صفحات العالم

المسرح الليبي

الياس خوري

يا ليته مسرحا، او فيلما، او مقتطفات من صور قديمة، هذا الذي تبثه الفضائيات العربية والعالمية منذ ثلاثة ايام.

لكنه الحقيقة العارية.

يا ليت العقيد كان ممثلا فقط، يقف على الخشبة محاطا بعصافيره، يهرج مثل اوبو الملك او يتعانى مثل كاليغولا. يضحكنا للحظة ثم يوقظ فينا الأسى.

لكننا امام حقيقة واضحة، طيران وصواريخ وقصف. ساركوزي استفاق لكرامته، وبرلسكوني صار محبا للعدالة! واوباما يعطي دروساً بليغة لسلفه الأحمق، والى آخره…

انها الحقيقة التي لا نستطيع ان نبتلعها، فليبيا ارض عربية، والأرض العربية تقصفها جيوش فرنسية وبريطانية وامريكية وايطالية وكندية.

والدوافع ليست بريئة على اي حال. كيف نفسر المشاركة الايطالية، وبرلسكوني هو توأم العقيد الليبي ويكاد يبزه في التهريج؟

التفسير الوحيد هو ان المستعمر الايطالي القديم، لا يستطيع ان لا يشارك في الاحتفال الدموي الليبي لأسباب تاريخية- كولونيالية حتى ولو داس على قلبه وعواطفه تجاه صديقه الليبي.

انها الحقيقة، صور قصف الطيران تذكّرنا بالعراق، يمتلىء ليل الصحراء بالمفرقعات، وحاملات الطائرات تجوب البحر، والصواريخ تتساقط.

لو كان مسرحاً او فيلما لقلنا ان الملك يموت، وان عقيد الجريمة يتداعى، وان الانحناء للأجانب ورفع القبضة الديكتاتورية الدموية في مواجهة الشعب، لم توصله الا الى حتفه. وفي النهاية رأوه يتداعى، فأسقطوه، كي يعطوا درساً جديداً للعملاء، بأن عمالتهم لا تحميهم الى الأبد.

لا نستطيع ان نستمع الى الكلام المكرر عن الغزو الاستعماري، فهذا هراء، لأن من انحنى للدول الاستعمارية واعطاها كل شيء، لا يستطيع ان يدّعي اليوم انه يدافع عن قضية الاستقلال. باع الديكتاتور روحه للشيطان، فجاء الشيطان كي يطلب منه تسديد الفاتورة الأخيرة.

لا نستطيع ان نصدّق نظاماً بني على الجريمة، وترعرع في الجريمة، ثم تحوّل الى مسرح هزلي ينسج نكاته بدماء الأبرياء.

المسألة قد تشبه في بعض جوانبها الصورة العراقية البائسة، لكنها تختلف عنها جذرياً.

في العراق جاء العملاء راكبين دبابات الاحتلال، واستبيحت الأرض، وتداعت بنية الدولة.

المشهد هنا يختلف.

التدخل يأتي في سياق آخر. هذا لا يعني ان المتدخلين هم اصحاب نوايا حسنة. كل الدول الأوروبية اضافة الى الولايات المتحدة تواطأت ودعمت الديكتاتوريات، لذا لا يحق لها ان تعطي احدا دروساً في الديموقراطية.

هناك اكثر من نقطة فرق بين الوضعين، لكنني سأتوقف عند نقطتين اعتبرهما الأكثر أهمية.

يأتي هذا التدخل اولا وسط ما يشبه حافة المذبحة التي تتهدد الشعب الليبي. لقد نجح الديكتاتور في استيعاب الصدمة الكبرى التي صنعها شباب الثورة الليبية، حشد مرتزقته وحوّل انتفاضة شعبية سلمية الى ما يشبه الحرب الأهلية. ولعب نجله ‘الدكتور الأنكليزي’ دورا اساسياً في التعبئة والتذاكي. كانت ليبيا في ميدان التحرير، فأخذها العقيد الى المذبحة. من هنا صار التدخل مبرراً، بل ضرورياً لوقف جريمة بدأ العقيد في ارتكابها، منذ اللحظة الأولى، وحولها الى مجزرة.

ويأتي هذا التدخل ثانياً وسط ثورة شعبية حقيقية في ليبيا. هناك شعب انتفض لكرامته وحريته، وهذا ليس تفصيلا، ولا يمكن ان يترك هذا الشعب كي يذبح.

الثورة الليبية هي الموضوع.

واذا كنا لا نملك الثقة بالمتدخلين الغربيين، ويجب ان لا نتوقف عن التشكيك في نواياهم، فاننا لا نستطيع ان لا نضع كل ثقتنا، في شباب الثورة الليبية.

الثورة الليبية هي المسألة، ونحن على ثقة بأن من انتفض ضد الديكتاتور، لن يسمح لأحد بأن يتلاعب بمصيره، ولن يسمح للقوى الكولونيالية بالعودة من جديد.

هذان الفرقان الكبيران، يخرجاننا من اسر ذاكرة الهزائم والكوارث. وهنا يجب ان يتركز النقاش. لا نستطيع الا ان نكون مع الثورة الليبية، ولا نستطيع ان لا نضع ثقتنا بها.

بالطبع يحتمل الوضع تعقيدات عديدة، وهناك احتمالات شتى، لكن السؤال الجوهري لا يرتبط فقط بمصير الثورة الليبية، بل يرتبط بمصير هذا الموج الثوري الزاحف، من الشام الى بنغازي، ومن تونس ومصر الى كل ارض العرب.

قال صديقي احمد، ان علينا ان نضع ثقتنا في الثوار الليبيين. واحمد على حقّ، لا نستطيع ونحن نرى عاصفة ميدان التحرير تتحوّل الى رياح عاتية تشعل العالم العربي باحتمالات الحرية والتحرير الا ان نكون مع اهل الميدان، ونصير جزءا منهم.

الميدان في ليبيا هو بنغازي، هناك سيتقرر مصير ليبيا، وفي ايدي ابناء ميادينها سيكون مصير ليبيا.

الثورة العربية الجديدة دخلت منعطفا خطيرا منذ ثلاثة ايام، لكنها تتقدم. حتى مع النجاح المؤقت للنظام السعودي في احتلال ميدان البحرين، فان الرياح تهبّ من اليمن، ولن تستطيع الرشوة الممتزجة بالدم، ان تصد الثورة، مهما كان النظام عاتيا وقمعيا.

اما المنعطف الأكبر فسيكون في الشام، في قلب العروبة الذي ينبض اليوم باحتمالات الحرية.

انها مرحلة التغيير، وما على الطـــــغاة سوى الرحــــيل طوعــــا، كي يقدموا خدمة وحيدة لأوطان باعوها وتاجروا بها ودمروها طويلا.

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى