بكر صدقيصفحات سورية

المسخ الجريح كأنه التاريخ ممتطياً صهوة برميل الـ TNT

بكر صدقي

لطالما شكَّلَ تشبيه النظام السوري بالوحش الجريح، الذي لا أتذكر من استخدمه أولاً، موضوعاً يثير التأمل. لنقل إن الذهن يستدعي هذا التشبيه بسهولة حين ينظر إلى سلوك النظام في مواجهة الثورة الشعبية، وهو سلوك من أفلت زمام المبادرة من يده، فأخذ يدافع عن وجوده دفاعاً مستميتاً بلا أفق وبلا خطة واضحة غير استخدام العنف بلا حدود أو ضوابط. عنف همجي بدائي يعزز التشبيه بالوحش الذي تحركه غريزة البقاء وحدها.

هذا المسخ البدائي الذي لا يتمالك نفسه من توثيق أفعاله الهمجية بالصوت والصورة ليتسنى لمشاهدي التلفزيون عبر العالم – وللأجيال القادمة أيضاً – أن تراه في لحظة الهياج منتشياً بدم ضحاياه، لا بد أنه يتجاوز ذاته الوضيعة إلى ما هو أكثر تجريداً من عائلة حاكمة من الأمّعات وأدواتها القمعية التافهة على وحشيتها. أريد القول إن هذا المسخ، هو بمعنى ما هيغلي المذاق، أداةٌ من أدوات التاريخ العمياء لاجتراح ما يعجز عن اجتراحه غيره. فكما شبه الفيلسوف الألماني نابوليون بونابرت بالتاريخ على صهوة حصان، قد يجوز لنا تشبيه المسخ السوري بالأداة الفريدة لتحقيق غايات الفاشية التي فات أوانها في تجليات انحطاطها الثلاث.

أعني بالفاشية في طور انحطاطها نزعات تجاوزها التاريخ البشري منذ وقت طويل، فتحولت إلى دين أو أديان لأفراد ومجموعات تنهش قلوبها عِنَّة الشيخوخة الفكرية والعجز المطلق. انطلق هؤلاء في عنفوان شبابهم من رغبة عارمة في التغيير وآمال عريضة بواقعية أحلامهم، فرأوا في أنفسهم النبي المختار الذي سيقود قاطرة التاريخ إلى غاياته المرسومة في فكرهم المشع. الحق أن هذا التوصيف يتجاوز النبوة إلى الألوهة، غير أن إلحادهم حمل بعضهم على الاكتفاء بمرتبة النبوة لإله مجرد هو التاريخ، في حين كان البعض الآخر يؤمن سراً بألوهته ولا يجرؤ على الإفشاء بها أمام العامة الذين أراد أصلاً “تحريرهم” من إيمانهم.

تشكل التيارات اليسارية القومية أو الإشتراكية على السواء، أول تجليات الفاشية في طور انحطاطها. تقوم كل من الأيديولوجيا القومية والشيوعية على نموذج نظري جاهز يراد هندسة المجتمع بما يتسق معه، فإذا شذ الواقع الاجتماعي عن هذا النموذج، وجبَ “طرقَهُ” ومواصلة طرقِهِ إلى أن يستوي مصقولاً كالفكرة المجردة التي انبثق منها، بما يشبه سرير بروكوست الشهير. هذه المطرقة تتمثل دائماً – للمفارقة – في أنظمة حكم دكتاتورية فظة وبدائية وفاسدة، من شأنها أن تثير اشمئزاز المفكر (أو التيار) الفاشي مهما بلغ بهما الانحطاط، وهما اللذان يريان في نفسيهما النبي المختار أو الإله الخالق.

هكذا رأينا التجلي الأقصى لانحطاط الإيديولوجيا القومية العربية في نظام صدام حسين الذي بلغت به “الألوهة” أن يجرد مقتلة فظيعة اختار لها اسم “الأنفال” بحمولته القرآنية الكثيفة (والقرآن عند المسلمين هو كلام الله). أما على الضفة الاشتراكية من اليسار فنظام السلالة السونغية المؤلهة في كوريا “الجمهورية الديموقراطية الشعبية” النووية، يقدم لنا الانكشاف الأقصى للفاشية الاصطفائية بمعناها البيولوجي المحض. فإذا جمع المفكر (أو التيار) مجد القومية والاشتراكية الماركسية معاً في وعاء واحد، رأيناه بسطوع مبهر في شخص “العربي الغاضب” الذي اضطر ذات مرة للكفر بنظام بشار الممانع ليبرئ ذمته من أفعاله، لكي يتسنى له الانقضاض على ثورة الشعب السوري مرتاح الضمير، تلك الثورة التي شذت عن مطرقته النظرية التي يخطئ التاريخ ولا تخطئ.

يجب أن أضيف أن هذا التيار لا ينظر إلى ثورات الشعوب أو أي من وقائع الزمان إلا من منظار “جيو – استراتيجي” أشبه برقعة الشطرنج، فلا تعدو المجتمعات والشعوب في نظرها أكثر من كونها بيادق تتحدد مصائرها وفقاً لخطة أصلية متعالية، ويمكن التضحية بها ببساطة شديدة عند الحاجة أو بما تقتضيه المشيئة الفاشية.

وتتجلى الفاشية في طور انحطاطها، ثانياً، في التيار العلماني الذي طالما كان هدفه تنوير المجتمع الجاهل المتخلف لانتشاله من ظلام الدين إلى نور العلم. بيد أن مكر التاريخ الواقعي خذله المرة بعد الأخرى. فبدلاً من انحسار دور الدين في المجتمع، ازداد قوةً باطراد، فاستحق هذا الأخير لعنة النبي الرائي. لكن ما يميز التيار العلماني عن غيره من وجوه انحطاط الفاشية إنما هو تناقضه الوجداني الداخلي. فمن جهة أولى يخرج صاحب الرؤيا على العالم برسالة تنوير الشعب، الأمر الذي يعني رفعه إلى مستواه. لذلك فهو يبتهج سراً لفشل مشروعه التنويري، لأنه من جهة ثانية يؤمن بفرادته وسموه وألوهته، فكيف لجمهور الرعاع أن يرتقي إلى مستواه ويزاحمه على الذروة، والذروة تعريفاً لا تحتمل المشاركة. هذا ما يدفع الرائي العلماني إلى الدفاع عن نابليونه الواقعي مهما بلغ هذا الأخير من امِّساخ. لا يسمع الرائي العلماني دوي انفجار البراميل الهابطة فوق الأبنية السكنية في المدن والقرى السورية، في حين تخدش رهافة أذنه تكبيرات المتظاهرين السلميين وارتفاع صوت الأذان من الجوامع.

تلعب البراميل المحشوة بمادة الـTNT بالذات دوراً حيوياً في الفاشية العلمانية (وكذلك في فاشية اليمين الغربي المعادي للإسلام، كما سنرى بعد قليل). فهي لا تكتفي بهدم العمران العشوائي “المخالف” للمواصفات القياسية لحداثة علمانية فاشية وحسب، بل كذلك تتخلص من أكبر عدد ممكن من الرعاع الذين يشوشون على المفكر الرائي هندسته الذهنية البارعة لمجتمع خال من الإيمان الديني المتخلف. وهم إذ يعاندون مقتضيات الحداثة والتنوير، لا يبقى من حل لهذا الشواش العميم إلا إفناءهم فيزيولوجياً.

وتشترك الفاشية العلمانية المحلية ونظيرتها الأوروبية في أمر آخر هو هاجس الحماية المزعومة للأقليات. في هذا الموقف التفاف خسيس على واقع الحال واستخدام أكثر خسة لأحد أركان الديموقراطية الحديثة. فأحد المعايير الأساسية للديموقراطية في أرقى أشكالها هو مدى احترامها للتنوع ولحقوق الجماعات الأقلية. بيد أن هذا المبدأ ينطلق من بداهة حصول الأكثرية على حقوقها، في حين أن الواقع السوري الملموس يشير إلى تهميش الأكثرية وتصدر الأقلية، إضافة إلى أن تاريخ الكيان السوري لم يشهد أي اضطهاد للأقليات بصفتهم الدينية أو الطائفية، بالطريقة التي اضطهدت بها أوروبا المسيحية يهودها في السابق، أو كما تفعل اليوم مع مسلميها.

ثالثة تجليات الفاشية في طور انحطاطها هي إذن اليمين الأوروبي المهجوس بفوبيا الإسلام والمسلمين. قام هذا التيار السائد اليوم في عالم الغرب على افتراض تماهٍ أصلي بين الإرهاب والإسلام كعقيدة وكمجتمعات بشرية، فضلاً عن العناصر الأخرى المنسوبة له كالتخلف الحضاري والانحطاط الأخلاقي وممانعة العقلانية والمعرفة وحقوق الإنسان الفرد وغيرها من أسس الحداثة الغربية.

مثله مثل التيار العلماني المحلي، لا يلوم اليمين الغربي حداثته على فشل رهاناتها في التحول إلى نموذج حضاري كوني معمم، بل يلوم “ممانعة” الآخرين له، وبخاصة العالم الإسلامي، في محاولة منه للتستر على استعادةٍ رجعية لصراع تكويني بين الغرب المسيحي في طور تكونه وصعوده والامبراطورية الإسلامية في طور انحسارها وانحطاطها في صورة الرجل المريض العثماني.

الواقع أن “زلات اللسان” المقصودة لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بصدد الأقليات في سوريا، تشير إلى أن الغرب ينهل من محفوظاته العتيقة في أرشيف البلقنة، كأي تلميذ كسول يأنف أي ابتكار. فمرةً يعبر الرجل عن خشيته من قيام “دولة سنية” إذا سقَطَ سَقْطُ المتاع الأثير على قلبه، ومرةً ينصِّبُ رامي براميل الـTNT هذا حامياً للأقليات “بما في ذلك الأقليات المسيحية”! يقول الديك الروسي الفصيح الفضاح.

….

نعم، لا يقاتل النظام السوري المتهالك دفاعاً عن ديمومة سلطته فقط، بل هو أيضاً فكرة مجردة إلى حد الفاشية. هو مسخ نابليون لفاشيات ثلاث في طور انحطاطها وامساخها إلى غربٍ يزداد طائفية وانغلاقاً على ذاته، وحداثةٍ تخلت عن كل عناصرها الإيجابية لصالح الهيمنة والغلبة العالمية، وعلمانيةٍ رؤيوية انحطت إلى براميل متفجرة فوق جوامع أثرية وكنائس تاريخية وبشر معاصرين يتوقون إلى الحرية والكرامة، وممانعةٍ قومية يسارية انحطت إلى إسلامية طائفية صريحة بقمصان سود في شوارع بيروت أو غضب ساطع ضد الامبريالية.

يطيب لي أن أتخيل المسخ السوري والتيارات الفاشية التي يمثلها ويذود عن حصونها، كلما ارتكب باسمه وباسمها مجزرة جديدة، وهو يقول بيأس: ما أكثرهم! كلما قتلتُ منهم المزيد، ازدادوا كثرة وتكاثراً. إنهم لا ينتهون! ماذا أفعل يا ربي؟!… يا الله مالي غيرك يا الله!

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى