي قام بإعداده عن نص سكارميتا وأخرجه للمسرح القومي الفنان محمود خضور؛ حيث يمنعه قاطع التذاكر من الدخول قائلاً له بغضب: «لوين يا أخ لم يتبقَ محلات، تعال بعد أسبوع»، فيضحك ممدوح ضحكته العالية قائلاً لموظف الشباك: «لكن أنا الكاتب؛ أدخلني، سأحضر ولو وقوفاً».

(كاتب سوري)

سيرة في سطور

– ولد ممدوح عدوان في الثالث والعشرين من شهر تشرين الثاني عام 1941 لأبٍ من أسرة ريفية فقيرة كان يشتغل في الإصلاح الزراعي؛ ودرس الابتدائية في قريته قيرون ثم انتقل لدراسة الإعدادية والثانوية بمصياف بريف حماه.

– درس ممدوح الأدب الإنكليزي بجامعة دمشق وتخرج منها عام 1966 حيث لمع نجمه في الأوساط الطلابية عبر مشاركته في العديد من الأنشطة الجامعية بعد نشره لمجموعة من القصائد في مجلة الآداب البيروتية.

– يعتبر ممدوح عدوان من الجيل الذي أغنى المكتبة العربية بما ينوف عن مئة وأربعين كتاباً في المسرح والرواية والنقد والترجمة كما أنه يعتبر من أهم كتاب السيناريو التلفزيوني ومن أبرز مؤلفاته: رواية أعدائي – دار الريس 2000»، «عليك تتكئ الحياة – شعر – 1999» ومسرحيات «حال الدنيا، المخاض، القيامة، أكلة لحوم البشر» ومن أبرز مؤلفاته كتابه «حيونة الإنسان – 2003» ومن أبرز ترجماته « تقرير إلى غريكو» لنيكوس كازنتزاكيس؛ كما أنه كان كاتباً لامعاً في مجال السيناريو التلفزيوني وساهم في نهضة الدراما السورية في هذا المجال بكتابته لسيناريو مسلسل «الزير سالم – 2000» والذي أخرجه للتلفزيون الفنان حاتم علي وحقق نجاحاً غير مسبوق بعد إثارته جدلا كبيرا حول شخصية الزير في السيرة الشعبية.

– توفي ممدوح عدوان في التاسع عشر من شهر كانون الأول عام 2004 ودفن في قريته قيرون بعد صراع طويل مع مرض السرطان.

 

 

 

الشعر على صهوة المسرح/ لؤي ماجد سلمان

لم تعد تغريه حكايات الجدات وقصص ألف ليلة وليلة، أو تؤنسه صحبة أبي تمام، امرؤ القيس، النابغة الذبياني، فغيرتُ مسكنه إلى «كتب المسرح» في مكتبتي المنزلية المتواضعة، إلى جوار هاملت، مكبث، عطيل، لكنه لم يبتسم وبقي يشذرني، حتى إلى جانب الأدب المترجم ربما يعيد النظر في «سد هارتا» أو صياغة «مذكرات كازنتزاكي، تقرير إلى غريكو» فبوسعه هناك أن يروي لنا «تغريبته» يرسم بحروف الشعر «زوربا ـ قيرون» الذي اقتحم عالم الأدب والعواصم ليؤدي رقصته الغجرية على خشباتِ مسارحها، لكن الترحال قدرُ الأدب، وماذا بقي للشعر والمسرح في مدينة لم يعد يسقي نبتة الأمل فيها غير الدماء، هل يعود مراسل حرب 1973، ليولد مرة ثانية في حرب جديدة؟ فيعمل مراسل حروب إكسبريس، بعد أن قارع ما قارع في حرب البسوس، قتل كليباً وجساساً، وسيق مع المساكين في «سفر برلك» سفر الجوع إلى الحياة، فوثق اندحار زنوبيا، وشهد تاريخا طويلا من النكسات، و«محاكمة الرجل الذي لم يحارب»، ناضل من أجل هموم قومية، كان أولها في سلم أولوياته القضية الفلسطينية التي رجمها منجنيق الاتفاقيات القطبية.!

ممدوح عدوان أكثر من «زير ومهلهل»، وفارس نبيل يرفع أذان الشعر من على صهوة المسرح، حروبه حكايات، تاريخه انكسارات بين الممانعة والمقاومة، وأمة تحرص أن تُقهر وتُهزم كل صباح، ليبقى رهانه على أمل الولادات الجديدة، فيطلق سهام شِعره لتحارب مع الحجارة، معلناً نصرة المظلوم في أعماله الأدبية بشتى أنواعها، فتارة نجده يبحث في حقيقة الإنسان المتخفية ليكشف لنا أن الغريزة التي تنشط في مواجهة الإنسان لأخيه الإنسان ليست غريزة حيوانية كما نعتقد، رافعاً الشبهة عن الحيوان، بعدما برهن لنا أن هناك غريزة إنسانية متوحشة لا يملكها الحيوان كالحقد والحسد، والتفنن في تعذيب الآخر، بل هي صفات ينفرد فيها الكائن البشري عن غيره من المخلوقات، هي دعوة تجلت واضحة في كتابه «حيونة الإنسان» لكن من تابع نصوص الشاعر وأعماله المسرحية، ووقوفه عكس السائد والدارج، يعي تماما كيف كان «عدوان» إنساني النزعة، يرصد حالات الإنسان البسيط المقموع كما في نصه الشعري من مسرحية «المخاض ـ 1967» إذ يقول: «نولد في كل مكان؛ نولد في أي زمان؛ ومثلما يولد عجل أو حمَل؛ تخرج أنثى.. تجمع الأحطاب، تلقي بوليد بين أحراج الجبل؛ ثم تعود بالوليد والحطب؛ تثلمت نفوسنا.. فقد نمت بلا جنان، ولم تعد تحس بالحرمان أو باليأس والأمل؛ نحن نعيش دونما أسماء، في عالم الخضرة والغبار والنساء والأبناء، ننمو بلا عناية كالسنديان في الصخور».

لقد بحث صاحب «أعدائي» في حالات توحش هذا الإنسان بغض النظر عن موقعه سواء كان الجلاد أو الضحية، السلطة أو الفلاح؛ فالاستغلال بالنسبة إليه قيمة واحدة، بغض النظر عن مصدرها، ومن هنا بدأت نقطة تحول الشاعر إلى المسرح لتكون البداية بمسرحية شعرية تنتمي إلى ما عُرف وقتها بأدب الواقع، فمزج الأفكار بالمشاعر الإنسانية، محولاً إياها إلى موقف يعبر من خلاله على لسان شخصياته عن مفاهيم فكرية ووجهات نظر لا تُرد، جاعلاً من الأدب جزءاً من إنسانية الإنسان وليس مجرد صنعة يطرح من خلالها قضايا تمس المجتمع القروي في ظل الحكم الإقطاعي وأقطابه في سوريا؛ والتي كانت تتمثل في «البيك»، و«الآغا»، من ناحية وسيطرة الدين الميتافيزيقية من ناحيةٍ أخرى، متخذاً من الواقع منهجاً لرواية الأحداث بعيداً عن عالم الفلسفة والتفلسف، حيث ينبع الموقف الجمالي من خلال الأحداث وينبثق عنها ويكون هو الغاية لا الوسيلة، لتصبح الحقيقة هي البطل، الحقيقة المتمثلة بالعنف، والموت، والقتل، لنجد الشاعر والكاتب المسرحي لم يقتصر في تعبيره على صراع الفلاح مع الإقطاع، بل عبّر عن انعكاسات هذا الصراع في واقع الفلاح ذاته، فمشكلة الإقطاع لم تكن تتمثل في الظلم المادي؛ إنما تتخطاه نحو القهر المعنوي، ممتدةً من خلاله إلى مناحي الحياة كافة، ليتبين لنا أن شخصية «الدركي» في «سفر برلك» أيضاً هي ضحية والفلاح الذي يضرب بسيف الإقطاعي أداة قمع عكسية، الإقطاعي ذاته، والمجتمع يتحول إلى ضحية هذا النظام الذي لا مبرر له، ولا وجوب منطقيا لوجوده، حتى شخصية «السكير» وجدناها مترددة بين قبول هذا الواقع كقدر نهائي ومحتوم، ورفضه لمصيره. مع أنها المحاولة الأولى لشاعر «دير ماما» التي قال عنها النقاد في ذلك الوقت: «إنها محاولة ناجحة على الرغم من ضعف بنيتها الدرامية» إلا أنه استطاع بمرونة لغته وسلاستها أن ينقذ مسرحيته من الانحدار نحو الجو الخطابي، أو أن تكون مجموعة من القصائد المرتبطة فكرياً بإطار مسرحي، إضافة لقدرته في تطويع التعابير والحِكم الشعبية في نصوصه دون أن يُفقدها إيحاءاتها، مع حرصه على دمج التعبير العامي والفلكلوري باللغة الشعرية، الشيء الذي يؤكد امتلاك الكاتب لغة مرنة وسهلة قريبة من الغناء والشعر الفلكلوري استطاعت محاكاة الواقع السوري ونبشه.

عدوان المسرحي

توالى بعدها نتاج «عدوان» المسرحي مقدماً نصه «محاكمة الرجل الذي لم يحارب ـ 1970» والتي صور فيها أجهزة السلطة الحاكمة التي تقاضي رجلاً مخلصاً لوطنه، حيث تتهمه بالتقصير في الدفاع عن الوطن، بينما الرجل كان مخلصاً ووفياً، ليتضح أثناء محاكمته قمع وقهر السلطة للفرد حتى بات غير قادر على مواجهة العدوّ مما ناله من القهر والظلم و الاستلاب الذي حل به؛ والضعف البدني والروحي الذي خلفته الأجهزة في نفسه وجسده على الرغم من صدقه ورغبته في الدفاع عن أرضه. يبين «عدوان» مسؤولية أجهزة السلطة في تشويه أرواح أفرادها؛ موضحاً مسؤوليتها عن الهزيمة، كما بيّن من خلال هذه المسرحية دور السلطة ومسؤوليتها عن السقوط، وأثر هذه السلطة في التاريخ الفاعلة به والمحركة له. وهنا لا بد أن أذكر أن الحوار في مسرحية «محاكمة الرجل الذي لم يحارب» تجاوز الأسلوب الأدبي؛ متخذاً شكل الاستجواب في قاعة المحكمة، اتهام ودفاع، والعودة إلى ما مضى في مشاهد تمثيلية، مستخدماً تقنية «كسر الإيهام» من خلال المشاهد التي استحضرت الماضي. ليقدم عدوان بعدها عام 1973 مسرحية «كيف تركت السيف» و«هاملت يستيقظ متأخراً- 1980»، و«حكايات الملوك» و«الوحوش لا تغني» و«الميراث» وغيرها، كما كتب «عدوان» أول مونودراماته «حال الدنيا» لفرقة «أحوال» المسرحية محاولاً استنباط لون جديد من ألوان المسرح الدرامي واضعاً أسسا لهذا الفن يناسب المجتمع السوري، فكانت نصوصه: «الزبال» «أكلة لحوم البشر»، «القيامة» وهذه الأخيرة تحدث من خلالها عن الوضع الفلسطيني فقام بتشريح الشخصية الفلسطينية، داخلاً إلى عمق ذاكرتها النازفة، كاشفاً تفاصيل معاناتها، همومها، هواجسها، فاستطاع برأيي إبراز المضمون التاريخي لهذه الشخصية بتقديمها عاريةً فجةً بلغة درامية تمكن فيها من تقديم شخصية غير مجردة وغير مثالية.

نسج صاحب «والليل الذي يسكنني» حكاياته من تراث الريف السوري، وهموم أهله، فكانت عروضه مشابهة لتقاليد المسرح القديمة في أواخر القرن التاسع عشر، كما كتب المسرح التاريخي المُستقى من الشعبي والديني التاريخي أو ما سمي بـ«الدراما الإسلامية» كمسرحية «ليل العبيد» التي مُنع من عرضها على المسرح الجامعي، كما كتب مسرحيات كوميدية تعتمد في الإضحاك على الكلمة لا الفعل الجسدي التهريجي، ويعد من المساهمين في بناء المسرح السوري فيما قدم إليه من مواد استقاها من الأسطورة والحكاية تارة، والتاريخ والأدب تارة أخرى، فنجده قدم التراث وفق بيداغوجية خاصة راعت ذهنية المتلقي وموروثه الثقافي، دون التخلي عن الواقع اليومي ومع حرصه الشديد على ترك مساحة لمخيلة المتلقي، طبعاً لا يمكن أن نسهو عن مشاركته في تأسيس «المسرح الجوال» في سوريا، والذي اعتمد على نقل خشبة المسرح والعرض إلى القرى النائية، الأمر الذي جعل نصف سكان سوريا يشاهدون العروض المسرحية، والمغامرة التي اعتبرت وقتها بمثابة ثورة ثقافية غير مضمونة النتائج، طالما أنك تضع المسرح في مواجهة جمهور الريف. هي العبثية ذاتها في المسرح، الشعر، النثر، الحياة، الموت نعيش كل ذلك في غيابه وأدركنا معنى ما قاله: «لم يعد الموت قادراً على أن يفاجئنا كثيراً بعد أن خبرنا الحياة، فتوقع المصيبة لا يلغي حجم فاجعتها، مئات الآلاف من السنوات في عمر البشرية التي شاهدنا فيها الموت كل يوم، كل ساعة لم تستطع أن تجعلنا نتعود عليه، لكن حين يأتي، ولا بد أن يأتي، يجب أن يرانا وقد استنزفنا حياتنا حتى الرمق الأخير».

(صحافي سوري)

 

تلويحةُ الصقر لفرخ الكوكو”/ طارق عدوان

تقول الحكاية إن عبد الرحمن الداخل قد عبر النهر واجتهد وبكى واستنتصر بأسه حتى شكّل كينونته في التاريخ؛ ففي قرية من قرى مصياف، تلك المدينة السورية الحمّالة الأوجه والقُبَل والضيوف، والصبايا على احتمالات فتنتهن حصل شيءٌ مشابه: فقيرون مسقط رأس الشاعر ممدوح عدوان على روحه الرحمة والعتب؛ عتب الفراق وعتب المحبة. هناك في قيرون كان نهر القرية يطوف كل شتاء على جسرها الحجري القديم فيشطر القرية إلى ضفتين بل قل إلى زمنين: الماضي الأليف والمستقبل المجهول المخيف.

كان النهر عظيماً مخيفاً، وكان الأطفال وحتى الشبان بما نحت النهر من عضلاتهم وأجسادهم المصقولة يرخي بتحنانه الصيفي عليهم تلك الطلعة الشمسية، فيستوعب يانسون أرواحهم عندما يقفزون فيه تباهياً أمام الحسناوات الفقيرات، فقر القرية من ذياك الجبل العظيم،..كانوا يتراجعون أمام سطوته الشتوية الكحلية..

هناك قرر الطفل مدحت مصطفى (ممدوح عدوان) أن يعبر النهر شتاءً، ليردَ مدينةَ مصياف كما تردُ رشفةُ العرَق شفتي الصّاب، ليتم فيها دراسته الابتدائية، وذلك بعد أن كان نجم القرية الطفل، أو طفلها النجم؛ مؤنس العجائز والشيوخ ممن كانوا يتحلقون حوله ليسمعوا الأخبار من الجرائد؛ فقد أودعه خاله حسن (الفقيه المفوه) حبقةً صغيرة من حبقِ اللغة وتركه للدهر، يصقله ويزرع الدمعَ والغربةَ والعشقَ في روحه التي نتحت شعراً..وصوته الذي نضحَ قهقهةً نبيلةً عاليةً صخبة، بشهادة المدن ونسائها.

من مصياف إلى حماة، التي أتمت سعي النهر في روحه، حيث «العاصي» عمرٌ صمم له ممدوح عدوان نواعيره بعنين الحرف والغربة؛ ليرميه عاصي الأنهار من طفحٍ مجدداً إلى سنديان مصياف التي كانت تحتفل بثانويتها، فينال الثانوية في بيت الشيخ النبيل «أبو النصر- جابر عثرات الكرام». ومنه إلى بردى، حيث المدينةُ تنصبُّ على نهرها الفردوسي انصباب الخمر والنهد على شاعر لا تكفيه محبرة ولا تسعهُ مقبرة..هكذا عبر ممدوح أنهاره فمن نهر «قيرون» المخيف في مخيلة طفل أبحر إلى ضفته الأُخرى مروراً بالعاصي ومنه إلى بردى كانت دمشق وعاء الدمع والقهقهة…مات فيها الشعراء جوىً وصباً وما زال اكتمالها حلماً عصيَّاً على الكَلِمِ .دمشق التي تتبنى النَّجم بعد أن يدفع لها فاتورةً من سعالٍ وعشق، فاتورةً عظيمةً من الحيرة والدهشة. فما بين سماواتٍ تُفتح في هذه المدينة مع كل زقاق وكل فقر وكل بطحة عرق.. قصيداً قصيداً، وامرأةً امرأة، وبين السماء الأصلية العتيقة، التي تقعُ وهي ترقُصُ على هجس العقل ولهفة القلب السريع.. قلبٌ من سنديان على ريحٍ دوماً، ليسَ له إلا أن يرُدَّ عدوان العشقِ لُغَةً لها.

من دمشق انطلق البوح والنوح وانتصار اللغة على الغربة القديمة وعلى وجع الحلم المستدام فكانت (ظلاً أخضرَ) يرعى الرؤيةَ والبصيرة..فلا نساءَ على قد الوجع ولا وجعَ على قدِّ دريئة العينِ والفؤاد يقول عمي ممدوح عن تلك الأيام من قصيدة فرخ الكوكو: (عندما أجهشَ مزراب الحديقة؛ عندما نقر على شباكي البرد؛ لم يكن عندي أحد؛ فدفنت الوجه في ثلجِ فراشي؛ وبكيت..).

خريج الأدب الانكليزي المتفوق؛ والنجم الخارج إلى حيوات دمشق مملوءاً بوقودٍ علميٍّ أدبيٍّ أصيل، نبت فيما بعد في مسرحياته وأعماله، ووُلِدَ من جديد في عُبِّ ترجماته، وفي الكل كان الشاعرُ يتحرك ويشاغب ويعشق فيه، ويعبث بأمد الجملة حتى تُرضي زفير الروح؛ تلك الروح المشكومة بالوطن ربوعاً ودياراً ونساءً وخمراً، تلك الروح المياسة على (دماءٍ تدق النوافذ).. النافذة الرائحة، العميقة الامتصاص.. تلك الروح التي تواجدت في وطنٍ محترفٍ باختراع الحروب وفرسان الحروب، موهوبٍ بتواجد النساء خطوةً خطوة..غصَّةً غصَّة على درب الشِعر، الشعر الذي لم ينسَ «العدوان الممدوح الوحيد في الوطن العربي» ــ كما وصف نفسه مرةً على أثير إذاعة «مونتي كارلو» مع الرائعة «هيام الحموي»ــ أنَّهُ حربُّ طويلةٌ معَ القلب ومع السماء فكانت خطوته على ذياكَ الدرب نفحة الطاقةِ الكبرى التي قد تلِدُ عازفاً أو راقصاً أو مقاتلاً أو بكَّاءً طفلاً؛ فكان الشاعر الذي يحُثُّ ذئابَ الروح التي تجرُّهُ شوقاً إلى (جنونٍ آخر)..فيستجدي النسيمَ ليدعوه إلى طيرانٍ خفيفٍ بلا ظِل ثقيلٍ ثِقَلَ الحرف..إلى (طيران نحو الجنون) كتابه الذي يقول فيه: «ولأن الجسد يرفرف منتشياً من ذكراك، طفتُ القلب؛ وأخليتُ بأعماقي الأفلاك، أفرغت الروح وعطّلت حواسي، ليليق القلب بسكناك، أنا صرت الناي، لأني ضقت بذكراك، فتعال اعزفني وانفخ روحك، كي تسكب فيّ أريج حنانك؛ وتروِّب كل حناني لجنانك سأغني، أو أترنم؛ أو أترنح كي لا يفهم أحدٌ؛ حجم هواني بهواك؛ وكَوْني طوع بنانك؛ فأعنّي إذ ينحفر بقلبي مسراك..تعالَ اسكنّي..كلّمني لأراك..أطلق ما حبست دنياي من كلمات تعترض لساني كالأشواك».

المرجل

ممدوح عدوان الذي طفا وتمايل على وجه الجغرافيا، كما تطفو أعشاب الغوطة على ضفتي بردى سكرانةً من جاذبية النهر الآسرةِ من جهة؛ ومن ارتباطها الوثيقِ العتيقِ بالتراب من جهةٍ أخرى، لم يكن لديه إلا أن يتماهي مع وطنه العربي بكل حالاته وهمّه الفلسطيني؛ ممهوراً بإيقاع القصيدة بقيَ على قيد الحياة والشعر وأنجبَ من القصائد والدواوين ما لم يكفِهِ حينها لشرح الخيبة، فاللغة لا تحب الهزيمة، لنجد أن الدماءَ عنده أخذت تدق نوافذ الروح، التي أعلنت معركتها معَ (الزمن المستحيل) الذي أقبل وما زالت وتزال فلسطين وجع الوجدان وجرح القصيدة النازف؛ فبعد خيبة الـ67 ما كان منه إلا أن تطوع في الفدائية الفلسطينية، نازلاً بأغوارها كما تنزل الشوكةُ في حلقِ الخندق، وبعدها عمل كمراسل صحافي في الفدائية الفلسطينية، وبعدها مراسل حربي في الجيش العربي السوري في حرب تشرين، الحرب التي أنعشت الوجدان العربي، فكانت الحرب التي يُشار إليها كحدٍ فاصل إيجابي في حياة العنفوان العربي بمليكتيه دمشق والقاهرة، كانت الحرب هذه المرة نصراً على دربِ نصرٍ أكبر. إلا أن الجرح العربي ظل مرابطاً ملازماً كلَّ من صح انتماؤه، هنا أذكر كلام عمي من مسرحية «لو كنتَ فلسطينياً» إذ يقول: «لو كنت فلسطينياً ماذا تفعل؟.. لو صودرت الدمعة في عينيك؛ وقالوا: كن عاقل؛ لو جروك لتقبيل يد القاتل؛ لو قطعوا حبل الذاكرة مع الماضي؛ ماذا تفعل؟ لو منعوا عنك حياتك في الحاضر.. ماذا تفعل؟ لو سدوا في وجهك أبواب المستقبل؛ لم يسمح لكَ أن تسأل؛ لم يبقَ أمامك إلا أن تتحمل أو تتعقل؛ أو في صدرك ينفجر المرجل.. لو كنت فلسطينياً… ماذا تفعل؟).

كلمة «المرجل» الواردة في المقطع الشعري السابق، قد تقود بشكل أو بآخر نحو مزيدٍ من الكلام عن ممدوح عدوان، عندما يُضيِّعُك بغناه وتعدده، ويجعلك تحيد عن الخط الموضوع للحديث عنه؛ نعم المِرجل هو أقرب إلى ما كان يسكن صدره أو حفرةً متكئةً على يسار الصدر..هذا المرجل الذي جعله يتمدد على عرض الحياة والقليل من طولها وضمن له أن يكبر من دون أن يشيخ…هذا المرجل الذي أحسنَ «عدوانُ» إعادةَ إنتاجهِ سلوكاً وعشقاً وهاجساً وطاقةَ عملٍ مدهشةٍ استمرت حتى الثانية الأخيرة من عمره الذي كلله نزق الشباب، مما لا يجعلك تنتبه إلى شعره الأبيض أو جفنيهِ المنتفختين، وإلا وأن تضحك معه، على أنه حليق الرأس «على الموضة» بعد أن كلفته معركته مع السرطان فقدانَ غُرَّتَهُ النبيلة الرشيقة التي ترشحُ خمراً ونساءً ومدناً أتعبها الاحتفال بحضوره الشقي البهي.

المرجل الذي يلِدُ في كل لحظةٍ منسفاً جديداً من الأحلام، فتمل الروح من مائدةِ العمرِ المكتظَّة، لتنفجر انفجار الطلعِ على القصيدِ قارعةً النجمَ كأساً، مكملةً مدارَ العمرِ على شباب، خفيفة كثيفةً ملآنةً.. ترنو إلى ما خلفتهُ وراءها من وطنٍ يلوِّحُ بأيدٍ مُتعَبَة، مترفةً مترفعةً.. تبسمُ إلى عاشقاتٍ وكؤوسَ كُنَّ يُؤنسنَها في ذياك الخضم، التي أنسنتهُ يمَّاً عن سبق إصرارٍ وشعر.

ممدوح عدوان الذي خانه الجسد بعد أن نذر نفسهُ عُكازاً للحياة والفرح، عكازاً من صخبٍ ونزقٍ وعمل قال لها: «تسنَّدي وأَثقلي يا قاسيةُ يا فاتنة، والألفِ.. إني لمغادِرُكِ يوماً على حينِ غدر؛ سأكون اليوم حراً وبعيداً .. ما أرى في العتم مما لا يراه الناس ملكي .. ولذا أنفرد الآن بنفسي علّني أحكي وأحكي… وعلى نول ظلام القلب والوحشة ..أبقى مفرَداً أنسج أهلاً ورفاقاً ونساء ..وبهم أبدأ ما أحسبه ليلاً جديداً؛ أبدأ العمر الذي يبدو جديداً؛ أبدأ الليل كما أُنهيه وحدي؛ لستُ أخشى أن يوافيني البكاء؛ ثم لن يخجلني أن أدفن الرأس على أي غطاءٍ.. ثم أبكي. غَدَرَ الجسد.. فغادرت الروح انتقاماً لنجواها…بكى لها الصَّفصاف ولوَّحَ لها السنديانُ ثم نخَّ كناقةٍ استشعرتِ الفّقد..في قيرون مصياف».

(سينمائي سوري)

 

 

نقد الزير سالم.. النضال ضد ثقافة الثأر/ بشار عباس

الزير سالم، أبو ليلى المهلهل، زعيم الأحدوثة العربية الكلاسيكية الأوّلى، الشخصية القصصية الرئيسة القادمة من الأوان الجاهلي، الشاعر الفارس العربيد السكّير، صاحب الثأر الأبدي والأهواء المستبدّة، سيُطيح به الكاتب ممدوح عدوان بضربة واحدة، ليس بإرسال الحارث بن عباد للثأر منه، فذلك ما وقع أصلاً في الحكاية، وإنّما بتحويل الحكاية نفسها إلى نص تلفزيوني مُحكم البناء والحوار والشخصيات. تلك الشخصيّات الأدبية الجاهلية التي عاشت طيلة خمسة عشر قرناً على هيئة انسياب ذهنيّ، ستظهر الآن على شكل تسلل حركي، أي: دراما. فما الفرقُ في هذا من قبل ومن بعد؟ بالنسبة للشاعر، الكاتب المسرحي، الروائي، والسيناريست ممدوح عدوان؛ من البديهي أن يكون الفرق واضحا، ومقصودا لا ريب، ففي الحكاية المقروءة أو المسموعة تكون الشخصيّات قابعة في عالم التخيّل، إنّها تنهض بالأحداث وهي متجاورة أو مجتزأة، فيمكن للزير أن يحفظ صورته الذهنية المرموقة؛ إن حادثة البئر التي ارتبطت باسمه بسبب القافية، على سبيل المثال، تبقى كاملة يُمكن إدراكها بمفردها، ويمكنها أن تشكّل قصّة شبه مستقلّة في سياق روائي عام، ومثلها كل ثأر، كل قتال، كل مناسبة وفرصة تتسبّب بقصيدة، كل هذه العناصر تنزع إلى معنى قائم بذاته، بينما على الشاشة لا تُتاح لها نفس الفرصة، بل يُفرض على تلك الأحداث جميعها أن تكون «تتر»، فتخضع لعامل الزمن الدرامي، وهو زمن يقوم فيه كل حدث جديد بإقصاء القديم لجهة الأهمية، وفقاً لعنصر أساسي اسمه «ماضي القصّة». فكل مشهد منصرم انقضى الآن وأصبح ماضياً للمشهد الجديد. وهذا ينطبق أيضاً على الحلقات الأربعين التي توزّع عليها العمل التلفزيوني الدرامي.

قبل انتهاء العمل بحوالي مائة وثماني عشرة دقيقة تتحطّم الصورة الذهنيّة لأبي ليلى المهلهل دفعة واحدة وإلى الأبد، ذلك يعني أن المشاهدين لم يزل لديهم ما يقارب الساعتين لكي ينسوا جميع بطولاته، ولهذا ينقلب كل ماضيه التليد رأساً على عقب؛ إذْ نرى الزير طيلة الساعتين على هذا النحو: جباناً، ذليلاً، محني الظهر، لحيته بيضاء، هائماً على وجه بؤسه، يتعرّض للإهانة؛ يُضرب ويُسجن ويجرّ مقيّد اليدين، صوته خفيض ومرتجف، تؤخذ ابنته منه لقاء بعض جلود المواشي، يُقتل بخنجر العبدين المصاحبين له، فلا يملك إلّا أن ينتقم منهما قبيل الذبح بأحجية شعرية هي كل ما تبقّى له من ذلك الفن اللغوي الذي برع فيه. إن هاتين الساعتين تقاربان الزمن القياسي لفيلم سينمائي طويل، وهكذا يغدو الفارس الشاعر، شبحاً قديماً لما أخذنا نراه الآن. إنّه على الشاشة وكل شيء مكشوف وبائن، سيرسخ في الذاكرة البصرية وليس المتخيّلة كما كان وضعه قبل عام 2000 – تاريخ عرض المسلسل، وسواء كانت الشاشة كبيرة أم شاشة تلفزيون، فإن الشكل فيها يتحوّل إلى مضمون، فلا تعود مقنعة تلك الأدلة التي يسوقها أمام الشاب الملك الجديد، صحيح أن منطقه سليم، وحججه بيّنة، فلا يمكن امتطاء الماعز في الحروب بعد أن حُرمت قبيلة الزير «تغلب» من امتلاك الخيل وأدوات الحرب، غير أنّه يقول ذلك محني الظهر، مستنداً على عكّاز، ولحيته بيضاء.

إذا افترضنا أن تلك القصة اختلقها كاتب، أو مطوّرة جيلاً بعد جيل، فإن شخصيّة الحارث بن عباد تظهر فقط لتضع حلّاً للقصة، ولتعثر لها على نهاية. سالم الذي أمعن وأوغل في القتل، فعل ذلك من أجل هدف سام وقيمة عليا من بديهيات الحياة بين القبائل، ولأنّه ليس من المعقول أن يظل يثأر إلى ما لانهاية في طريقه إلى ثأره الرئيسي، وهو قتل جسّاس بن مرّة، فإنّه لا بد أن يقتله آخر المطاف، وعند قتله يتحقق الهدف الرئيسي للشخصية، وكقصّة كلاسيكية يعني الحصول على الهدف الرئيسي أن النهاية بدأت، أو بتعبير آخر الحل. إن سالم تمّكن أخيراً من جسّاس وقتله، فماذا بقي له أن يفعل ؟

هذه الإشكالية أدّت إلى ظهور ثأر جديد مضاد منذ أن قام بقتل «بجير» مبعوث السلام، حيث سيتحوّل الزير إلى شخصية مضادة، ستُنزع عنه البطولة، وهذا التفصيل ينفي عن العمل صفة العمل التراجيدي كما ينفي عن الزير صفة البطل التراجيدي؛ لن يموت ميتة عزيزة. إنّها من المرّات النادرة وربما المرة شبه الوحيدة تاريخياً التي تتحول فيها الشخصية الرئيسية، فجأة، إلى شخصية مضادة داعمة. لقد تحوّل من شخصية تسعى إلى الثأر، إلى شخصيّة أُخرى مفارقة مطلوبة للمثول فوراً أمام محكمة عرفية ثأرية.

ليس ثمّة ما يؤكّد أن تلك القصّة وقعت فعلاً، فالتاريخ الشفاهي ليس مؤهلاً من الناحية الوثائقية لتحرّي ذلك، كما أنّها قادمة من مرحلة تاريخية لمّا تكن القصّة فيها قد شقّت طريقها عن التأريخ، إنّنا في لغة زماننا هذا يمكن أن نسميها قصة السيرة الذاتية، أمّا في ذلك الزمان فإن القصّ والتاريخ لا ينفصمان، الملامح الطفيفة والفروق الواهية بينهما كانت في الشخصية، فالتاريخ الحديث لا يعترف بالشخصية التي هي العنصر الأساسي للقص، بل يتعامل مع البشر كأرقام ليس إلا. في حين انّه قلّما ظهرت أحداث التاريخ القديم بدون شخصية تحمل مواصفات الشخصية الأدبية، هذا يفسّر وثاقة الصلة بين الملوك والقصص؛ لدينا في جلجامش، طروادة، والأوديسة خير مثال على ذلك، وهي مسألة امتدّت إلى زمن متأخّر نسبياً، من أمثلتها مآسي شكسبير الكبرى التي تدور معظم أحداثها في أروقة القصور بين الملأ.

أدب شبه سحري

قد لا يكون من المجدي التساؤل عما إذا كانت قصّة مختلقة مكتوبة، أو تاريخا موثوقا. لأنها في المخيال الأدبي العربي تحظى بمكانة لا يُستهان بها، وتؤلّف جزءا من أدب شبه سحري يُدعى الجاهلي، يُمكن أن يوصف بأنّه اللحظة صفر لانطلاق الثقافة العربية القائمة أساساً على المنطوق اللغوي. إنّها لغة سيزيد من مكانتها وحظوتها عمّا قليل أنها ستصبح لغة دينية تمتلك صفة القداسة. ما يعني ثباتاً ورسوخاً لذلك الأدب، وأيضاً بقاءه مسموعاً ومقروءاً عبر الزمن، وفي قصّة قائمة أساساً على الثأر، وبتعبير آخر الانتقام هو الهدف الرئيسي للشخصية الرئيسية، ومصدر شعره، وسبب تحرّكه ومنبع سلوكه؛ تُصبح هذه القصة مثلاً أعلى يحتذى بين الجمهور الذي يتعاطى شخوصها، وهو جمهور يستطيع أن يتحاشى ظهور الحارث بن عباد كشخصية رئيسة جديدة برزت على حين ثأر جديد، وذلك قبل نهايتها بقليل عندما يتلقاها قراءةً أو شفاهةً، إذا كان قارئاً يمكنه إقصاء الصفحات القليلة الغريبة عن مواصفات شخصيته المحببة التي يتعاطف معها، وإذا كان «حكواتياً» في مقهى شعبي فلن يرغب بتكدير مزاج المستمعين الذين تحمّسوا طويلاً مع طعنات شاعرهم. لكنّ ممدوح عدوان في صيغته البصرية أمعن في إلغاء مكانة الشخصية الرئيسية بتكثيف بصري قصصي في آخر ساعتين من زمن القص الدرامي، ليجد الجمهور نفسه أمام قصّتين مفارقتين، واحدة قديمة عن شاعر بطل، وأُخرى جديدة راهنة، عن نفس الشخص وقد تحوّل إلى جبان يستجدي خصمه العجوز الضرير أن يطلق سراحه، في مكيدة قام بها وقد أخذ منه وعداً بالعفو عنه إذا أخبره أين الزير، ليفي العجوز الضرير بوعده، لكنه سيعلم أن الرجل المطروح أرضاً بين يدي جبروته، والذي يقبض عليه ويستنطقه عن مكان الزير إنّما هو نفسه الزير. ذلك الفعل الدرامي كان من الصعب أن يزيح صورة الفارس من الأذهان في حالتي القراءة والاستماع، نظراً لتعارضه مع صورة سابقة مفارقة جهد الخيال على رسمها، غير أنّه الآن على الشاشة، مرئي بأم العين، في الظلام، يهمس مستجدياً بصوت لم يكن ليُسمع من ثنايا السطور.

لقد نفى ممدوح عدوان بصرياً كل قيم الشعر والفروسية التي تمّيز شخصيّة من هذا النوع، لتغدو نقطة تحوّل الشخصيّة الجديدة أشد وطأة من القديمة، تلك طرأت حين عاش فجيعة مقتل أخيه الملك كليب وعزمه الثأر له، وبدأه بتنفيذ وعيده، أمّا الآن تتمثّل نقطة التحول في معنى مضاد تماماً، وتتجلّى في حالة كشف جديدة عن المواصفات الفعلية للشخصية، وهي صارت مواصفات جديدة راهنة، ليصبح العمل كلّه في خدمة مقولة جديدة، محددة، يستخلصها الجمهور، وهي مقولة نجح ممدوح عدوان في إيصالها، ليس لأنّه فقط شاعر وقاص أجاد التعامل مع شخصية المهلهل الذي هو بدوره شاعر وبطل قصصي، وليس أيضاً بسبب الجهد الشاق والمضني الذي بذله في كتابة النص، وإنّما كذلك لأنّه انطلق في ذلك المشروع الدرامي من مقولة إنسانية كثيفة يكشف عنها المهلهل قولاً وفعلاً: إن الولع بالثأر من شيم الجبناء.

(كاتب سوري)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى